الفصل السابع والعشرون
غيرة وانتقام
قام هربرت بعدة زيارات إلى المنزل المحاذي للنهر حيث تقيم كلارا مع والدها بروفيس . في إحدى الأمسيات , أخبرني قائلاً : " جلست مع بروفيس ساعتين في الليلة الماضية يا هاندل . أخبرني لبمزيد عن حياته . فتحدث عن امرأة كانت له معها مشكلة كبيرة . كانت فتاة غيورة وتحب الانتقام إلى أقصى درجة يا هاندل . "
" إلى أي درجة ؟ "
" القتل . "
" كيف قتلت ؟ ومن ؟ "
" امرأة أخرى أقوى منها , في حظيرة ماشية , حيث جرى عراك ووجدت الضحية مخنوقة , دافع السيد جاغرز عن القاتلة , وكان لشهرة هذا الدفاع من اسمه معروفاً بالدرجة الأولى لدى بروفيس . "
" وهل أدينت المرأة بالجرم ؟ "
" كلا , بل برئت ساحتها . ورزقت الصبية المبرئة وبروفيس طفلة صغيرة كان بروفيس مولعاً بها كثيراً . وعشية تلك الليلة بالذات حين خنقت التي كانت تثير غيرتها , جاءت الصبية إلى بروفيس وأقسمت أنها ستقتل الطفلة , وأنه لن يراها ثانية , ثم اختفت . "
" وهل نفذت المرأة قسمها ؟ "
" بالطبع يا ولدي لقد قال كل ذلك . عانت والدة الطفلة مدة خمس سنوات من الحياة الأليمة التي وصفها لنا , ويبدو أنه سعر بالإشفاق عليها , لذا فخشية أن يستدعى للشهادة بشأن الطفلة المقتولة ويكون سبباً في موت الأم , فقد أخفى نفسه بعيداً عن الناس وعن المحاكمة , ولم يتطرق الناس إلى ذكره سوى بأنه رجل يدعى آبل كان مثاراً للغيرة . لكنها اختفت بعد تبرئتها , وهكذا فقدت الطفلة ووالدتها . أما الشرير كومبيسون , فحين علم بأنه متخف حين ذاك , وبالأسباب التي تدفعه لذلك , احتفظ بالمعلومات كوسيلة لإفقاره وتشغيله في الأعمال المضنية . "
" وهل أخبرك متى حدث ذلك ؟ "
" منذ عشرين سنة تقريباً . "
" أنظر إلي يا هربرت , المسني , ألا تخشى بأنني محموم ؟ "
" كلا يا ولدي العزيز , بل أنت مثار , لست سوى نفسك . "
" أعلم بأنني لست سوى نفسي , والرجل الذي يختبئ عند النهر هو والد استيلا . "
الفصل الثامن والعشرون
الرسالة الغريبة
في صباح يوم اثنين , حين كنت أتناول الفطور مع هربرت , تلقيت الرسالة التالية من ويميك :
(( احرق هذه حالما تقرأها . في مطلع الأسبوع , أو لنقل يوم الأربعاء , يمكنك أن تفعل ما تعرفه , إن أحببت المحاولة , والآن احرقها . ))
حين أظهرت الرسالة إلى هربرت ووضعتها في النار , رحنا نفكر ماذا ينبغي فعله . قال هربرت : " فكرت بذلك مراراً وتكراراً , أعتقد أن لدي طريقة أفضل من اتخاذ بحار التايمز . خذ ستارتوب . إنه شخص طيب وهو ماهر ومولع بنا , كما أنه متحمس وأمين للغاية , هل تذهب مع بروفيس ؟ "
" من دون شك . "
" إلى أين ؟ "
لم يكن يهم إلى أين سنخرج طالما أن بروفيس سيخرج من انكلترا , أي مركب بخاري خارجي نصادفه ويأخذنا على متنه سيفي بالغرض . كانت خطتنا النزول إلى النهر قبل يوم من مغادرة ذلك المركب لندن , والانتظار في مكان هادئ إلى أن يصبح بوسعنا التجذيف إليه .
وافق هربرت , فخرجنا بعد الفطور نستعلم عن مواقيت انطلاق المراكب البخارية , فعلمنا أن مركباً إلى هامبورغ يناسب غرضنا تماماً . كان ستارتوب في غاية الاستعداد لمساعدتنا , فسيجذف هو وهربرت , بينما أتولى أنا الدفة . وكان على هربرت تحضير بروفيس للهبوط إلى ضفة النهر يوم الأربعاء حين يرانا نقترب , وليس قبل ذلك .
بعد إتمام هذه الترتيبات عدت إلى البيت , ولدى فتح باب الشقة , وجدت رسالة في الصندوق موجهة إلي , تقول :
(( إن كنت لا تخشى المجيء إلى المستنقعات الليلة أو ليلة الغد في التاسعة , وأن تأتي إلى المنزل الصغير المجاور لمحرقة الكلس , فالأفضل أن تأتي . إن كنت تريد معلومات بشأن بروفيس , فالأفضل أن تأتي دون أن تخبر أحداً , أو تضيع الوقت . عليك المجيء بمفردك . ))
كان ذهني مثقلاً بما فيه الكفاية قبل وصول هذه الرسالة الغريبة , فلم أعرف ماذا أفعل الآن . تركت رسالة إلى هربرت أخبرته فيها بأنني قررت القيام بزيارة قصيرة للآنسة هافيشام , وأنني استقليت العربة إلى المدينة .
حل الظلام قبل وصولي إلى هناك , تجنبت الإقامة في البلو بور , فنزلت في نزل أصغر في المدينة , وطلبت بعض العشاء , وبعد أن تناولته ارتديت معطفي وتوجهت إلى المستنقعات مباشرة .
كانت ليلة مظلمة , تهب فيها رياح حزينة , وكانت المستنقعات موحشة للغاية . وبعد سير طويل , شاهدت نوراً في المنزل الصغير القريب من الكلاسة . أسرعت نحوه وقرعت الباب . لم يكن هنالك جواب , فقرعت ثانية , كذلك لم يأتني جواب , عندئذ جربت المزلاج فارتفع تحت يدي وانفتح الباب . نظرت إلى الداخل , فرأيت شمعة مضاءة على طاولة ومقعد , وسرير . ناديت بصوت مرتفع : " هل يوجد أحد هنا ؟ " لكن صوتاً لم يجب على ندائي , ناديت ثانية , وحين لم ألق جواباً , خرجت لا أدري ماذا أفعل .
كانت بدأت تمطر , فعدت إلى المنزل ووقفت عند المدخل . ثم أُطفئت الشمعة فجأة , والشيء الآخر الذي علمته هو أن أحدهم ألقى بحبل فوق رأسي وأوثق يدي إلى جانبيي . سمعت صوتاً يقول : " والآن , قبضت عليك . "
صرخت مقاوماً : " ما هذا ؟ من هذا ؟ النجدة ! النجدة ! "
فإذا بيد رجل قوي تكم فمي لكبت صياحي , فيما تم إحكام وثاقي إلى سلم ببعد بضعة بوصات عن الحائط . قال الصوت : " والآن , اصرخ ثانية فأقتلك . "
ثم أشعل الرجل ثقاباً وأنار الشمعة , فرأيت أنه أورليك . قال بعد أن نظرنا إلى بعضنا لفترة من الزمن : " ها قد قبضت عليك . "
" فك وثاقي , دعني أذهب . "
" آه , سأدعك تذهب . سأدعك تذهب إلى القمر . سأدعك تذهب إلى النجوم , إنما في الوقت المناسب . "
جلس يهز برأسه نحوي , ثم وضع يده بجانبه في الزاوية وتناول مسدساً , وقال وهو يصوبه نحوي : " هل تعرف هذا ؟ هل تعرف أين شاهدته من قبل ؟ تكلم أيها الذئب . "
أجبت : " أجل . "( فقد شاهدته في غرفته في ساتيس هاوس , حين كان يشتغل حارساً للبوابة هناك ) .
" كنت السبب في خسارة ذلك المكان . كنت السبب . تكلم ! "
" وماذا كان بمقدوري أن أفعل غير ذلك ؟ "
" فعلت ذلك . وهذا يكفي , من دون زيادة . كيف تجرأت على التدخل بيني وبين الشابة التي أحبها ؟ "
" متى فعلت ذلك ؟ "
" متى لم تفعل ؟ أنت الذي كنت تسيء إلى سمعة أورليك العجوز أمامها . "
" أنت الذي منحتها لنفسك . أنت الذي أكسبتها لنفسك . ماذا ستفعل بي ؟ "
" سأقبض على حياتك . لن أبقي على خرقة منك , لن أبقي على عظمة منك على الأرض . سألقي بجثتك في الفرن المشتعل . "
كان يشرب وقد احمرت عيناه , وحول رقبته كان يتدلى زق معدني . فقربه من شفتيه ليشرب ثانية , ثم قال : " أيها الذئب , سأخبرك شيئاً . أنت الذي صرع شقيقتك . "
فقلت : " أنت الذي فعل ذلك أيها السافل . "
" وأنا أخبرك بأنه من صنيعك . كنت صاحب الخطوة , فيما كان أورليك العجوز يتعرض للإهانة والضرب , والآن ستدفع ثمن ذلك . "
شرب ثانية وازداد في شراسته , ثم تناول الشمعة وقربها مني حتى أبعدت وجهي لأصونه من اللهي , وما لبث أن توقف فجأة , فشرب من جديد وانحنى للأسفل , فرأيت يده تمسك بمطرقة حجرية لها يد طويلة وغليظة . ودون أن أنطق بكلمة رجاء إليه , صرخت عالياً ورحت أصارع بكل ما أوتيت من قوة . في تلك اللحظة بالذات , سمعت صيحات استجابة ورأيت أشخاصاً ووميض ضوء يتسرب من الباب , ثم سمعت أصواتاً ورأيت أورليك يتعارك مع عدد من الرجال . شاهدته يفر منهم ويختفي في عتمة الليل .
فقدت الوعي بعد ذلك , وحين أفقت وجدت نفسي بلا وثاق , ممدداً على الأرض في المكان نفسه , ورأسي ملقاً على ركبة شخص فيما كان آخر منحنياً فوقي . كانا هربرت وستارتوب .
ضمدا ذراعي التي أصيبت أثناء صراعي في تحرير نفسي . وبعد قليل كنا في طريق العودة , فأخبرني هربرت كيف جاءا لإتقاذي . فقد سقطت مني الرسالة في الغرفة إذ كنت على عجلة من أمري , فوجدها هربرت بعد أن جاء هو وستارتوب بعد خروجي . أثارت لهجة الرسالة قلقه , خاصة أنها لا تنسجم مع الرسالة المستعجلة التي تركتها له فانطلق مع ستارتوب , واستعانا بدليل للمجيء إلى المنزل الصغير المجاور للكلاسة .
حين سمع هربرت صراخي , استجاب له واندفع يتبعه الاثنان .
ونظراً لقرب حلول نهار الأربعاء , قررنا العودة إلى لندن في تلك الليلة . كان قد أطل النهار حين وصلنا , فذهبت إلى الفراش حالاً ورقدت هناك طيلة النهار . حافظ هربرت وستارتوب على هدوئي , وأبقيا على ذراعي بالضماد باستمرار , وقدما لي بعض المشروبات المنعشة , وكنت كلما أغط في النوم أستيقظ بإجفالة لاعتقادي بأن الفرصة قد ولت في إنقاذ بروفيس .
يتبع ...