عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 12-15-2009, 07:12 PM
 
Smile الرسم يتطلب منكم جولة في الخيال وإبحار وتركيز مع الذات

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ايها الرواد الكرام
مبدعون ومبدعات عيون العرب

هكذا يحمل الرسام أدواته الصغيرة, بحثا عن مشهد قريب للدواخل من أغوار روحه, في عملية تنقيب فريدة, محملة بالشوق ومحمولة على المجاز, ليعود بمجموعة اسكتشات وتخطيطات كروكية, وربما بلوحة مائية إلى مرسمه العتيد, لينضد من جديد ويصوغ تلك اللمسات الشفيفة أو تلك المكنونة تحت ركام الطبقات, ليذوبها في هيئات جديدة, تتجاوز أساسها ومحرضها وتأخذ كينونتها.

يتحرق الرسام أمام اللوحة, يختزل الرسم كل حركات التكوين, بضربات صائبة من فرشاته, يبدأ هذيان الفرشاة بروح الكائنات, تتراقص على موسيقى شذية أو ربما صاخبة, يتحول طقس الرسم إلى سحر الأشكال, وليس بيد الرسام إلا مجاراة الطقس إلى مداه.
هكذا يتفجر بياض الورق أو القماش عن مساحات وخطوط وألوان, باحثة عن هيئة تجمعها ونسق يلظمها, متصارعة على احتلال البياض, والبياض مدى ورؤيا, كتلا رهيفة من ضوء, عصية على الإزاحة إلا للجواهر المفضية إلى فعل الضوء, أو لذلك المحارب الأزلي المسمى ظلا, وفي كلا الحالين يقبل كل منهما الإزاحة في عملية إمحاء وإظهار, وحوار خلاق يقول أدونيس في تقديمه لمعرض الفنان فاتح المدرس (اللوحة طيف -جسم, مكان يتلاقى فيه المرئي واللامرئي.حركة هبوط لمزيد من الاستقصاء, وحركة صعود لمزيد من الاستشراف, إلى استعمال اللون استعمالا تتجلى فيه آثار الروح, وبين الهبوط والصعود, يبدو النظام,لشدة توقه إلى انفجار الدلالات, كأنه سديم, ويبدو السديم,لشدة توقه إلى التشكل, كأنه نظام).
يبدأ الرسام معركة الرسم بتصور مسبق, أو دون تصور لا فرق ذلك أن فعل التتالي في الخلق بجزيء الرؤيا, وما تتابع اللمسات إلا نوع من هذا التكون اللامنتهي, وكل لمسة تحدد ما بعدها, أو تقيم نوعا من التوالد الذي لا يكون مخططا, هكذا يبدأ الرسام بلمسة تتبعها لمسات, بحثا عن شكل ونظام, قد يكون ماثلا أمامه, أو قد يكون مطبوعا في الوجدان, ولكنه في حالة الإبداع ينسى كل شيء, وتسكنه حالة الإنشاء التي لا تعترف إلا بما تراه من داخلها, يقول أدونيس : (الرسام الخلاق لا يرسم, يقترح احتمالات أخرى لتكوينات أخرى, كأنه يقول : يمكن هذا الشيء الذي أراه أمامي أن يظهر في الرسم في شكل آخر, الإبداع تنافس في تكوين الأشياء, الفن تنافس في التشكيل الاحتمالي للأشياء, الرؤية هي أن نرى ممكن الشيء حركيته واحتماليتها) وهكذا يتحول فعل الرسم إلى تكوين له تأثير خاص, على المتلقي والفن من حيث هو خطاب ذو حضور ما, مباشرا أو عصيا على التأويل وهكذا فإن فعل الرسم وما يتطلبه من مهارة وقدرة على التخيل وغنى في الإحتمال ينعكس بالضرورة على طبيعة العمل الفني ومستواه إذ (يعكس التكوين مستوى التذوق الشخصي للمصور صاحب الثقافة الفنية والذوق السليم والشعور الفطري بالتوازن والشكل والإيقاع والمكان وتقدير القيم اللونية, وصاحب الحاسة الدرامية تنبع عنه التكوينات الجيدة بالسليقة ) على أن هذا لا يعني عدم التمرين والتدريب لأن الرسام الجيد هو من يدرس موضوعه باستمرار.
يتناول الرسام الواقع ويحوله إلى الحلم, عبر استراتيجيات عدة وتهيؤات مختلفة, ابتداء بالتصوف مرورا بالهلوسة وصولا للشك أو اليقين, منبهرا مرة مخمورا مرة أخرى, متعبدا, وكل هذا من أجل إلغاء الهوة الفاصلة ما بين الواقع والحلم, وليخرج من وحل العادي والمرئي إلى السامي واللامرئي, وصولا إلى وحدة الباطن والظاهر, والحلم هنا يصبح حياة في أكثف معانيها وتجسدها, حيث يتحول الوعي إلى التوتر المبدع.
يتحدى الأبيض الفنان, يغلق في وجهه السبل ثم يعاود الانفتاح, يهزأ منه بشماتة, يقول فان جوخ : (كثيرون هم الرسامون الذين يخافون القماش الأبيض, لكن هذا الأخير يخاف بدوره من الرسام الحقيقي المهووس, الذي يتجرأ والذي عرف كيف يتقلب على إغراء لست جديرا بي ) ومع ذلك سيظل القماش الأبيض متحديا وما على الفنان إلا إلابحار فيه.
إن كمية الإسقاط في النور والظلال, تتسرب في وعي الفنان وتضيء دواخله البعيدة, ليصبح المشهد العياني مجرد محرض فقط, ويتحول الفنان إلى نوع من المشاهدة الخاصة, ليرى دواخله مطيفة على المشهد الأساس, وملونة له, وكأن الرسام يبحث عن نفسه, وعن أنوار روحه ودواخله المعتمة الشفيفة.
هكذا يصبح الرسم حجابا عن اليقينية والثبوتية, وبحثا عن المتبدل واللامألوف, في عملية إبداع حر, ومعركة فيما بين الواقع والحلم, وما الرسام إلا ذلك المحارب القديم, الذي يتحرق شوقا للماضي دون تمجيده, وباحثا في الحاضر دون التحنط فيه, وآملا في المستقبل دون يأس من معانقته, وسبيله لكل ذلك حزمة من ضياء, وألوان صاغها الحب, وتآلفت بالجدل, وهي في جميع أحوالها ممارسة حرة, وتأكيد مفارق للوجود.
رد مع اقتباس