عرض مشاركة واحدة
  #15  
قديم 12-17-2009, 11:46 AM
 
الفصل الخامس عشر
جو الطيب


صباح يوم الاثنين , تلقيت رسالة من بيدي تخبرني فيها عن عزم جو القيام بزيارتي في نزل برنارد في الصباح التالي . لم أتشوق لهذه الزيارة , ولو تسنى لي إبعاده بالمال , لفعلت ذلك لا ريب . لكنني اطمأننت حين علمت بأنه سيأتي إلى مسكني في لندن وليس إلى منزل السيد بوكيت في هامر سميث . كنت أعارض بعض الشيء أن يراه هربرت أو والده , وكلاهما كنت أكن لهما الاحترام , إنما كانت لدي حساسية حادة حيال أن يراه درامل , إذ كنت أزدريه لبلادته وحمقه وتعجرفه .
نهضت في الصباح الباكر وجعلت غرفة الجلوس والمائدة تبدوان في أبهي حلة لهما. وما لبثت أن سمعت خطوات جو على السلم .
عرفت أنه جو من طريقته الخرقاء في صعود السلم ـ فأفضل أحذيته كان كبيراً جداً على قدميه ـ ومن الوقت الذي استغرقه في قراءة الأسماء الموجودة في الطوابق الأخر أثناء صعوده . وفي النهاية , طرق الباب طرقة خفيفة ودخل .
" كيف حالك يا جو ؟ "
" كيف حالك يا بيب ؟ "
" سعيد برؤيتك يا جو , أعطني قبعتك . "
لكن جو أمسك بها بعناية بكلتا يديه , كأنها عش عصفور به بعض البيض , ولم يكن ليسمح بالتخلي عن ملكيته تلك . ثم قال : " لكم كبرت وسمنت وأصبحت سيداً ! لا ريب أنك مدعاة اعتزاز لمليكك وبلادك . "
" وأنت كذلك يا جو تبدو في أحسن أحوالك . "
فقال جو : " جمداً لله . إن شقيقتك ليست أسوأ مما كانت عليه . وبيدي دائماً على ما يرام وحاضرة لتقديم المساعدة . وكذلك جميع أصدقاءك . باستثناء ووبسيل الذي ترك الكنيسة وتحول إلى التمثيل . "
عند ذلك دخل هربرت الغرفة , فقدمت جو إليه . مد هربرت يده , لكن جو تراجع وبقي ممسكاً بقبعته .
" خادمك سيدي . رجائي أيها السادة أن تنعما بصحة وعافية في هذا المكان . لعل الرأي في لندن هو أن المكان صالح جداً , لكنني لن أبقي على خنزير فيه شخصياً ـ لن أفعل ذلك إن أردت له أن ينعم بصحة ويصبح سميناً . "
وحين دُعي للجلوس إلى الطاولة , راح ينظر إلى الغرفة ليجد مكاناً مناسباً يضع فيه قبعته , فأسندها في النهاية عند طرف بعيد في رف الموقد , حيث راحت بعد ذلك تسقط بعد حين وآخر .
سأله هربرت الذي كان دائماً يتولى الإشراف على الفطور : " هل تتناول الشاي أم القهوة , سيد غارجري ؟ "
فقال جو وقد تصلب من الرأس حتى القدمين : " شكراً سيدي . سأتناول ما يطيب لك . "
" ما رأيك بالقهوة ؟ "
أجاب جو فيما اتضح أنه لم يُعجب بالفكرة : " شكراً سيدي . بما أنك تفضلت واخترت القهوة , فلن أعاكس اختيارك . لكن ألا تجد القهوة حامية قليلاً ؟ "
قال هربرت وهو يصب القهوة : " إذن , تتناول الشاي . "
هنا تدحرجت قبعة جو من على الموقد , فهرع من كرسيه والتقطها , ثم وضعها في نفس المكان . أما بالنسبة لياقة معطفه وياقة قميصه , فكانتا تحيران من يفر بهما . ترى لماذا ينبغي على المرء أن يضغط نفسه إلى هذا الحد ليتصور بأنه أنيق الملبس؟ولماذا عليه الافتراض أن الضرورة تقتضي أن يعاني بسبب ملابس العطلة؟
وما لبث جو أن غرق في نوبات من التأمل وهو يمسك بشوكته بين صحنه وفمه , ثم سعل سعالاً ملفتاً للنظر وابتعد عن الطاولة , وصار يسقط أكثر مما يأكل , حتى سررت من صميم قلبي حين تركنا هربرت ليذهب إلى الوسط التجاري .
لم يكن لدي الإحساس السليم ولا الشعور المناسب لأدرك أن ذلك كان خطأي , وأنني لو كنت أخف وطأة مع جو , لكان جو أخف وطأة معي . فشعرت بنفاذ الصبر والغيض تجاهه .
بدأ جو يقول : " بما أننا بمفردنا الآن , سيدي ــ "
فقاطعته قائلاً : " جو , كيف تدعوني سيداً ؟ "
رمقني لبرهة وجيزة بنظرة توحي بما يشبه الخزي والهوان . ثم تابع يقول : " بما أننا بمفردنا الآن , سأذكر سبب زيارتنا . كنت في النزل ذات مساء حين جاء بامبلتشوك وأخبرني أن الآنسة هافيشام ترغب في محادثتي . فذهبت في اليوم التالي وقابلتها . سألتني إن كنت على اتصال معك , وحين أجبتها بأنني كنت كذلك , طلبت إلي إعلامك بأن استيلا عادت إلى المنزل وأنها ستسر بلقائك . انتهى حديثي الآن يا سيدي . "
وقال وهو ينهض من كرسيه : " كذلك يا بيب , أتمنى لك أن تكون في سعادة دائمة وأن تنعم بازدهار دائم نحو أرقى المراتب . "
" لكنك لست ذاهب الآن يا جو . "
قال : " بلى , إنني ذاهب . "
" لكنك ستعود للغداء يا جو ؟ "
فقال : " كلا , لن أعود . "
تلاقت نظراتنا وتلاشت أصداء كلمة (( سيد )) من ذلك القلب الشريف حين مد لي يده مصافحاً . ثم قال : " بيب , أيها الصديق العزيز . إنني في غير منظري في هذه الملابس , وفي خارج مكاني خارج دكان الحدادة والمطبخ أو بعيداً عن المستنقعات. إنك لن تجد نصف أخطائي لو فكرت بي وأنا في ملابس العمل , أحمل المطرقة أو حتى الغليون في يدي . لن تجد نصف هذه الأخطاء بشخصي لو رغبت بلقائي , فجئت تطل برأسك من نافذة الدكان لترى جو الحداد هناك , أمام السندان القديم , في مريوله البالي المحترق , يلازم عمله القديم . ليباركك الله , يا عزيزي بيب , ليباركك الله ! "
شعرت لديه بكرامة ساذجة , فلمسني بلطف على جبهتي وخرج , وما أن تمالكت نفسي كفاية , حتى أسرعت وراءه ورحت أبحث عنه في الشوارع المجاورة , لكنه توارى عن النظر .
يتبع ...

رد مع اقتباس