العزومة/ قصة قصيرة لفكري داود العزومة* عندما ختم الولد (راضي)، ابن الكفر المجاور لقريتنا، الجزء العشرين من القرآن، حمل جده إلى شيخنا، الدعوة على الغذاء، لابد من الغذاء في دار الولد نفسه، وأمام أمه التي لها أخوان متعلمان، عرفتْ منهما و بهما، أن تعليم الولد راضي، وحفظه للقرآن الكريم، لا يُقَّدَر بمال، وفي سبيله تهون رقاب ذكورة البط كلها، بل و ذكورة الإوز، وليس معنى هذه البطة الحية، التي جاء بها الجد، وهو قادم إلى الشيخ، أن تضيع دعوة الغذاء، بدار الولد في الكفر، لتكن البطة الحية، غذاءً لامرأة الشيخ ولأمها، القابعة بالحجرة المعتمة ،إلى جوار سلم الدار. ولي بالطبع في العزومة نصيب، ويد الشيخ ـ غالبا ـ ،لا تروح فارغة من يدي، والمرة هذه ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة، سبقتها عزومة ختم الولد للجزء الخامس، ثم أخرى بعد الجزء العاشر، ثم ثالثة بعد الخامس عشر، وهذه بعد ختمه للجزء العشرين، وبقت اثنتان: واحدة بعد الخامس والعشرين، وأخرى كبيرة ً بعد الجزء الثلاثين والأخير، حيث يتم ختم القرآن تماماً، ويستوجب الأمر، أن يتخذ تحفيظه منحى جديداً، وطريقة حاذقة للمراجعة، لئلا تهجر الآيات صدره. حمَّل شيخي جد راضي، بوعد مؤكد بالقدوم، وفي يده الولد؛ يعرف الجد بأنني الولد المعنى، كما يعرف مدى قربى الروحي من ابنهم، رغم حرصي على التمسك، بمكانتي المميزة لدى الشيخ. أحس في ابتسامة الجد بالود الكثير، نادبا حظي، لعدم إدراكي لجدي في حياته، يقول والدي بأسى: إنه مات وهو ـ أي والدي ـ لم يزل طفلاً، لا يعي الدنيا كم (مزبلة)، ولا أدرى لا أنا ولا هو ـ على ما أعتقد ـ حتى اليوم، كم مزبلة للدنيا، وما علاقة المزابل هذه بمسألة الموت. بمسجد العشري وسط البلد، انهينا صلاة الظهر، عند الكوبري انتظرنا قليلاً، علَّنا نَتَسَلَّفُ جحشة، نروح عليها ثم نعود، أو لعل (عربجيا) يرق لحال الشيخ، فيتكفل بتوصيلنا، إلاَّ أن كل هذا ذهب هباءً. فوق السكة الترابية، الموازية لسكة الأسفلت، اتخذت خطواتنا طريقها، لا يفصل بين السكتين، سوى مجرى الترعة الراكد، في يد شيخي تنام يدي، يحادث نفسه عديد المرات، لا أستبين له حديثاً، وقد أستبين حينا، لكنها استبانة مَنْ لا يتوجه إليه الحديث، لذا ألزم الصمت. في كل مرة نسلك نفس المسالك، ونتبع نفس الوقائع: انتظار عند الكوبري دون جدوى، سَيْرٌ متواتر فوق تلك السكة، كثيفة التراب، عن يسارنا مجرى الترعة، وسكة الأسفلت، وعن يميننا أرض منزرعة، تنخفض كثيراً عن مستوى خطواتنا، ترنو عينه الوحيدة السليمة، إلى حبات الخيار الوليدة، وكرات الطماطم الحمراء، فوق مصاطب الأرض، يفاجئني طلبه بالنزول، والتقاط بعضها، يصيبني التردد، يعيد عليَّ الطلب، تفارق كفي كفه، دون أن تتحرك خطواتي نحو الأرض، يقول ممثلا الجد: لا تجبن أو تخف، فلا خفير هنا ولا أمير. أقول بتردد كبير: أنت من أخبرني مراراً، ألاَّ آخذ شيئاً ليس لي، إلاَّ بعد استئذان صاحبه. يتوقف تماماً، يجلس القرفصاء، دون أن تلامس مؤخرته الأرض، تعيد كفه القبض على كفي، يجذبني جذبة حانية، يطبع قبلة فوق جبيني، داعياً لي بدوام القناعة، طالباً من الله أن يمنحني بركاته، داعياً وهو بين الزرع والماء، من تحته تراب ساخن ومن فوقه السماء؛ أن يرزقه الله، بولد مثل هذا الولد، الذي هو أنا... يتملكني الفرح، لاجتيازي هذا الاختبار، وأمتلك أسبابا جديدة، لاستيلائه على نياط قلبي، مستعداً للهلاك، من أجل أن يرزقه الله، هذا الولد الذي يريد. إلى دار راضي أقدامنا معتادة، نصل دون سؤال أحد، فوق وجه أمه يتلألأ البِشْرُ، تسلم على الشيخ بحرارة، وتقدير يصل إلى درجة الخشوع، وتُدخلني في صدرها، كما تُدخلني أمي، حال رضاها عني، لفعل فعلته تراه طيباً، تمتليء خياشيمي برائحة الطبيخ، مختلطة برائحة الحِلْبَة، المنبعثة من الحَلَّة الصغيرة، التي تغلي فوق وابور الجاز، الكائن وسط ردهة الدار. نجدد تعرُّفَنا على خاليَّ الولد، حيث يعمل أحدهما بالأزهر، و يعمل الثاني بالمحكمة الشرعية، مسميين لم يصل إلى فهمي معناهما آنئذ. لا تفارق أذنيّ الشيخ، كلمات الترحيب المُرْسَلة، من الخالين ومن الجد، ومن الأم، التي تدمع للحظات، تعبيرا عن حزنها، لعدم تواجد رَجُلها ـ المرحوم ـ، في هذه المناسبة العظيمة. تمسح يدها، في طرف جلبابها الواسع ذابل الزهور، ومن علبة البلاستيك القديمة، تلقى في كفها بحفنة السكر، تسارع بإلقائها، وسط حلة الحلبة الفائرة، و قبل إطفاء الوابور، تملأ كوبين ـ أحدهما صغير ـ، بالسائل الأصفر الساخن، تغوص بمعلقة كبيرة طويلة اليد، في قلب الحلة، وتخرج بها ملأى بالحب الأصفر، تضع ثلاثاً منها بكوب الشيخ، وواحدة بكوبي الصغير، تفرغ من الكوبين، ينادي الشيخ على الولد راضي، يطلب من أحد خاليه، الإمساك بالمصحف والتسميع له، فيفعل أحدهما ذلك على استحياء، ولما يتأكد من حفظ الولد المتقن، يضع المصحف جانباً وهو يقول: فتح الله عليك يا مولانا، وهل يمكن المراجعة بعدك؟ ينادي أخته: الأكل يا أم العريس. تقول: خلاص يا (خويا). تشير إلى حجرة قريبة، اعتدنا الغذاء فيها، في المرات السابقة، فوق الطبلية تمتد صينية النحاس الصفراء، فوقها حلتان، بإحداهما الأرز الملدن، وبالثانية يرقد ذكر البط بحوائجه. إلى الحجرة يسبقني الشيخ، يسارع أحد الخالين، برد بابها علينا، ومع الذَّكَر تصير لنا صولات، لا تمتد أيدينا إلى الأرز الملدن، إلاَّ لِمَامَاً، تصعد يد الشيخ إلى فمي باللحم، أكثر مما تصعد يدي، نحبس بحبتي برتقال، وكوبيين جديدين من الحلبة،... يصر الجد، على التنازل عن جحشته، لنعود عليها، فيتمسك الشيخ بالرفض؛ فلن يرضيهً أن يركب هو والجد ويتركاني أسير، وليس معقولاً أن نركب أنا وهو، ونترك الجد، ولو أخذنا الجحشة وحدنا ـ دون الجد ـ، لتبيت معنا، فأين تقضي ليلتها؟ ومن أين لنا بعلفها؟ ـ هكذا يقول الشيخ ـ. مع انتصاف طريق العودة تقريباً، انفتح فم الشيخ لأول مرةّ، قال: اللهم دمها نعمة، واحفظها من الزوال. واصل: ذَكَر بط عظيم، (فينك) يا غزلان. إنها من المرات النادرة، التي يذكر فيها امرأته في غيبتها. قُرب حقل الخيار والطماطم، لمحنا صاحب الأرض، خطواته في طريقتا، وخطواتنا في طريقه، وبمجرد أن تحاذينا، بادره الشيخ بإلقاء السلام، ثم توجه نحوي قائلاً: ها هو صاحب الأرض، ما رأيك لو تنزل تجيب، شوية خيار على طماطم لامرأة شيخك؟ امرأة شيخي؟! راحت عيناي آلياً نحو صاحب الأرض، رفع الرجل حاجبيه، قال دون تردد: طبعا انزل. وبينما أنا أهم بالنزول، امتدت شفتاي إلى الأمام، وارتفعت كتفاي قليلا، قرب شحمتيّ أذنيّ، وذلك ردا على سؤال شيخي المفاجيء: ترى متى تأتي، عزومة ختم الولد راضي للقرآن؟ ــــــــــــــــــــــ *القصة تنشر لأول مرة، وهي ضمن مجموعة قصصية جديدة للكاتب تحت النشر. ـــــــــــــــــــــ فكري داود عضو اتحاد كتاب مصر عضو نادي القصة يبالقاهرة عضو اتحاد كتاب الإنترنت العرب عضو الأمانة العامة لمؤتمر أدباء مصر العام |