عرض مشاركة واحدة
  #13  
قديم 12-17-2009, 11:46 AM
 
الفصل الثالث عشر
الآمال الكبيرة

كانت السنة الرابعة من تدريبي المهني لدى جو , وكانت ليلة السبت حيث كنا متحلقين حول المدفأة في حانة (( النوتية الثلاث )) نصغي إلى السيد ووبسيل وهو يقرأ بصوت مرتفع .
لم ألاحظ إلا بعدما انتهى من القراءة , أن هناك سيداً غريباً ينحني فوق ظهر الكرسي المقابل لي . فتقدم وقال وهو ينظر إلي : " لدي ما يحملني على الاعتقاد بأن هناك حداد بينكم , اسمه جوزيف , أو جو غارجري . أيكم ذاك الرجل ؟ "
قال جو : " هذا أنا . "
تابع الغريب يقول : " هل لديك من يتدرب على مهنتك , يعرف عامة باسم بيب ؟ وهل هو هنا ؟ "
فهتفت قائلاً : " إنني هنا . "
لاحظت أن رأسه ضخم , وبشرته داكنة وعيناه غائرتان وحاجباه كثيفين سوداوين . قال لي:" أود إجراء حديث خاص معكما. لعل من الأفضل أن نذهب إلى منزلكما. "
سرنا إلى المنزل في صمت يكتنفه التساؤل , وحين وصلنا هناك دخلنا غرفة الاستقبال , فجلس الغريب إلى الطاولة وهو يجذب الشمعة إليه ويدقق في دفتر صغير لديه , ثم قال : " اسمي جاغرز , وأنا محام من لندن . لدي مهمة استثناية أنجزها معكما . والآن يا سيد جوزيف غارجري , إنني أنقل عرضاً يعفيك من هذا الصغير , تلميذك . لا أظن أنك ستعارض تخلية سبيله . بناء على طلبه وخدمة لمصلحته أو تبتغي شيئاً مقابل ذلك ؟ "
فقال جو : " لن أرغب في الوقوف في وجه بيب , ولا أريد شيئاً لقاء تخلية سبيله ."
قال السيد جاغرز : " حسناً , والآن , ما أريد أن أقوله لك هو أن بيب لديه آمال كبيرة . "
أخذت علينا الدهشة أنا وجو , ونظرنا إلى بعضنا البعض .
" إنني مكلف بإبلاغه بأنه سيحصل على ممتلكات لا بأس بها , وأن رغبة المالك الحالي هي بأن يُنقل بيب من هذا المكان , في حال أن ينشأ على تربية تليق بذوي الشأن . "
لقد تحقق حلمي , وتجاوزت الحقيقة مخيلتي الجامحة . فالآنسة هافيشام ستكون ثروتي .. تابع المحامي يقول : " والآن سيد بيب , سأوجه إليك ما بقي علي قوله . ليكن واضحاً لديك أولاً أنه بناء لطلب الذي تلقيت منه تعليماتي , أنك ستحمل دائماً اسم بيب . وليكن في علمك ثانياً أن اسم الذي أحسن إليك سيبقى سراً , إلى أن يقرر هو البوح بذلك . ويحظر عليك الاستقصاء عن هذا الأمر , أو الإشارة إلى أي شخص أثناء الاتصالات التي تجري بيننا . إن كان لديك اعتراض على هذين الشرطين , فالآن هو الوقت المناسب للإفصاح عن ذلك . قل بصراحة . "
تلعثمت بصعوبة قائلاً أن لا اعتراض لدي , فتابع السيد جاغرز : " لا أظن ذلك ! والآن سيد بيب , ننتقل بعد ذلك إلى تفاصيل الترتيبات . لدي مبلغ من المال يكفي تعليمك ومصاريفك . أرجو أن تعتبرني وصياً لك . من المفروض أن تتعلم بشكل أفضل , تمشياً مع وضعك الجديد . "
فقلت بأنني طالما تشوقت لذلك .
فاقترح السيد جاغرز اسم السيد ماثيو بوكيت ـ الذي سبق وأن سمعت الآنسة هافيشام تقول بأنه أحد أقرباءها ـ أن يكون معلمي , فعبرت عن شكري للسيد جاغرز على هذا الاختيار , وقلت بأنني سأجرب هذا السيد بكل سرور .
" حسناً , من الأفضل أن تجربه في منزله , ستمهد الطريق أمامك , ويمكنك أولاً أن ترى ابنه , الذي في لندن . متى ستأتي إلى لندن ؟ "
قلت وأنا أنظر إلى جو الذي كان يقف محدقاً دون حراك , إنني أعتقد أن باستطاعتي الذهاب فوراً .
" لابد أولاً أن تكون لك ثياباً جديدة تذهب بها , لنقل بعد أسبوع . ستحتاج إلى بعض المال . هل أترك لك عشرين جنيهاً ؟ "
تناول محفظة طويلة وراح يعد المال على الطاولة ثم دفع بها إلي . ثم جلس يؤرجح محفظته وهو يراقب جو .
" جوزيف غارجري , تبدو في غاية الدهشة فعلاً . "
فقال جو بلهجة حازمة : " فعلاً . "
" تذكر بأن الاتفاق كان بأنك لا تريد شيئاً لنفسك . لكن ماذا لو كان من ضمن التعليمات لدي أن أقدم لك هدية على سبيل التعويض ؟ "
فاستوضح جو قائلاً : " تعويض على ماذا ؟ "
" على خسارة خدماته . "
وضع جو يده على كتفي برفق وقال : " إنني أرحب بانطلاقة بيب نحو العزة والثراء . إن كنت تعتقد أن المال يمكنه التعويض عن خسارتي لهذا الطفل الصغير الذي أتي إلى دكاني , وكنت معه من أفضل الأصدقاء . " ولم يستطع قول المزيد .
فقال السيد جاغرز : " والآن يا جوزيف غارجري , أنبهك إلى أنها فرصتك الأخيرة . فلا حلول وسط معي . فإن أردت أخذ الهدية التي أُذن لي بتقديمها لك , قل بصراحة وستحصل عليها . أما إن كنت تريد القول ــ " وهنا لدهشته الشديدة , توقف عن الكلام لدى تهيؤ جو لقتاله . فقال المحامي : " حسناً سيد بيب , أعتقد أنه كلما أسرعت بمغادرة المكان ـ نظراً إلى أنك ستصبح سيداً ـ لكان ذلك أفضل . ليكن في الأسبوع المقبل , وسوف يصلك في غضون ذلك عنواني مطبوعاً . فيمكنك أن تستقل عربة لدى مكتب عربات السفر في لندن , وتأتي إلي مباشرة . "
عندما غادرنا , أقفل جو الباب الأمامي , وجلسنا بقرب نار المطبخ , نحدق بإمعان في الفحم المشتعل , ولم نقل شيئاً لفترة طويلة .
كانت شقيقتي في مقعدها الوثير , وبيدي تجلس إلى جانب جو تقوم بأشغال الإبرة , فيما كنت جالساً إلى الجانب الآخر منه . قلت في النهاية : "جو,هل أخبرت بيدي؟ "
" تركت الأمر لك يا بيب . "
" أفضل لو تخبرها أنت يا جو . "
فقال جو : " لقد أصبح بيب سيداً غنياً , ليباركه الله في ثروته . "
أوقفت بيدي عملها وراحت تنظر إلي . أمسك جو بركبتيه وراح ينظر إلي أيضاً . اطلعت إليهما , وبعد لحظة توقف , هنآني بحرارة , لكن مسحة حزن كانت في تهنئتهما , وأثارت لدي بعض الامتعاض .
حاولت بيدي أن تنقل لشقيقتي فكرة عما جرى لها , لكن جهودها باءت بالفشل .
بعد يومين , ارتديت أفضل ملابسي , وذهبت إلى المدينة باكراً قدر المستطاع على أمل أن أجد المحلات مفتوحة , فقمت أولاً بزيارة محل الخياط , حيث أخذ قياسي لخياطة بعض الثياب الجديدة , وتوجهت إثر ذلك إلى صانع القبعات وصانع الأحذية ومحلات أخرى ... ثم ذهبت إلى السيد بامبلتشوك , وقد سبق له وأن زار دكان جو وسمع الأخبار , فأعد وجبة خفيفة على شرفي . تلقاني بكلتا يديه ورحب بي بحفاوة وكأننا كنا أفضل الأصدقاء . فقال بعد أن نظر إلي بإعجاب لبضعة دقائق : " إن مجرد التفكير بأنني كنت الوسيلة المتواضعة التي أدت إلى هذا,لهو مكافأة عظيمة. "
رجوت السيد بامبلتشوك أن لا يغيب عن باله أن شيئاً لا ينبغي قوله أو التلميح به في هذه الخصوص .
دعاني السيد بامبلتشوك لتناول الدجاج , وأفضل شرائح اللسانات , والنبيذ . وراح يصافحني مراراً وتكراراً . وأفضى إلي , للمرة الأولى في حياتي , أنه لطالما تحدث عني قائلاً : " إنه ليس بالفتى العادي , استمعوا جيداً , إن قدره لن يكون قدراً عادياً . "
استأذنت في النهاية مغادراً وعدت إلى المنزل .
مرت الأيام , وفي صباح الجمعة ذهبت ثانية إلى السيد بامبلتشوك لارتداء ملابسي الجديدة والقيام بزيارة الآنسة هافيشام . فتحت سارة بوكيت الباب لي واصطحبتني إلى الطابق الأعلى . كانت الآنسة هافيشام تقوم ببعض التمارين في الغرفة قرب الطاولة الطويلة , وهي تتكئ على عصاها فقالت : " سأغادر إلى لندن غداً , آنسة هافيشام . وأظن لا مانع لديك على مغادرتي . "
فقالت وهي تدير عصاها حولي , وكأنها العرابة الجنية التي بدلت حالي , تمنحني الهبة الأخيرة : " إن مظهرك أنيق . "
تمتمت قائلاً : " حظيت بثروة وافرة منذ رأيتك آخر مرة آنسة هافيشام , وإنني في غاية الامتنان لذلك , آنسة هافيشام . "
قالت وهي تنظر باغتباط إلى سارة بوكيت الحسودة : " أجل , أجل , لقد رأيت السيد جاغرز , وعلمت بالأمر يا بيب . إذن أنت ذاهب غداً ؟ "
" أجل , آنسة هافيشام . "
" وهل تبناك رجل ثري ؟ "
" أجل , آنسة هافيشام . "
" ألم يذكر اسمه ؟ "
" كلا , آنسة هافيشام . "
" وهل عين السيد جاغرز وصياً عليك ؟ "
" أجل , آنسة هافيشام . "
وتابعت تقول : " حسناً ! أمامك مستقبل يبشر بالخير , كن صالحاً ـ واعمل على أن تستحق ذلك ـ واتبع إرشادات السيد جاغرز . "
ثم نظرت إلي ونظرت إلى ساره , وقد أثار هدوء ساره , وقد أثار هدوء ساره ابتسامة قاسية على وجهها المؤرق .
" وداعاً يا بيب ـ تعلم بأن عليك الاحتفاظ دائماً باسم بيب . "
" أجل , آنسة هافيشام . "
" وداعاً يا بيب . "
مدت يدها , فانحنيت على ركبتي ولثمتها بشفتي , ثم غادرتها . رجعت إلى بامبلتشوك وخلعت ثيابي الجديدة , ثم لففتها في رزمة , وعدت إلى المنزل في ملابسي القديمة , وأنا أشعر ـ في الحقيقة ـ بمزيد من الارتياح , رغم أن لدي الرزمة أحملها .
وهاهي الأيام الستة التي كان ينبغي أن تمر ببطء , ولت بسرعة وذهبت , وراح الغد يواجهني بحزم لم أستطع مواجهته به . كان علي مغادرة قريتنا في الخامسة صباحاً , وكنت قد أخبرت جو أنني أرغب بالرحيل وحدي . طوال الليل , كانت العربات تمر في نومي المتقطع , تضل سبيلها بدلاً من التوجه إلى لندن , تجرها الكلاب مرة والقطط مرة أخرى والرجال مرة ثالثة , لكن دون أن تجرها الخيول أبداً . تملكتني رحلات فشل غريبة إلى أن بزغ الفجر وراحت الطيور تغرد . فنهضت وارتديت ملابسي , لكنني كنت أفتقر إلى العزيمة للهبوط , إلى أن نادتني بيدي تقول بأنني تأخرت .
كان الفطور سريعاً من دون نكهة . ثم قبلت شقيقتي وبيدي وعانقت جو . ثم تناولت حقيبتي الصغيرة وخرجت .
انطلقت بخطوات سريعة معتبراً أن من السهل الرحيل أكثر مما تصورت . وأخذت أصفِّر لأجعل من الرحيل غير ذي شأن . لكن القرية كانت في غاية الوداعة والهدوء , وكنت بريئاً وصغيراً للغاية هناك , فيما كان كل شيء مجهولاً وعظيماً حتى أنني انفجرت بالبكاء في تلك اللحظة . حدث ذلك عند عامود الاتجاه في طرف القرية , فوضعت يدي عليه وقلت : " وداعاً يا صديقي العزيز الغالي . "
يتبع ...


رد مع اقتباس