الفصل الثالث
الرجل الآخر
كان الصباح بارداً جداً وشديد الرطوبة . وكان الضباب من الكثافة في المستنقعات حتى بدا وكأن كل شيء يتراكض نحوي .
كنت أتقدم نحو النهر , لكن مهما أسرعت فلن أستطع تدفئة قدمي . كنت أعرف طريقي نحو الحصن , لكنني وسط ذلك الضباب الكثيف , اكتشفت أنني سرت بعيداً جداً إلى اليمين , وعلي بالتالي العودة إلى خط النهر . ولم أكد أعبر حفرة حتى وجدت الرجل جالساً أمامي . كان ظهره مواجهاً إلي , وقد ثنى ذراعيه , فيما رأسه يطأطي بالنوم .
ظننت أنه سيكون أكثر سروراً لو أتيته بفطوره بهذا الأسلوب غير المنتظر , فتقدمت إليه ومسته على كتفه . فقفز بسرعة , لكنه لم يمن الرجل ذاته , بل كان رجلاً آخر .
على أن هذا الرجل كان يرتدي ملابس رمادياً كذلك وتحيط بساقيه أغلال حديد , كما كان يعرج ويرتعش , ويشبه الرجل الآخر تماماً , باستثناء الفرق في الوجه . شتمني ووجه إلي ضربة أخطأتني . وما لبث أن توارى في الضباب .
قلت : " إنه الشاب . " وأنا أشعر بقلبي يقفز من مكانه لدى إدراكي ذلك . كدت أشعر بألم في كبدي أيضاً لو علمت أين هو .
وسرعان ما بلغت الحصن حيث كان الرجل الصحيح بانتظاري . كان يعاني من برد قارس والجوع الشديد يظهر في عينيه . وما كدت أفتح حزمتي وأخرج ما في جيوبي حتى بدأ يأكل بسرعة فظيعة , ثم توقف ليتناول بعض الشراب . كان يرتجف وهو يبتلع اللحم المفروم والخبز والجبن والفطيرة , كلها دفعة واحدة , ثم يحدق بنظرات ملؤها الشك , وغالباً ما يتوقف ليدقق السمع . ثم قال فجأة : " هل أنت حقاً شيطان صغير مخادع ؟ هل أحضرت معك أحد ؟ "
" كلا سيدي , كلا . "
" ولا طلبت من أحد أن يتبعك ؟ "
" كلا . "
" حسناً , إني أصدقك . لكن لابد أنك كلب صغير عنيف إن استطعت في سنك هذا أن تسهم في مطاردة رجل مسكين مثلي . "
وفيما جلس يأكل الفطيرة بشراهة واختلاس , قلت له أنني أخشى ألا يترك شيئاً للشاب . فأخبرني بما يشبه الضحك الغليظ أن الشاب لا يريد أي طعام . فقلت أنني أعتقد أنه ربما يريد طعاماً , وبأنني رأيته لتوي يرتدي مرتدياً مثله , وتحيط بساقه أغلال الحديد , ثم أشرت إلى حيث التقيت به . فسأل بانفعال إن كانت هناك آثار كدمة على خده الأيسر , وحين أجبته بنعم , أمرني بأن أرشده إليه . وبعد أن أخذ المبرد مني , جلس على العشب الرطب وأخذ يبرد أغلاله كالمجنون . وخشية أن أطيل البقاء خارج المنزل , تسللت بعيداً وتركته يعمل بجهد في معالجة أغلاله ...
يتبع ...