الفصل الرابع عشر
السيد بوكيت الابن
استغرقت الرحلة من المدينة إلى العاصمة نحو خمس ساعات , وعندما وصلت إلى مكتب السيد جاغرز , أخبرني الكاتب أنه في المحكمة , وأنه ترك خبراً بأن أنتظر في غرفته . فاصطحبني إلى غرفة داخلية كانت مغمة للغاية . وبعد انتظار طويل , وصل السيد جاغرز .
اندفع نحوه الكثير من الناس , رجالاً ونساءً , كانوا ينتظرونه خارج المكتب . فخاطب اثنين من الرجال وهو يشير إليهما بأصبعه : " ليس لدي ما أقوله لكما الآن. ولا أريد أن أعرف أكثر مما أعرفه . أما بالنسبة للنتيجة , فهي مسألة حظ . لقد أخبرتكما منذ البداية أنها مسألة حظ . هل دفعتما لـ ويميك ؟ "
فقال الاثنان معاً : " أجل , سيدي . "
" حسناً , يمكنكما الذهاب . والآن لن أسمع المزيد ! "
وأشاح لهما بيده لدفعهما خلفه : " إن نطقتما بكلمة سأتخلى عن القضية . "
بدأ أحد الرجلين يقول وهو يخلع قبعته : " اعتقدنا , سيد جاغرز ـ "
فقال جاغرز : " هذا ما طلبت إليكما الامتناع عنه . اعتقدتم ! أنا الذي أعتقد أنكما , هذا يكفي . إن احتجت لكما , فأنا أعرف أني أجدكما . لا أريدكما أن تجداني , والآن لن أسمع المزيد , لن أسمع أية كلمة . "
راح الرجلان ينظران إلى بعضهما البعض فيما أشار السيد جاغرز لهما بالخروج , فخرجا بتواضع دون أن ينطقا بكلمة .
وبعد أن تعامل مع الآخرين بنفس الأسلوب ، اصطحبني أنا وصبي إلى غرفته الخاصة , حيث أخبرني بأنه علي أن أذهب إلى (( نزل برنارد )) إلى جناح السيد بوكيت الابن ، حيث م إرسال سرير لتأمين راحتي . وكان عل البقاء مع السيد بوكيت الابن حتى نهار الاثنين ، فأذهب معه نهار الاثنين لزيارة منزل والد ، لأتبين كم سيروقني . قدم لي مخصصي من المال , وبطاقات بعض أصحاب المتاجر الذين سأتعامل معهم للحصول على جميع أنواع الملابس وساءر الأشياء التي قد أحتاجها . وكان على ويميك كاتبه , مرافقتي إلى منزل السيد بوكيت .
ألقيت نظرة على السيد ويميك أثناء سيرنا , فوجدته رجلاً جافاً , قصيراً للغاية , ووجهه مربع جامد . ترائى لي أن أعزب بثيابه الرثة . وكانت له عينان لامعتان ـ صغيرتان وحادتان , وسوداوين ـ وشفتان رقيقتان واسعتان .
خاطبني قائلاً : " إذن لم تأت إلى لندن أبداً من قبل . "
قلت : " كلا , وهل هي مكان سيء ؟ "
قال : " قد تتعرض للخداع والسرقة والقتل في لندن . إنما هناك الكثير من الناس في كل مكان يتسببون لك بذلك . "
وما لبثنا أن وصلنا إلى نزل برنارد , حيث يقطن السيد هربرت بوكيت . كان مجموعة من المساكن الوضيعة المغمة قسمت شققاً , وكان كثير منها برسم الإيجار.
اصطحبني السيد ويميك فتسلقنا سلماً يؤدي إلى شقة في الطابق الأعلى . وقد كُتب على الباب (( السيد بوكيت الابن )) , وضعت رقعة على صندوق الرسائل تقول : (( عائد بعد قليل )) . تمنى السيد ويميك لي نهاراً سعيداً وغادرني . ولم تمض أكثر من نصف ساعة طويلة حتى سمعت وقع أقدام السيد هربرت على السلم . كان يحمل كيساً من ورق تحت كل إبط وسلة صغيرة من الفاكهة في إحدى يديه , وقد انقطع نفسه . قال : " السيد بيب ؟ "
فقلت السيد : " السيد بوكيت ؟ "
قال مندهشاً : " يا إلهي ! إنني آسف جداً , لكنني علمت أن هناك عربة قادمة من بلدك في منتصف النهار , فاعتبرت أنك ستأتي بها . "
وبعد جهود في معالجة الباب , انفتح أخيراً ودخلنا . فقال السيد بوكيت بعد ذلك : " اعتبر والدي أنك ربما أحببت قضاء نهار الأحد معي أكثر من قضاءه معه , وربما أحببت التجول في أرجاء لندن . إن من دواعي سروري لا ريب أن أطلعك على لندن . إن مسكننا ليس فاخراً بأية حال , إن علي أن أكسب قوتي . هذه هي غرفة نومك ،وقد تم استئجار الأثاث لهذه المناسبة ، لكنني على ثقة بأنه سيفس بالغرض."
حين وقفت أمام السيد بوكيت الابن , أصيب بدهشة وقال وهو يتراجع : " يا إلهي , إنك الفتى الذي تقاتلت معه ! "
فقلت : " وأنت الشاب الهزيل ! "
وقفنا ننظر إلى بعضنا البعض حتى انفجرنا بالضحك . فقال : " تصور كونه أنت !"
فقلت : " تصور كونه أنت ! "
قال هربرت : " لم تكن قد حظيت بثروتك حينذاك ؟ "
قلت : " كلا . "
فوافق معي : " كلا , لقد علمت أن ذلك حدث لاحقاً . أنا شخصياً كنت أفتش عن ثروة جيدة آنذاك . وأرسل الآنسة هافيشام في طلبي لترى إن كانت ستحبني . لكنها لم تستطع ـ على كل حال , فلم تفعل . ربما لو كنت ناجحاً , لتمت خطبتي على استيلا . "
" وكيف تحملت خيبة أملك ؟ "
فقال : " أفٍ ! لم أكترث كثيراً بذلك . فهي فتاة متقلبة المزاج . إنها قاسية ومتعجرفة ومزاجية حتى آخر الحدود , وقد أنشأتها الآنسة هافيشام لتثأر من جنس الرجال . "
" وما قرابتها بالآنسة هافيشام ؟ "
قال : " ليست بقربتها بل تبنتها فقط . "
" ولماذا تثأر من جنس الرجال ؟ وأي ثأر ؟ "
فقال : " عجباً يا سد بيب , ألا تعرف ؟ "
" كلا . "
" يا للعجب ! إنها قصة حقاً , وسأحتفظ بها إلى حين وقت الغداء . "
تميز هربرت بوكيت بأسلوب صريح وبسيط وجذاب للغاية . لم يتسنى لي حتى الآن اللقاء بمن يعبر لي بشكل جازم أكثر منه , في كل نظرة ونبرة صوت , عن عجزه على القيام بما هو سري ودنيء . كان لديه شيء يوحي بالأمل بشكل مدهش , وشيء يهمس لي في الوقت ذاته أنه لن يكون ناجحاً و ثرياً على الإطلاق .
أخبرته بقصتي , وشددت على أنه محظور علي السؤال عن هوية الذي أحسن إلي .
في وقت الغداء , روى لي قصة الآنسة هافيشام فقال : " كانت الآنسة هافيشام طفلة مدللة , وقد توفيت والدتها وهي لا تزال صغيرة , فلم يرد لها والدها أي طلب . كان السيد هافيشام في غاية الثراء وغاية التكبر . وكذلك كانت ابنته , لم تكن طفلته الوحيدة , بل كان لها أخ من والدها . فقد تزوج والدها مرة ثانية ـ من طاهية على ام أعتقد . "
" خلته متكبراً . "
" وكذلك كان . لقد تزوج من زوجته الثانية سراً , وقد توفيت هذه مع مرور الزمن. حينما توفيت , أخبر ابنته بما فعل , وأصبح ولده مذَّاك جزءاً من العائلة يسكن البيت الذي تعرفه . ولما شب الفتى , أصبح فاسقاً ومبذراً ـ فاسداً بالإجمال . في نهاية الأمر حرمه والده من الإرث , ولكنه ما لبث أن لان حين شارف على الموت , فترك له ثروة حسنة , لكن لي بالقدر الذي تركه للآنسة هافيشام . وراح يبذر ماله ورزح تحت ديون طائلة . ثم ظهر رجل تظاهر بحب الآنسة هافيشام , وأخذ يلاحقها عن كثب, فأحبته كثيراً . فاستغل عاطفتها وحصل منها على أموال ضخمة. كان أقرباءها فقراء ماكرين , باستثناء والدي الذي كان في فقر شديد لكنه لم يكن حسوداً ومستغلاً للظروف أو حسوداً . كان المستقل الوحيد بينهم , فحذرها من أنها تجاوزت حدودها في سبيل ذالك الرجل ,وأنها تضع نفسها تحت رحمته دون تحفظ. فاغتنمت أول فرصة تسنت لها لطرد والدي بغضب من المنزل , بحضور الرجل , ولم يرها والدي منذ ذلك الحين . لنعد إلى الرجل وننهي قصته . حدد موعد الزفاف, ووجهت الدعوة إلى ضيوف الزفاف . وحل يوم الزفاف , لكن العريس لم يحضر . بل كتب رسالة ـ "
فتابعت عنه : " تلقتها حين كانت ترتدي ثياب الزفاف ؟ عند التاسعة إلا ثلثاً ؟ "
قال هربرت : " في تلك الساعة والدقيقة بالذات . " وهو يهز رأسه , " وهو الوقت الذي أوقفت فيه جميع الساعات بعد . ولما شفيت من مرض شديد ألم بها , تركت المكان يستحيل خراباً , مثلما رأيت , ولم تعد تر ضوء النهار منذ ذلك الحين . "
سألت بعد شيء من التفكير : " هل هذه كل القصة ؟ "
" هذا كل ما أعرفه عنها . لكنني نسيت شيئاً . فهناك اعتقاد بأن الرجل منحته ثقة لا يستحقها , كان يعمل طوال الوقت بالاتفاق مع أخيها من أبيها , وأن المؤامرة هي من تدبير الاثنين , وأنهما كانا يتقاسمان الربح . "
فقلت : " أتساءل لماذا لم يتزوجها ويحصل على جميع ممتلكاتها ؟ "
" ربما كان متزوجاً من قبل . "
" وماذا حل بالرجلين ؟ "
" غرقا في مزيد من الذل والعار والخراب ــ إن كان هناك أكثر . "
" وهل هما على قيد الحياة الآن ؟ "
" لست أدري . تعلم الآن كل ما أعرفه عن الآنسة هافيشام . "
سألت هربرت في مجرى الحديث عما يكون . فأخبرني بأنه رأسمالي ــ يعمل في تأمين السفن لكن لم تكن في غرفته إشارة تدل على قضايا الشحن أو رأس المال . قال : " لن أقنع بمجرد استخدام رأسمالي في تأمين السفن . سأشتري حصصاً لا بأس بها في مجال التأمين على الحياة , وسأعمل قليلاً في مجال التعدين . أظن أنني سأتاجر مع جزر الهند الشرقية في الحرائر والشالات والبهارات والأصباغ والحرائر والعقاقير والأخشاب الثمينة . إنها تجارة شيقة . "
قلت : " وهل الأرباح كبيرة ؟ "
قال : " هائلة . " ثم قال وهو يضع إبهامه في جيب صدرته : " أظن أنني سأتاجر أيضاً مع جزر الهند الغربية في السكر والتبغ وسراب الرم , كذلك في سيلان خاصة في مجال أنياب الفيلة . "
" ستحتاج إلى سفن كثيرة . "
" أسطول كامل . "
ولشدة دهشتي حيال ضخامة هذه العمليات , سألته أين تبحر السفن التي يؤمن عليها في الوقت الحاضر , فأجاب : " لم أبدأ بالتأمين بعد . فأنا أنتبه لنفسي , وأعمل في مكتب للمحاسبة . "
" وهل مكتب المحاسبة يوفر ربحاً ؟ "
" آه , كلا , ليس لي . إنه لا يوفر لي شيئاً , وعلي الاستمرار , المهم هو أن تنتبه لنفسك . ذلك هو الشيء الأهم . ثم يحين الوقت فتجد المجال مفتوحاً أمامك . فتدخله وتبني رأسمالك ,وها أنت ! وحين تبني رأس مالك , لن يكون عليك سوء توظيفه ."
كان ذلك أشبه ما يكون بأسلوبه في القتال الذي جرى بيننا في الحديقة , يشبهه كثيراً ــ وطريقته في تحمل الفقر أيضاً جاءت توازي طريقته في تحمل الهزيمة . كان واضحاً أنه لا يملك سوى أبسط الضروريات , إذ كل ما رأيته تبين أنه أرسل على حسابي من المقهى أو من مكان آخر .
ذهبنا مساء ذلك السبت للتنزه في شوارع لندن , وذهبنا إلى المصنع بنصف التعرفة , وفي اليوم التالي ذهبنا إلى الكنيسة في وستمينستر آبي , وتمشينا مساءً في المنتزهات .
بعد ظهر الاثنين , ذهبنا إلى منزل السيد بوكيت في هامر سميث حيث تم تقديمي إلى السيد والسيدة بوكيت في حديقتهما . واصطحبني السيد بوكيت بعد ذلك إلى المنزل وأراني غرفتي . ثم قرع باب غرفتين مماثلتين ليعرفني إلى من يشغلهما , باسم بنتلي درامل وستارتوب , كان درامل ذا بنية ثقيلة ومظهر عجائزي وكان يصفر , فيما كان ستارتوب , الأصغر سناً ومظهراً , يقرأ ويمسك رأسه وكان يظن نفسه في خطر انفجاره بالمعرفة المفرطة .
بعد يومين أو ثلاث , حين استقر بي الحال في غرفتي وذهبت إلى لندن عدة مرات لطلب ما أحتاجه من أصحاب المتاجر الذين أتعامل معهم , كان لدي مع السيد بوكيت حديث مطول . كان يعرف عن مجرى حياتي المنشود أكثر مما أعرفه بالذات , فقد ذكر أن السيد جاغرز , أخبره بأنني لم أكن مقصوداً لأي مهنة , وأنه ينبغي أن أتعلم ما يكفي لأكون نظير الشاب العادي الذي ينعم بظروف ملائمة . فوافقت بالطبع , دون أن يكون لي علم بما هو عكس ذلك .
نصحني بارتياد بعض الأمكنة في لندن لأحصل على المعرفة التي أحتاج , وأفاد بأنه سيتولى إدارة جميع دروسي , لقد وضع نفسه موضع ثقتي بطريقة رائعة , ويمكنني القول في الحال أنه كان من الحماس دائماً ومن الصدق في تنفيذ اتفاقه معي , ما حملني على الحماس والصدق في تنفيذ اتفاقي معه , ولو أنه أبدى شيئاً من اللامبالاة كأستاذ , فليس لدي شك بأنني كنت فعلت الشيء ذاته كتلميذ .
سويت هذه الأمور وبدأت العمل بجدية , خطر لي بأنني لو استطعت استعادة غرفة نومي في نزل برنارد , لاختلفت حياتي بشكل أفضل , ولن يتسبب سلوكي بالإساءة إلى عشرة هربرت . لم يعارض السيد بوكيت هذا الإجراء , لكنه ألح أنه قبل اتخاذ أي خطوة , ينبغي عرضها على وصيي . وحين أفصحت عن رغبتي هذه للسيد جاغرز , وافق وأوعز إلى ويميك بأن يدفع لي عشرين جنيهاً لشراء الأثاث اللازم .
يتبع ...