عرض مشاركة واحدة
  #16  
قديم 12-17-2009, 11:47 AM
 
الفصل السادس عشر
استيلا الفاتنة

استقليت عربة بعد الظهر إلى المدينة . ووصلت هناك في وقت متأخر من المساء . فنزلت في ال (( بلو بور )) لتمضية الليل , ونهضت في الصباح الباكر لزيارة الآنسة هافيشام . كان الوقت ما زال باكراً على القيام بأي زيارة , فأخذت أتسكع في المدينة وأنا أفكر في مولاتي وأرسم صوراً رائعة لخططها التي تضعها من أجلي . لقد تبنت استيلا , وتبنتني أنا أيضاً , ولا بد أن تكون نيتها تربيتنا معاً . كانت تريد مني إحياء المنزل المهجور , وإدخال نور الشمس إلى الغرفة المظلمة , وإدارة الساعات وإشعال المواقد الباردة ـ وبعبارة موجزة , القيام بالأعمال الرائعة التي بقوم بها الفارس الشاب في القصص الخيالية , وأتزوج الأميرة .
نظمت خطواتي كي أصل إلى المنزل في وقتي المعهود . وحين قرعت الجرس , فتح الباب شخص هو آخر من كنت أتوقع أن أراه هناك . (( أورليك )) !
" آه , سيدي الصغير , فهناك تغيرات أكثر مما لديك . لكن أدخل , أدخل . سأخالف التعليمات لو أبقيت البوابة مفتوحة . "
دخلت , فأقفل البوابة وسحب المفتاح .
" كيف جئت إلى هنا ؟ "
فأجاب : " جئت على قدمي . "
" هل أنت هنا على الدوام ( أم بنية حسنة ) ؟ "
" لا أعتقد أنني هنا بقصد الأذى , سيدي الصغير . "
لم أكن متيقناً من ذلك . اتجهت إلى الممر الطويل ولقيت ساره بوكيت التي اصطحبتني إلى غرفة الآنسة هافيشام . قالت هذه : " أدخل يا بيب . "
كانت تجلس في كرسيها قرب الطاولة القديمة بثوبها القديم , ويداها فوق عصاها . كانت تجلس بالقرب منها سيدة أنيقة لم يسبق لي أن رأيتها . كررت الآنسة هافيشام تقول : " أدخل يا بيب , كيف حالك يا بيب ؟ إنك تقبل يدي وكأنني ملكة , ايه ؟ حسناً ؟ "
قلت : " بلغني , آنسة هافيشام , أنك تكرمت باستدعائي لمقابلتك , فأتيت مباشرة . "
رفعت السيدة الأخرى عينيها ونظرت إلي بغرور , فوجدت العينين هما عيني استيلا .
لكنها تغيرت كثيراً وباتت أكثر جمالاً وأنوثة بكثير , وأحرزت تقدماً رائعاً حتى بدوت وكأنني لم أتقدم بعد . وتخيل لي وأنا أنظر إليها بأنني عدت ذلك الفتى العامي الخشن ثانية .
مدت لي يدها , فتمتمت كلاماً عن السرور الذي حل بي برؤيتها من جديد , وأنه طالما غمرني الشوق للقائها .
قالت الآنسة هافيشام بنظرتها الجشعة : " هل تجدها تغيرت كثيراً يا بيب ؟ "
" عندما دخلت يا آنسة هافيشام ,لم يتراءى لي شيء من الشكل أو الوجه من استيلا, لكن من المؤكد الآن بما يلفت النظر أنها ... السالفة . "
قاطعتني الآنسة هافيشام متسائلة : " ماذا ؟ لن تقول أنها استيلا المعروفة ؟ "
ثم تابعت تقول : " كانت متكبرة ومهينة , وأردت الابتعاد عنها . ألا تذكر ؟ "
فقلت بارتباك أن ذلك كان منذ زمن بعيد , وأنني لم أعرف حينذاك أفضل منها أو مثلها . ابتسمت استيلا بهدوء تام وقالت أنها لا تشك بأنني كنت مصيباً وأنها كانت مزعجة للغاية . ثم سألتها الآنسة هافيشام : " هل تغير ؟ "
قالت استيلا وهي تنظر إلي : " كثيراً جداً . "
قالت الآنسة هافيشام وهي تداعب شعر استيلا: " وهل أصبح أقل خشونة وعامية ؟"
ضحكت استيلا ونظرت إلي . كانت ما زالت تعاملني معاملة الفتى , لكنها مضت في إغرائي .
وتم الاتفاق على أن أمضي بقية النهار هناك , وأعود من ثم إلى الفندق ليلاً , وإلى لندن في النهار التالي . بعد أن تحدثنا بعض الوقت , صرفتنا الآنسة هافيشام لنتمشى سوياً في الحديقة المهملة . وفيما اقتربنا من المكان الذي تقاتلت فيه مع الشاب الهزيل ,توقفت وقالت : " لابد أنني كنت طفلة غريبة لأختبئ وأشاهد القتال حينذاك, لكنني فعلت ذلك واستمتعت به كثيراً . "
عند ذلك أخبرتها أننا الآن صديقان حميمان .
" حقا ! أظن أني أذكر بأنك كنت تقرأ مع والده . "
قلت مكرهاً : " أجل . " , لأن ذلك بدا وكأنه يجعل مني صبياً .
كانت الحديقة كثيفة بشكل يحول دون السير بسهولة , وبعدما طفنا حولها مرتين أو ثلاثة , خرجنا ثانية إلى مصنع الجعة , فذكرتها حين خرجت من البيت وأعطتني بعض اللحم والشراب , فقالت : " لا أذكر . "
فقلت : " ألا تذكرين أنكي دفعتني للبكاء ؟ "
قالت : " كلا . " وهي تهز برأسها وتنظر حولها .
أظن أن عدم تذكرها وعدم اكتراثها أبداً حملاني على البكاء ثانية , بيني وبين نفسي ـ وهذا أشد البكاء إيلاماً .
قالت : " يجب عليك أن تعرف بأن لا قلب ولا تعاطف ولا مشاعر . "
سمحت لنفسي بأن أشك في ذلك , وقلت بأنه يستحيل وجود مثل هذا الجمال من دون قلب .
قالت : " إني جادة , فإن كنا سنترك سوية كثيراً , عليك تصديق ذلك في الحال . لنتمشى حول الحديقة مرة أخرى , ثم ندخل . تعال ! ليس عليك أن تذرف الدمع لقسوتي اليوم ؛ بل ستعتني بي وتدعني أستند إلى كتفك . "
أمسكت بفستانها الأنيق بيد , ولامست بالأخرى كتفي ونحن نسير . طفنا في الحديقة الخربة مرتين أو ثلاث , وبدت لناظري مزدانة بالزهور والورود .
عدنا في النهاية إلى المنزل حيث علمت أن وصيّي قد جاء ليقابل الآنسة هافيشام بزيارة عمل وأنه سيعود للغداء . كانت الآنسة هافيشام جالسة في كرسيها تنتظرني, وحين ذهبت استيلا لتحضير نفسها للغداء وغدونا وحدنا , التفتت نحوي وقالت بهمس : " هل هي رشيقة وجميلة وناضجة ؟ وهل أنت معجب بها ؟ "
" كل من يراها لابد أن يعجب بها , آنسة هافيشام . "
وضعت ذراعها حول عنقي وجذبت رأسي نحو رأسها وهي تجلس في الكرسي , وقالت : " أحبها , أحبها , أحبها ! كيف تعاملك . "
قبل أن أتمكن من الإجابة ( هذا إن تمكنت من الإجابة على سؤال صعب كهذا ) رددت قائلة : " أحبها , أحبها , أحبها ! إن كانت ستستحسنك , فأحببها . إن جرحتك أحببها , إن حطمت قلبك أشلاءً , أحببها , أحببها , أحببها ! اسمعني يا بيب , لقد تبنيتها لتحظى بالحب . ربيتها وعلمتها لتحظى بالحب , فأحببها , سأخبرك ما هو الحب الحقيقي , إنه التضحية العمياء , والخضوع التام والثقة والإيمان بنفسك , وبالعالم أجمع , فتمنح قلبك وروحك جميعاً إلى من تحب ـ مثلما فعلت أنا . "
بعدما قالت كلمتها الأخيرة , أطلقت صيحة جامحة , ونهضت من كرسيها ثم راحت تضرب في الهواء , كأنما تريد أن تضرب بنفسها إلى الحائط لتقع جثة هامدة . لكنها ما لبثت أن تمالكت نفسها بلمح البصر , إذ ذاك دخل السيد جاغرز للغرفة . وبعد حديث وجيز مع الآنسة هافيشام , اصطحبني للخارج لنتناول الغداء مع استيلا والآنسة ساره بوكيت . بقيت الآنسة هافيشام جالسة في كرسيها , إذ لم تكن تتناول الطعام أو الشراب مع الآخرين . أكلنا حتى الشبع , وبعد الغداء وُضعت قنينة من نبيذ البورت الأصيل أمام وصيي , ثم تركتنا السيدتان .
لم يسبق لي أن رأيت أحداً في المنزل يساوي السيد جاغرز في قدرته على التكتم . إذ ظل يحافظ على نظراته وقلما أشاح ببصره إلى وجه استيلا أثناء الغداء . وحين أصبحنا بمفردنا , جعلني أشعر بتضايق شديد , وكان كلما رآني أوشك على سؤاله شيئاً , ينظر إلي فيما يحمل كأسه بيده ويحرك الشراب بفمه وكأنه يطلب إلي أخذ العلم بأن ذلك لا يجدي نفعاً لأنه لا يستطيع الإجابة .
صعدنا بعد ذلك إلى غرفة الآنسة هافيشام ولعبنا الورق .
في غضون ذلك الوقت , كانت الآنسة هافيشام قد وضعت أجمل الحلي من طاولة تزيينها على شعر استيلا وحول عنقها وذراعيها , ورأيت أن حتى وصيي راح ينظر إليها من تحت حاجبيه الكثيفين بعدما بدا جمالها أمامه .
لعبنا حتى الساعة التاسعة , ثم اتفقنا على أن يصار إلى إبلاغي مسبقاً عن مجيء استيلا إلى لندن , فأقابلها عند العربة . بعد ذلك استأذنتها بالانصراف وعدت أدراجي إلى المنزل .
في وقت متأخر من الليل , راحت كلمات الآنسة هافيشام تتردد في أذني : " أحببها, أحببها , أحببها . " فعدلت فيها ورحت مخاطباً وسادتي : " أحبها , أحبها , أحبها ." مئا المرات . ثم غمرني شعور بالامتنان في أنها ستكون من نصيبي , أنا الذي كنت مساعد الحداد ذات يوم . ثم تساءلت متى يا ترى ستبدأ بالإعجاب بي , ومتى ينبغي أن أوقظ القلب الذي في صدرها , وهو الآن في سبات ؟
اعتبرت تلك عواطف سامية ونبيلة . لكنني لم أتصور أبداً أن هناك من الحقارة والدناءة في ابتعادي عن جو لعلمي بأنها ستحتقره . ففي اليوم السابق فقط حملني جو على البكاء , لكن دموعي ما لبثت أن جفت , فليغفر لي الله ! لقد جفت بسرعة .


الفصل السابع عشر
حديث الأصدقاء

في الصباح التالي , أخبرت وصيي الذي كان يقيم معي في (( البلو بور )) بأنني لا أظن أن أورليك هو الشخص الملائم للعمل لدى الآنسة هافيشام , وأخبرته بما أعرفه عنه . فقال : " عظيم يا بيب , سأذهب هناك في الحال وأصرفه . "
لدى عودتي إلى حانة برنارد , وجدت هربرت يتناول غداء من اللحم البارد , وكان فرحاً في لقائي مجدداً . وبعد أن بعثت الولد الخادم إلى المقهى لإحضار المزيد من الطعام , شعرت بأن علي إخبار صديقي بسري ذلك المساء بالذات . بدأت حديثي قائلاً : " عزيزي هربرت , لدي شيء خاص جداً أخبرك به . "
أجاب : " عزيزي هاندل ( كان يحب تسميتي هاندل ) , ستكون ثقتك محط نقديري واحترامي . "
فقلت : " إنه يتعلق بي يا هربرت وبشخص آخر . "
وضع هربرت رجلاً فوق أخرى وراح ينظر إلى النار وقد أمال برأسه جانباً , وبعد أن تطلع إلى النار عبثاً لبعض الوقت , نظر إلي لأنني لم أتابع الكلام .
قلت وأنا أضع يدي فوق ركبته : " هربرت , أنا أحب , أنا أهيم بـ(( استيلا )) . "
أجاب هربرت بطريقة بسيطة متوقعة : " هذا صحيح , حسناً . "
" حسناً يا هربرت , أهذا كل ما تقوله , حسناً ؟ "
فقال : " أقصد ماذا بعد , إني أعرف ذلك طبعاً . "
قلت : " وكيف تعرف ذلك ؟ "
" كيف أعرف ذلك يا هاندل ؟ أعرفه منك بالطبع . "
" لم أخبرك أبداً . "
" تخبرني ! لم تخبرني أبداً حين تقص شعرك , إنما لدي الوعي لملاحظة ذلك . كنت دائماً تهيم بها , منذ عرفتك . لقد أحضرت هيامك بها وحقيبتك معاً . تخبرني ! بل كنت دائماً تخبرني طيلة النهار . حين أخبرتني بقصتك كلها , فقد أعلمتني بوضوح أنك بدأت تهيم بها منذ أن رأيتها , حين كنت صغيراً جداً بالفعل . "
قلت : " حسناً , إذن لم أتخل عن ولعي بها . لقد عادت , وهي أكثر جمالاً وأناقة . لقد رأيتها البارحة , ولئن كنت أعبدها من قبل , فإني أعبدها أضعافاً الآن . "
فقال هربرت : " فهذا من حسن حظك يا هاندل , فقد تم اختيارك وصرت نصيبها . لكن هل لديك فكرة عن وجهة نظرة استيلا حول الموضوع ؟ "
" آه ! إنها على بعد آلاف الأميال عني . "
" صبراً يا عزيزي هاندل : متسع مكن الوقت , متسع من الوقت . ألديك المزيد لتقوله ؟ "
أجبت : " أخشى أن أقوله , ولكن قوله ليس بأسوأ من التفكير به . أنت تدعوني إنساناً محظوظاً . طبعاً , فأنا كذلك . لم أكن بالأمس سوى مساعد حداد . ولم أفعل شيئاً لأنهض بنفسي في الحياة . بل الحظ وحده رمقني ومع ذلك , فحين أفكر باستيلا , لا يسعني أن أصف لك كم أشعر بالضعف والغموض , وكم أتعرض لمئات الصدف . إن كل آمالي تعتمد على شخص واحد , وكم هي واهية وغامضة هذه الآمال . "
أجاب هربرت : " ألم تخبرني أن وصيك السيد جاغرز قد أعلمك منذ البداية إنك لم تمنح الآمال فقط ؟ حتى وإن لم يخبرك بذلك , ألا تعتقد أن السيد جاغرز ـ من بين سائر الرجال في لندن ـ هو الذي سيحتفظ بعلاقاته المالية تجاهك , إلى أن يتأكد من مركزه ؟ "
قلت بأنه لا يسعني الإنكار بأن هذه نقطة مهمة .
فقال هربرت : " أظن أنها نقطة مهمة , أما بالنسبة للباقي , فينبغي أن تمنح وصيك بعض الوقت , وعليه كذلك أن يمنح موكله بعض الوقت , ستبلغ الواحدة والعشرين قبل أن تعرف أين أنت , ولعلك تحصل إذ ذاك على بعض المعلومات . والآن أود إزعاجك بعض الشيء للحظة . لقد كنت أعتقد أنه لا يمكن لاستيلا أن تكون شرطاً لميراثك , إن لم يذكر وصيك ذلك . ألم يشر المحسن إليك مثلاً أن لديه بعض الأفكار بشأن زواجك ؟ "
" أبداً . "
" إذاً يا هاندل , بما أنك لم تُخطب لها , ألا تستطيع الابتعاد عنها ؟ "
" لا أستطيع ذلك يا هربرت . "
" ألا تستطيع الابتعاد عنها ؟ "
" كلا , مستحيل . "
فقال هربرت : " حسناً , سأحاول الآن أن أكون لطيفاً من جديد . " ثم أخبرني عن عائلته , وعن نفسه بشكل خاص . لقد كان مخطوباً لفتاة تدعى كلارا , تعيش في لندن , وكان والدها عاجزاً يلازم غرفته على الدوام ويتسبب فيها بمشاجرات عنيفة .
أخبرني هربرت أنه منذ أن بدأ يجني المال , كان ينوي الزواج من تلك الفتاة , وأضاف قائلاً : " لكن تعلم أنك لا تستطيع الزواج حين ما تزال تخطط لأمورك . "
يتبع ...





رد مع اقتباس