الفصل الثامن عشر
إلى ريتشموند بصحبة استيلا
في ذات يوم تلقيت رسالة بالبريد , أثار مجرد غلافها الخارجي نشوة عظيمة في نفسي , إذ أنه لم يسبق لي أن رأيت الخط الذي كتيت به , فقد تعرفت على صاحب الخط . تقول الرسالة :
(( يُفترض حضوري إلى لندن بعد يوم غد بعربة الظهر . أعتقد بأنه تم الاتفاق بأن تحضر للقائي . على كل حال , هذا ما تراه الآنسة هافيشام , وأكتب رسالتي تقيداً بذلك . إنها ترسل لها تحياتك ــ
المخلصة : استيلا . ))
لو كان لدي الوقت الكافي , لأوصيت على بضع بدلات لهذه المناسبة , لكن بما أن الوقت ضيق , فلابد بأن أقتنع بما لدي . تلاشت شهيتي في الحال , ولم يهدأ لي بال إلى أن حل ذلك النهار , ولم يهدأ لي بال حينذاك , إذ رحت أتردد على مكتب العربات حتى قبل أن تغادر العربة (( البلو بور )) في بلدتنا .
ووصلت النافذة أخيراً ورأيت وجه استيلا ورأيت يدها تلوح لي .
بدت استيلا في ثياب السفر أكثر جمالاً ورقة مما كانت عليه في السابق حتى بالنسبة لعيني . كان تصرفها أكثر جاذبية مما سبق لها أن اكترثت بإظهاره نحوي , فاعتقدت أني كنت أشهد تأثير الآنسة هافيشام في ذدد التغيير .
وقفنا في باحة النزل وأشارت لي إلى حقائبها , وحين تم استلامها جميعاً تذكرت ـ بعدما نسيت كل شيء في غضون ذلك ما عداها ـ فأنني أجهل المكان الذي تقصده . فقالت لي : " إني ذاهبة إلى ريتشموند , والمسافة هي عشرة أميال . علي أن أستقل عربة , وعليك بمرافقتي . هذه محفظتي , وعليك دفع الأجور منها . أوه , لابد أن تأخذ المحفظة . ليس لدينا خيار أنا وأنت سوى التقيد بالتعليمات . "
" علينا أن نرسل بطلب عربة يا استيلا , هلّا ترتاحين قليلاً هنا ؟ "
" بلى , علي أن أرتاح هنا , وأن أتناول بعض الشاي , وعليك الاهتمام بي في هذه الأثناء . "
تأبَّطت ذراعي وكأن ذلك كان هو المفروض , وطلبت من خادم كان يحدق بالعربة كرجل لم يسبق أن رأى مثل ذلك الشيء في حياته , أن يقودنا إلى غرفة جلوس خاصة . فأرشدنا إلى غرفة في الطابق الأعلى , وطلبت الشاي لاستيلا . سألتها : " إلى أين أنت ذاهبة في ريتشموند ؟ "
قالت : " سأسكن لقاء نفقة كبيرة مع امرأة تدعى السيدة براندلي , وهي تستطيع اصطحابي هنا وهناك , والعمل على تقديمي وتعريف الناس علي وتعريفي عليهم ."
" أظنك ستسعدين بالتغير والإعجاب . "
" أجل , أعتقد ذلك , هلأنت سعيد مع السيد بوكيت ؟ "
" أعيش هناك بسرور , على الأقل بسرور كأي مكان أكون فيه بعيداً عنك . "
فقالت بهدوء : " أيها الأحمق , كيف تنطق بمثل هذه التفاهات ؟ صديقك السيد ماثيو باعتقادي أفضل من باقي عائلته . "
" بلغني أنه بالفعل من أصحاب الإيثار , وأسمى من الحسد الوضيع والكراهية . "
" يقيني بأن لدي كل سبب يحمل على هذا القول . "
قالت : " وليس لديك كل سبب لقول ذلك عن باقي قومه , فهم دائماً ما يرسلون تقارير ليست في مصلحتك إلى الآنسة هافيشام . وقلما تستطيع إدراك مدى الكراهية التي يضمرها هؤلاء القوم حيالك . "
" آمل ألا يتسببوا لي بالضرر . "
انفجرت استيلا بالضحك بدلاً من أن تجيب , وقالت : " كلا , كلا , كن على يقين من ذلك . تأكد بأنني أضحك لأنهم يفشلون . يا لهؤلاء القوم ويا للعذاب الذي يتذوقونه ! "
ضحكت ثانية , وقد بدا أن ضحكتها لا تنسجم مع الموقف , فتبادر إلي أنه بالفعل هناك ما يتجاوز حدود معرفتي بالأمور . وأضافت تقول : " كن مطمئناً بأن هؤلاء القوم لم ولن يُضعِفوا من مركزك لدى الآنسة هافيشام حتى بعد مائة عام . وإضافة إلى ذلك , فإنني مدينة لك لأنك السبب بانهماكهم وبعدم جدوى حقارتهم , وهاك يدي عربوناً لذلك . "
حين مدت لي يدها بدلال , أمسكت لها ووضعتها على شفتي . فقالت : " أيها الفتى السخيف , ألا تأخذ بالتحذير ؟ أم أنك تقبل يدي بذات الروح التي سمحت لك بها مرة تقبيل خدي ؟ "
قلت : " أي روح كانت تلك ؟ "
" علي التفكير للحظة . روح الازدراء بالمتآمرين . "
" إن قلت نعم , فهل لي أن أقبل خدك ثانية ؟ "
كان عليك السؤال في أن تلمس اليد . لكن نعم , إن كنت ترغب في ذلك . "
انحنيت وكان وجهها الهادئ كتمثال , فقالت وهي تنسل مبتعدة فور لمسي خدها : " والآن عليك الاهتمام بتناولي الشاي , وعليك مرافقتي إلى ريتشموند . "
قرعت الجرس لطلب الشاي , وبعد أن أتى الشاي وتم تناوله ودفع الحساب , صعدنا العربة وانطلقنا بعيداً . وحين مررنا بهامر سميث , أشرت ها أين يعيش السيد بوكيت , وقلت أنه لا يبتعد كثيراً عن ريتشموند , وبأنني آمل لقاءها من حين لآخر .
" أوه , بلى , يجب أن تراني , وأن تأتي جين تجد الوقت مناسباً . يجب أن يجري ذكرك لدى العائلة ؛ في الواقع فقد تم ذكرك هناك . "
وصلنا ريتشموند أسرع مما كان متوقعاً , وكان المكان الذي نقصده منزلاً قديماً لا بأس به , فظهرت عند الباب حين قرعت الجرس خادمتان جاءتا لاستقبال استيلا . أعطتني يدها بابتسامة , وتمنت لي ليلة سعيدة ثم توارت في الداخل . مكثن أحدق للمنزل وأنا أفكر بالسعادة التي سأنعم بها لو أنني أعيش معها هناك , وأنا مدرك بأنني لم أسعد معها أبداً , بل كنت في تعاسة دائمة .
يتبع ...