الفصل الخامس والعشرون
تدابير السلامة
استأجرت عربة واتجهت إلى فندق في (( كوفنت غاردن )) حيث أمضيت الليلة هناك . وباكراً في الصباح التالي , ذهبت لرؤية ويميك في منزله . رحب بي وشرح لي السر . فقد سمع في سجن نوغايت أن بروفيس هو عرضة للشك , وأن شقتي في الغاردن كورت وضعت قيد المراقبة , فاعتبر أن من الضروري إعلامي بذلك , واكتشف كذلك أن كومبيسون كان في لندن , فرأى أن من الأسلم أن يبقى بروفيس مختبئاً في لندن بعض الوقت , وألا يحاول السفر قبل أن يخف البحث عنه . وحين لم يجدني في المنزل , ذهب إلى هربرت لدى كلاريكر واتفقا بينهما على تدابير مرضية لتأمين سلامة بروفيس , فأسكنوه مؤقتاً في طابق أعلى مفروش قرياً من النهر حيث تسكن كلارا صديقة هربرت مع والدها المريض . كانت خطة جيدة , كما أخبرني ويميك لأسباب ثلاث . أولاً , المنزل بعيد عن مسكني , ولن يبحث أحد ني هناك . ثانياً , يمكنني الاطمئنان على سلامة بروفيس من خلال هربرت , دون الذهاب إلى هناك شخصياً . ثالثاً , حين يصبح من الأمان نقله على متن سفينة أجنبية , فسيكون هناك على أتم الاستعداد .
جعلني ذلك أشعر بسعادة أكثر , فشكرت ويميك مراراً وتكراراً , ثم نصحني بالبقاء في منزله إلى أن يحل الظلام , وتركني أستمتع برفقة والده العجوز .
وحين حل الظلام , خرجت أبحث عن مكان يسمونه : (( ميل بوند بانك )) . وبعد أن ضللت الطريق عدة مرات اهتديت إليه بالصدفة . قرعت الباب ففتحت لي الباب امرأة مسنة بهية الطلعة , وما لبث أن جاء هربرت واصطحبني بصمت إلى غرفة الستقبال , ثم قال : " كل شيء على ما يرام يا هاندل , وهو راضٍ جداً رغم توقه لرؤيتك , فتاتي العزيزة مع والدها ( سمعته يصيح في الطابق الأعلى ) ؛ فإن انتظرت حتى تهبط فسأعرفك عليها , ثم نصعد إلى بروفيس . "
وفيما نحن نتحدث بنبرة هادئة , انفتح باب الغرفة ودخلت فتاة نحيلة جميلة للغاية , سوداء العينين , تبلغ نحو العشرين , تحمل سلة بيدها . أخذ هربرت منها السلة بحنان وقدمها لي باسم كلارا .
قال : " أنظر , ها هو عشاء كلارا , يقدمه والدها كل ليلة . فهو يصر على الاحتفاظ بجميع المؤن في غرفته وتقديمها بنفسه . "
كان بروفيس يسكن في غرفتين في الطابق الأعلى , فلم يعبر عن أي خوف ولا ظهر أنه يشعر بذلك , أخبرته كيف سمع ويميك في سجن نيوغايت بأ الشكوك تحوم حوله , وأن شقتي مراقبة , وأن ويميك نصح بإخفاءه لبعض الوقت , وببقائي بعيداً . وأضفت أنه عندما يحين موعد سفره , فسأذهب معه أو أتبعه عن كثب , حسب ما تقتضيه السلامة .
ثم قدم هربرت اقتراحاً جيداً , فقال : " كلانا يجيد قيادة المراكب يا هاندل ويمكننا عبور النهر عندما يحين الوقت المناسب . ألا تعتقد أن من الأفضل لو بدأنا الآن بالاحتفاظ بقارب ومارسنا عادة التجذيف في النهر ذهاباً وإياباً ؟ وحين تكون لك تلك العادة , من سيلاحظ أو يكترث بذلك ؟ "
أعجبتني خطته , وكذلك بروفيس , فاتفقنا على تنفيذها . كما اتفقنا على أن يسدل بروفيس ستارة نافذته المشرفة على النهر كلما رآنا قادمين في قاربنا وأن الأمور تسير بشكل صحيح . ثم تمنينا له ليلة سعيدة وغادرناه .
حين استأذنت مغادراً الفتاة اللطيفة الجميلة ذات العينين السوداوين , والمرأة الحنونة التي تعيش في بيتها , فكرت باستيلا وبفراقنا , فذهبت إلى البيت في حزن عميق .
حصلت على القارب في اليوم التالي , فجيء به إلى سلم التامبل , وأرسي بحيث أستطيع الوصول إليه خلال دقيقة أو دقيقتين . ثم بدأت أخرج للتدب والتمرين , بمفردي أحياناً , وأحياناً برفقة هربرت , فلم يلاحظني أحد كثيراً بعدما خرجت بضعة مرات . في البداية , لم أجذف بعيداً , لكن سرعان ما رحت أبتعد إلى ميل بوند بانك . وكان هربرت يرى بروفيس ثلاث مرات على الاقل في الأسبوع , ولم يحمل إلي أية أخبار مقلقة . لكنني بقيت أعلم بأن هناك سبب للخوف , ولم يسعني التخلص من فكرة أنني مراقباً , إنما لم يكن بالمستطاع فعل شيء , سوى انتظار إشارة من ويميك .
الفصل السادس عشر
منذ عشرين سنة
في أحد الأيام بينما كنت أمشي ببطء قبل الغداء , التقيت بالسيد جاغرز ودعاني لتناول الغداء معه في منزله في شارع جيرارد . كنت على وشك الاعتذار عندما قال أن ويميك سيأتي , قبلت الدعوة وذهبنا سوياً إلى مكتبه حيث أنهى عمل اليوم , ثم اصطحبنا ويميك واستقلينا عربة إلى منزل السيد جاغرز .
ما أن وصلنا هناك حتى قدم الغداء . فلفتت انتباهي مدبرة المنزل , امرأة في الأربعين , وكنت قد رأيتها في منزل جاغرز في زيارة سابقة . كانت طويلة في غاية الشحوب , ولها عينان كبيرتان متعبتان , وشعر غزير كثيف . في هذه المناسبة , كانت تضع طبقاً على الطاولة عند كوع سيدها حين خاطبها هذا قائلاً أنها بطيئة . لاحظت حركة من أصابعها حين تكلمت معه . كانت حركة تشبه الحياكة , وقفت تنظر إليه وهي لا تدرك إن كان عليها الذهاب أو أن لديه مزيداً يقوله لها . كانت نظرتها متلهفة , ولم أشك تماماً بأنني شاهدت مثل هاتين العينين وهاتين اليدين , وفي مناسبة جرت مؤخراً أذكرها جيداً .
صرفها فانسلت خارج الغرفة , لكن صورتها بقيت أمامي بوضوح وكأنها ما تزال بشخصها هناك . نظرت إلى تلك اليدين , نظرت إلى تلك العينين , نظرت إلى الشعر الغزير , وقارنتها بعينين ويدين وشعر آخر أعرفه , وبما يمكن لهذه أن تكونه بعد عشرين سنة مع زوج متوحش وحياة عاصفة . فشعرت تمام اليقين أن تلك الفتاة هي والدة استيلا .
بعد انتهاء الغداء , استأذنت مع ويميك بالخروج باكراً وغادرنا سوياً . وفي الطريق , استوضحت من ويميك ما يعرفه عنها . وهذا ما أخبرني به : " منذ نحو عشرين سنة , اتُّهمت هذه المرأة بالقل ثم بُرئت ساحتها . كانت صبية في غاية الجمال , وأعتقد أن دماً غجرياً يجري في عروقها . دافع السيد جاغرز عنها في المحكمة وتولى القضية بشكل مذهل . كانت القتيلة امرأة تكبرها بعشر سنوات , وتفوقها قوة بكثير . كانت مسألة غيرة . وكان سبق لهذه المرأة أن تزوجت في سن مبكرة من رجل متسكع . وجدت القتيلة في حضيرة ماشية , حيث حصلت مقاومة عنيفة أو ربما قتال , وأصيبت بالكدمات والخدوش والتمزيق , ثم أمسك برقبتها أخيراً وخنقت .
أما المتهمة فقد أصيبت بكدمة أو اثنتين , لكن ظهري كفيها كانا ممزقين , والسؤال هو : هل حصل ذلك بالأظفار ؟ لقد أظهر السيد جاغرز أنها عبرت طريقاً شاقاً عبر أشواك كثيرة , وبالفعل فقد عثر على أشواك عالقة في جلدها . كانت النقطة الأشد التي أتى بها هي التالية . فقد اشتبهوا كثيراً بأنها عمدت في الوقت الذي حصلت به الجريمة إلى قتل طفلتها من ذلك الرجل ـ البالغة من العمر ثلاث سنوات ـ لكي تنتقم منه , فقال اسيد جاغرز في معرض الدفاع عنها : " لستم تحاكمونها لأنها قتلت طفلتها , لم لا تفعلون ذلك ؟ " وعلى العموم , فقد برع السيد جاغرز على هيئة المحلفين فرضخوا له . "
" وهل هي تعمل لديه منذ ذلك الحين ؟ "
قال ويميك : " أجل . "
فسألته : " هل تذكر جمبس الطفل ؟ "
" قيل إنها فتاة . "
تبادلنا تحية المساء , وذهبت إلى المنزل بمادة جديدة لأفكاري , رغم أنني لم أسترح من الأفكار القديمة بعد .
كانت الآنسة هافيشام قد بعثت إلي برسالة صغيرة تفيد بأنها تود أن أجتمع بها بشأن قضية عمل ذكرتها لها . فذهبت في اليوم التالي إلى ساتيس هاوس . أما القضية المشار إليها فهي تتعلق بهربرت . وقد سبق وأن أخبرتها بأنني أريد مساعدو صديق , لكنه لم يعد بوسعي متابعة ذلك لأسباب علي التكتم بها . فسألتني عن مقدار المبلغ الذي أحتاجه , فقلت : " تسعمائة جنيه . "
فسألتني : " وهل يطمئن فكرك أكثر لو أعطيتك المال لهذه الغاية ؟ "
" سيطمئن أكثر بكثير . "
فكتبت إيعازاً إلى السيد جاغرز بأن يدفع لي المبلغ المطلوب . كانت شديدة الندم للتعاسة التي سببتها لي , فشدت على يدي وبكت فوقها , ثم صاحت بيأس : " آه , ما الذي فعلته ! ما الذي فعلته ! "
" إن كنت تقصدين ما فعلته في أذيتي , دعيني أجيب : فعلت القليل القليل . فقد كنت سأحبها مهما كانت الظروف , وهل تزوجت ؟ "
" أجل . "
لم يكن السؤال ضرورياً , فالوحشة المستجدة في المنزل الوحش أخبرتني بذلك . ثم قالت : " لو تعرف قصتي , لأشفقت علي , وتفهمتني . "
أجبتها : " أعرف قصتك يا آنسة هافيشام , وقد أثارت حزني العميق . هل لي أن أسألك عن طفولة استيلا ؟ ابنة من هي ؟ "
هزت برأسها
" ألا تعرفين ؟ "
هزت برأسها .
" لكن هل السيد جاغرز هو الذي أحضرها إلى هنا أم أرسلها إلى هنا ؟ "
" أحضرها إلى هنا . "
" هل لي أن أسأل كم كان عمرها آنذاك ؟ "
" سنتان أو ثلاثة , شخصياً إنها لا تعرف شيئاً , سوى أنها تُركت يتيمة فتبنيتها . "
اقتنعت تماماً بأن تلك المرأة هي والدتها , ولم يعوزني دليل لترسيخ هذه الحقيقة في ذهني .
لم أكن آمل تحقيق المزيد من تمديد الزيارة ؟ فقد نجحت في مسعاي من أجل هربرت , كما أن الآنسة هافيشام أخبرتني بكل ما تعرفه عن استيلا , وهكذا افترقنا.
يتبع ...