قراءة فى " عام جبلى جديد " لفكرى داوود
هل نال الحيوان حقه فى السرد الروائى العربى ؟
" لا تزال نواتج الأدب العربى تكاد تكون خاوية من حيوانها الخاص ، أى أن هذا النتاج الروائى الضخم لا يتضمن نسبة معقولة من الحيوانات المؤثرة فى النص " بهذه العبارة التى ترتسم فيها سخرية الأديب الراحل محمد مستجاب فى مقاله " باب فى الحيوان الروائى " بكتابه " أمير الانتقام الحديث " متناولا أسباب قلة الحيوان فى سردنا الحديث ، معللا ذلك بسبب وحيد وجيه هو إقامة المبدعين فى المدن ، وتحول الريف إلى المدنية ، فلا يتصور احد أن الحوت سوف يواجه نجيب محفوظ على شاطىء الاسكندرية ، او أن جملا هائما سوف يداهم بيت جمال الغيطانى ، أو أن يوسف القعيد سوف يدخل الحمام قبل الفجر ؛ ليفاجأ بقرد يعبث فى رافعة السيفون " ولكن " فكرى داود عاش هذه التجربة ، أعنى التعبير عن الحيوان فى الرواية تعبيرا عادلا . - ثلاثية روائية : الرواية هى الجزء الثانى من ثلاثية روائية متصلة منفصلة للكاتب فكرى داود ، يجمعها هم التعبير عن الغربة التى بدأت برواية " وقائع جبلية " التى كتبت عام 2001م وصدرت عام 2007م ثم روايتنا " عام جبلى جديد " التى كتبت عام 2006م وطبعت فى نفس العام ، وهناك رواية تكمل الثلاثية بعنوان " المحارم " تدور حول الرجال الذين يصحبون زوجاتهم العاملات فى الدول العربية – خاصة السعودية - مسجلا صفحة متكررة فى الواقع خافية تماما فى السرد الروائى . فى العمل الأول – المتعاقدون – نجد " عبد البديع " مسافرا إلى محافظة بدوية جبلية فى سيارة نصف نقل ، تعود به الذاكرة الى أيام تألقه كمعلم بين طلاب يحبهم ويقدرونه ، وتتداعى تذكاراته ، حتى يصل لمكان العمل الجديد ، فيبدأ فى تصوير حياة المتعاقدين وحياناتهم وخيباتهم وخوفهم وآلامهم ، حتى يصل بنا الكاتب للحظة العودة بعد عام من المعاناة والتذكار الممض ....... لننتقل فى الرواية التى بين أيدينا – عام جبلى جديد – مستكملين رحلة الإعارة ، تبدأ اللحظة الولى فى الديرة – القرية – الجبلية ، هنا راو بعكس العمل الأول الذى تلقيناه عبر السارد الثالث "الهو " نحن هنا مع الحاكى وفالح وسعود ، وحسين وصلاح ، والديرة الجبلية التى تبعد مائة كيلو مترا عن أقرب تليفون ، هذه القرية التى تنتظر الماء ، يشاء القدر للمتعاقدين أن يمضوا فيها عاما جبليا جديدا ، تلقى بهم متاعب النفس إلى جزر منعزلة ، تكاد تلقى بكل منهم على شواطىء الجنون ، فالراوى يعيش مع صورة ابنته الصغرى ، بينما "حسين " القاهرى – يسلم نفسه للصمت ، ثم يبدأ مسيرة إقامة حياة بديلة لمخلوقات من طين يصنعها – وهو القاهرى – من تراب ناعم وماء ، مكونا من الطين حياة بديلة لأهله ، ويضع عائلته الوهمية على رف مواجه لسريره ، بينما " صلاح " – وهو الصعيدى – يبدع فى رسم لوحات فنية يحملها آلامه ، يرسم نعش أبيه يتوسط المشيعين ، الحجرة تزدحم باللوحات ، ويقترح عليه أحدهم رسم قرد الديرة الذى يشاع أنه على علاقة بـ " صابحة " راعية الغنم ، وحين تتم اللوحة ، يهاجم القرود المكان ، ويمزقون اللوحة . أما " سعود " صديقهم ، فهو واحة فى هجير الصحراء ، بروحه الطيبة الخيرة ، بصراعاته الدائمة مع القردود ، بحكاياته عنهم التى لا تنتهى ، حتى هاجمته إحدى إناثهم أثناء غفوة ظهيرة ، فأطاحت – كما يتوهم - برجولته ، وحين يصيب طلقه النارى عين زعيم القرود ، يفاجأ بهجوم قردى يرى من خلاله " صبيحة " خالة البنت صالحة ، التى غابت من سنوات إلى حضن القرود الوسيع ، ثم ننشغل بعلاقة حب بين بنت القرود السمراء وابن كبير شمبانزية الديرة ، وكيف انتهى الأمر بهروبهما ، وامتداد الشك لدى القرود نحو " سعود " الذى سبق وأقنع قردا بالهروب من عشيرته ، والعيش معه ، وأطلق عليه اسما – ظافر – وعلمه الكثير ، وكاد يعلمه ضرب النار ، لكن عشيرة القرود سبقته وقتلت قردهم الخائن ، ثم يهاجم الرجال قبيلة القرود ويأسرون نسناسا صغيرا يفشل سعود فى استئناسه مما يدفعه لاستحضار كلب وولف ، لكن القرود تختطفه ويتحول هو لمعسكر الأعداء ، ثم نلحظ موضة إقامة المباريات عند القردة ، وتمضى الأيام بالجميع ويتزوج " سعود " من صالحة ، تلك المتهمة السابقة بالقرد ، ويستعد المتعاقدون للعودة وقد " انتظم صفان قرديان على مؤخراتهم ، يرتكزون ، ترتفع أكفهم المشعرة نحو أعينهم الدامعة " . - طرح بلا سبق : أتصور أن رواية " عام جبلى جديد " تخوض نهرا لم يسبح فيه أحد قبله ، نهر لم يؤمه الروائيون كثيرا ، أعنى طرح الدور الروائى للحيوان ، فالحيوان فى هذه الرواية " فاعل " لا مفعول به كالعادة ، حيث يقف ندا للإنسان ، بل يبادؤه بالفعل ، حتى يصير الإنسان صاحب رد الفعل ، والحق أن الروايات العصرية التى تعاملت مع الحيوان كثيرة ، لكن الكيفية تختلف تماما ، لاختلاف البيئة المعبر عنها فى الأساس ، إن تجربة الغربى التى تعبر عنها الرواية لم تعد بنفس ألقها القديم ، حيث أفقدها التكرار خصوصيتها ، وألقى بها إلى العادية التى لا تصلح للفن ، إلا بيد نحات ماهر ينحت المشاعر فى المقام الأول . والواقع أن الأدب العربى – الشعبى منه خاصة – قد غرق تماما فى السرد الحيوانى ، بل يقرر " فوزى العنتيل " ان حكاية الحيوان أقدم الحكايات على وجه الأرض ، وسنجدها لدى العرب فى كتاب الأمثال للسدوسى المتوفى عام 195هـ ، بل سنجد وجودا قويا للحيوان فى القصص الدينى ، ثم جاءت " كليلة ودمنة " لتصبح منارا يستضىء به أهل السرد فى الدنيا كلها ، مثل " سهل بن داوود الذى اصطنع كتابا سماه "ثعلة وعفراء " ثم أخرج " على بن داود وكذلك ألف أبو عبد الله محمد بن القاسم القرشي ، المعروف بابن ظفر ،كتاباً بعنوان (سلوك المطاع في عدوان الطباع) ، وذلك على غرار كليلة ودمنة .ثم انداح فيض الحكى الحيوانى – كما فصّل ذلك الدكتور غنيمى هلال والدكتور عبد الرازق حميدة وغيرهما ، وفى كافة التصنيفات للحكاية الشعبية ، يقبع الحيوان فى مقدمة الترتيب ، بل إن اهم ما يميز المرحلة الثانية فى تاريخ البشرية فى رأى " أنجلز - هو أن الشرق – العالم القديم – قد أخذ فى تدجين الحيوانات البيئية - كما يذكر الدكتور صلاح الراوى ، بل ينبه العلامة فاروق خورشيد إلى نسج الخيال الشعبى لكائنات خرافية مثل الغول والعنقاء والخل الوفى ، وظهرت وحوش لها أجنحة ، وحيات تتكلم ... وهو عكس ما طرحه " فكرة داوود " فالرواية تطرح أبعادا للتعايش بين البشر والحيوانات ، والتأثير المتبادل الذى يمارسه الطرفان ، بل إن الفعل الإنسانى فى الرواية قد يكون رد فعل لتصرف حيوانى ، على سبيل المثال نجد الراوى يتذكر طفلته حين " تتعلق عيناه بحسناء القرود الوليدة ، تطرحها امها حانية فوق الظهر ، .... تقطف الأم الحبات ، تنزع أسنانها قشرة الثمرة ، تدفع بها داخل الفم الصغير ، تلوح فى عيونهما نظرات الحب " ثم على المستوى الإنسانى فى السطر التالى مباشرة : " فوق موكيت الصالة ترفعها يداى ، تتأبط ساقاها جنبى خشية السقوط ، تخلص أصابعى حبات الفول السودانى من قشورها .." هذا التماثل فى الفعل يتكرر ؛ ليمنح الحيوان دورا روائيا جديدا فى الأدب العربى ، سنجد الدمعة الوحيدة التى ترقرقت فى عينى " سعود " كانت مقترنة بذكرى القرد " ظافر " ثم يدخل الحيوان كعامل مفرق حين يقارن الراوى بين أطفال الطين الذين يصنعهم زميله ، وبين الصور التى يحتفظ بها لأولاده ، ثم ... " تمتلىء عيناى حسرة بمشهد إحدى الأسر القردية ملمومة الشمل " هكذا تحدث المفارقة بين جنسين مختلفين ، حتى زرع الحيوان فى نفوس البشر ، بل سنجد فصلا بعنوان " قرد الديرة " يصور فيه الراوى اللوحة التى رسمها صديقه صلاح لقرد الديرة ، وتصوره لهذا الكائن المرعب ، حيث مؤخرته تمتد بامتداد الصحراء ، عيناه بئران عميقان ، عقيرة ظهره إحدى قمم الجبل متعدد الرؤوس ، إلخ ، بل هناك كا يشبه التوحد أحيانا بين السلوكين (البشرى والقردى ) فبينما يهرب سعود والراوى من حديث السياسة ، يهرب القرد من حجر " حسين " ، وكأن السياسة بمثابة الحجر الذى يطارد المتجرئين على الكلام . واستمرارا للتماثل ، سنجد فى أواخر الرواية حادثا ينتج عنه سقوط حجر كبير فوق النصف الأسفل لقرد غافل ، نتج عنه ما يشبه الشلل فى قدميه ، وصارت أماميتاه كآلتى جر ، وهنا يقدم حسين خبرا " بشريا " مماثلا : فتح جلبابه ، رنا إلى نماذج الولد الطينية ، قال : البكرى .. دهست سيارة نصفه الأسفل . البنية المتقافزة : إن كافة العاومل البنائية فى الرواية ، نستطيع تفسيرها حين نربط بينها وبين الحضور الحيوانى الحدثى ، فشخصية " فالح " المسطحة الميتة ، التى شغلت فراغ غياب سعود لعدة أيام ، شخصية لا أبعاد لها ، لأنها تخلو من علاقة مميزة مع الكائن المعاشر لهم – القرود – شخصية رجل متوحد مع ذاته مع " حلاله " أغنامه ، بينما الشخصية المقابلة لها هى شخصية " سعود " الحية النابضة التى تأخذ حضورها من علاقته المكثفة متعددة الأدوار بالحيوان ، فصالحة التى سيتزوجها قبيل انتهاء الرواية يشاع أنها على علاقة بقرد الديرة ، وخالتها المختفية ، تعود له مع القرود لتنتقم معهم منه ، كذلك علاقته بالكلب الوولف ، وبالقرد ظافر ... إن الحيوان قد أثرى الرواية التى خاضت فى مسألة الغربة التى كادت تفقد قدرتها على تقديم خصوصية ما فى الوقت الحاضر ، نظرا لتكرارها ، وربما نفسر ضعف الإشارة لعالم التلاميذ ، بانشغال الرواية باكتشاف عالم أكثر عجبا هو عالم القرود ، بعجائبيته وغرائبيته الشديدة . وقد استخدم الكاتب أسلوبا مخالفا للجزء الأول من الرواية – وقائع جبلية – حيث اتكأ على طريقة بناء تقوم على حكايات متوالية ، بينما اعتمد فى الأولى على الفصول المرتبة رقميا ، هنا تتسع النكهة الحكائية المصاغة بأسلوب يقترب من الطريقة الشعبية – وأحيانا التراثية – مضفرا إياها ببعض الكتب كنهاية الأرب مثلا ، فيبدأ بـ وقائع ارتحال سعود بن عايض " ثم " الدنيا من فوق برميل مقلوب " ... إن البنية هنا غير ثابتة ، بنية متقافزة بفعل تقافز القرود بلا ناقطاع ، اختار فكرى داوود مخالفة بنية العمل الأول فى كافة معالم العمل ( السارد – البناء – التقسيم – اللغة ...) ومن هنا كان اختيار بنية أقرب لروح الحكى الشعبى الذى يستجيب أسرع للغرائبية ، ورغم ذلك لم يسقط إيقاع العمل لحظة من كاتبه ، وذلك لاعتماده على تجربة شديدة الثراء والخصوصية والصدق ، عبر لغة مصفاة محكومة بصرامة قاسية ومن خلال منح اللغة أقصى طاقاتها العاطفية ( تدفع أيدينا قاطرات الليل المسودة ، جادين فى القضاء على يوم يمر ، يبعدنا عن البعاد خطوة ، ليدنو بنا من شواطىء اللقيا ) ورغم ارتفاعا الهاجس البلاغى أحيانا فقد جاءت البلاغة حاملة جمالياتها الخاصة ، من خلال الإيجاز اللغوى الذى حققه فكرى داوود بعدة سبل ، ربما أهمها التقديم الفنى والتأخير كسمة أسلوبية صاخبة فى لغة الكاتب ( كعنزة كسيحة مرت الأيام ) ( متباه هو برؤوسه المتعددة ) كذلك الحذف ابلاغى ، فيحذف الفاعل ، ويحذف أحيانا الخبر ، ويحذف الوصف فى براعة ، كما تتناسب تشبيهاته وبيئة عمله ، ويعتمد لغة إشارية أمنت الرواية من شرك الإملال ( ها هو الظهر الأنثوى مسلما نفسه للأرض – ككل مرة – وبين الساقين منتشيا ينام جرم حيوانى فتى ) هذه اللغة الإشارية الشاعرية الموجزة منحت للعمل تميزه ، فقد قدم " فكرى داود " عملا مكتوبا بوعى شديد ، وصبر أشد . مجلة أدب ونقد (المصرية) أغسطس 2009العد88 مجلة الفصول الأربعة (الليبية) أغسطس2009العد14