المحاضرة الأولى
~~
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب
هدًى وذكرى لإولي الألباب
وأودعه من البدائع العجب العُجاب
وجعله حاملا للأحرف السبعة وكمال الشرعة وفصل الخطاب
وصانه من شين اللحن وطروء المحو ومن كل ما يستراب
وجعله آيته على امتداد الأحقاب
مصداقا لقوله المجيد
:" سنريهم آياتنا في الأفاق
وفي أنفسهم حتى يتبين لهم انه الحق
أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد "
وصلاة ربي وسلامه على من تلقى الوحي من ربه قرآنا ..
وتنزل اليه في مدى عمره نجوما فرقانا
وسُطر باذنه كتابا وديوانا ..
وأقام صرحه بين يديه فجاء سامقا بنيانه ..
حتى استوى على سوقه ..
وسعِدت الدنيا بأنوار شروقه ..
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله ..
وشرِّف وعظِّم ..
وبعد :
قال تعالى : " إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم "
ولم يقل " ذلك " اشارة قوية فيها الى قرب هذه الهداية ويسرها ..
على خلاف ما جاء في سورة البقرة :" ذلك الكتاب لا ريب .."
فلهذا مقام ولتلك مقام ..
وقال أهل العلم بالبلاغة " مراعاة المقام شرط في بلاغة الكلام "
قال عليه الصلاة والسلام :" إن الله ليرفع بهذا القرآن أقواما ويضع به آخرين "
االله يدعونا الى مأدبته ..
يقدم لنا شيئا اسمه روحا من أمره
على طبق من مادة نور من سر هدايته ..
يشير الى ذلك قوله تعالى : " كذلك أوحينا اليك روحا ًمن أمرنا
ماكنت تدري ما الكتاب ولا الايمان
ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا .."
قال تعالى :" الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب
ولم يجعل له عوجا .."
تولَّ عنا الحمد إذ علم عجزنا عن حمده ..
وعلمنا صيغة تفضح عن هذا العجز " الحمد لله "
ويواسينا البلاغيون حين يقولون " خبر يراد به الانشاء "
أي نحمد الله على ذلك بالصيغة التي علمتنا ..
كما في قولنا " اللهم صل على سيدنا محمد .."
أي اللهم تول هذه الصلاة عنا ..
عجزٌ في مقام الثناء على نبيه و عجزٌ عن حمده ..
والاعتراف بهذا العجز مقدمة الولوج اليه ..
لا بل ومقدمة العروج ..
يلفتُ نظر المتدبر في الكتاب الكريم استهلالان :
1- استهلال بما افتتح به الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم
" وحي الفرقان "
ومن أول ما افتتح به الوحي الفرقان قوله تعالى
" اقرأ باسم ربك الذي خلق "
يجتمع به خطاب التكوين وخطاب الشرع ..
" اقرأ" أي استعد للوحي .. استعد للقراءة ..
وقد جئنا بهذا الفهم من قول أهل اللغة :
" ويطلق الفعل على المباشر كذا على مقارب وناشر "
والقارئ في لغة العرب والقرآن كثيرا ما يراد به " الحافظ "
كما ورد في الحديث :" يؤمكم أقرؤكم "
أي أحفظكم ..
بل كان يطلق القارئ على " العارف بالكتاب حفظا وتأويلا "
حتى قال الامام مالك رحمه الله وقد سئل عن " يؤمكم اقرؤكم "
فقال : أفقهكم ..!
والقراءة لا تورث الفقه
" ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب الا أماني "
أي مجرد قراءة أمنية ..
قال الشاعر :
" تمنى كتاب الله أول الليل وآخره لاقى حمام المقادير "
تمنى = قرأ
وقال تعالى :" وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي
الا اذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته .."
تمنى = قرأ
تسمى جملة القرآن بناء على فاتحة الوحي الفرقاني " قرآناً "
على وزن " فعلان " "غفران " من مصدر القراءة ..
أي هو الوحيد الجدير بالقراءة .
قال تعالى :" فاعلم أنه لا إله الا الله .."
بدأ بالعلم من اجل قضية عظيمة وهي قضية التوحيد
فما بالك بما دونها ..!!
كما قال " وليعلم الذين اوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم .."
فرتب المدارج على ماينبغي أن يكون عليه التلقي ..
" العلم فالايمان فالاخبات .."
"اقرأ باسم ربك الذي خلق "
يشير أهل العلم إلى تعلق القراءة باسم الرب
يفيد ان تربيتك لاتتيسر من غير مدخل العلم والمعرفة
" اقرأ لتتربى "
لابد ان يكون للعلم غاية عالية وشريفة تناسبه ..
فابراز عنوان الربوبية في تعلق مطلب القراءة
في هذا المعنى
" اقرأ باسم ربك الذي رباك فخلقك واقرأ لتتربي بهذه القراءة "
ويؤيد هذا مابعد هذه الآية
" الذي خلق .. خلق الانسان من علق .."
ووصف االله بالخالق والتنصيص على منشأ الخلق " من علق "
أي منه كان هذا الخلق السوي
بتربية الله في أطوار اشارة الى مسالتين :
* أن في هذا العلم تكتمل في سرِّك
كما اكتملت بخلق الله في صورتك ..
فالذي كرمك وسواك صورة ..
هو الذي كملك بانزال الكتاب سيرة ..
*وفيها اشارة اخرى أن الانسان بالعلم يولد ميلادا آخر ..!
ومما ميز الله الانسان في صورته
ليدل على مايراد له من سيرته أنه خلق منتصبا وحده ..
" أفمن يمشي مكبا على وجهه امن يمشي سويا على صراط مستقيم ..".
الاستهلال الثاني : كلُّ فصل مستهل بمعنى الاستهلال الفرقاني
" بسم الله الرحمن الرحيم "
في معنى" اقرأ باسم ربك"
" بسم الله الرحمن الرحيم " في العنونة بهذا الاسم
ينتبه الى مسألتين :
1- تقدير متعلق الجار والمجرور وهو متأخر لافادة الحصر .
2- تقدير بـ " اقرأ " لأن المقام هنا مقام تلاوة ..
" اقرأ , تدبر " تدبر: تكلّف تتبع الشيء الى ادباره " أخره "
قال أهل العلم : " لمن يتدبر القرآن عليه أن لايغفل شيئا من آياته ..
والايات يمكن ردها الى جوانب أربعة
:" ملامح آيات النظم , الحكم , الرسم , العلم "
وله بكل من هذه الاقسام علم ..
فهو القرآن " كتاب , فرقان , هدى , نور , روح ..."
فيجب على الناظر فيه أن ينظر الى هذه النواحي جميعها .
وجوانب التفسير في القرآن تقسم الى ثلاثة اقسام :
1- تفسير القرآن بالبيان : ويتفرع الى :
تفسير القرآن نفسه بنفسه ...
بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
بيان جيل الصحابة الكرام ...
بيان الائمة المفسرين من جيل التابعين .
2- التفسير بعلوم البرهان : والاخذ بهذه العلوم فيما صحَّ منها
وتجاوز مستوى النظرية والاحتمال
حتى لانعرض ايات االكتاب الى نوع من
انواع التكذيب او الرفض او الشك ..
وهو العلم الذي يسمى حاليا
" الاعجاز العلمي "
3- اللطائف : وهي التي تشم ولاتفرك كما الزهرة ..
مثاله ماقاله الامام البخاري
في تفسير اية" لايمسه الا المطهرون "
قال فيها أي لايتذوق طعمه الا من امن به ..
من غير النظر الى الحكم الفقهي أو التفسير بأنهم " الملائكة "...!
هذا المعنى في حد ذاته صحيح ..
لكن دلالة الاية عليه من اللطائف ..
يُكتفى بالقرب منها شما لا فركا ..
كما جاء في تفسير آية :" ولذكر الله أكبر .."
أي أكبر من ذكركم له ...
نحن غاية ذكرنا لله
أن نستحضره بعظمته وجلاله
أما ذكر الله لنا فهو المخلص من كل شفاء وعناء ..
~
عدة أمور انفردت بها سورة الحجرات :
أولها من حيث موضوعها في وحي الكتاب .
2- من حيث موضوعها في التنبيه على معالم الآداب .
3- موقعها ضمن مطالع النداء الخاص والعام .
4- توسطها بين ثلاث سور هنَّ نظيرات لها .
5- موقعها في ترتيب التلاوة
فهي فاتحة المفصل عند متأخري المالكية
والراجح عند الاحناف
والذي صححه الامام النووي من الشافعية
وجزم بأن خلافه لا يصح ..
وقد خالف ابن كثير فقال
بأنها " ق "
ومنهم من ذهب الى انها من عند " محمد " سورة القتال
وهو ماقال به الامام القادري :
" وصحَّ في المفصل من القتال منجلي "
والحمد لله رب العالمين
~