الفصل التاسع والعشرون
المجرم العائد
صباح الأربعاء كان أحد أيام شهر آذار \ مارس حين تشع الشمس بحرارة وتهب الرياح باردة . فاصطحبنا معاطفنا البحرية القصيرة وأخذت معي حقيبة . أما أين سأذهب وماذا سأفعل , أو متى سأعود , فكانت بالنسبة إلي مجهولة تماماً .
سرنا ببطء نحو درجات التامبل , ومكثنا نتسكع هناك وكأننا لم نصمم بعد على النزول إلى الماء . ثم صعدنا القارب وانطلقنا , تولى هربرت وستارتوب التجذيف , وتوليت أنا أمر الدفة .
كانت خطتنا كما يلي : نعتزم الإبحار في النهار حتى المساء , فنكون آنذاك بين ( كانت ) و ( أسيكس ) حيث يعرض النهر ويصبح منزوياً , ويقل السكان على ضفتيه , وحيث الحانات المنعزلة تنتشر هنا وهناك فنستطيع اختيار أحدها نلجأ إليه كموطئ للراحة . وكنا نعتزم المكوث هنا طيلة الليل . أما المركب البخاري المتوجه إلى هامبورغ , فإنه سيغادر لندن نحو التاسعة من صباح الخميس , فكان علينا معرفة الوقت لترقبه حيثما نكون فنناديه .
أنعشني الهواء البارد وأشعة الشمس وحركة الإبحار في النهر , بالأمل متجدداً . ما لبثنا أن مررنا بجسر لندن القديم , وفيما كنت أجلس في القارب , كان بإمكاني رؤية المنزل حيث كان يقيم بروفيس , ودرجات المرسى المجاور . قال هربرت : " هل هو هناك ؟ "
قلت : " ليس بعد . بلى , إني أراه الآن ! مهلاً يا هربرت , المجاذيف . "
لامسنا الدرجات برفق للحظة واحدة صعد بها القارب وانطلقنا من جديد . أحضر معه معطفاً بحرياً فظفاظاً وحقيبة من القماش الأسود فبدا وكأنه بحر نهري , وفق ما كنت أتمناه .
وضع ذراعه على كتفي فيما هو يجلس وقال : " ولدي العزيز ! ولدي المخلص العزيز , حسناً فعلت . شكراً لك , شكراً لك ! "
كان الأقل قلقاً بيننا . ليس لأنه لم يكترث , فلقد أخبرني أنه يأمل العيش ليراني واحداً من أفضل الرجال في بلد أجنبي , لكنه لم يكن ليزعج نفسه بالخطر قبل أن يداهمه .
مكثنا نجذف طوال النهار , إلا حين نعود نحو الشاطئ وسط الحجارة الزلقة نأكل ونشرب . لكن الليل كان يخيم بسرعة , فرحت أجيل النظر بسرعة بحثاً عن أي شيء يشبه المنزل .
أخيراً شاهدنا ضوءاً ومنزلاً , فعدنا إلى الشاطئ وسحبنا القارب لتمضية الليل . وجدنا أن المكان هو حانة , كانت قذرة للغاية , إنما كان في المطبخ موقد جيد , وكان هناك بعض البيض واللحم وشتى أنواع اللمشروبات لنشرب . كذلك كان هناك غرفتان بسريرين مزدوجين يناسبان أربعتنا , فحضرنا وجبة ممتازة على الموقد ثم آوينا إلى الفراش .
استلقيت وأنا أرتدي معظم ثيابي , فنمت ملء جفوني لبضع ساعات , عندما استيقظت نظرت إلى النافذة فوجدت رجلين ينظران إلى قاربنا . مرّا تحت النافذة , وفيما كان الظلام ما زال مخيماً لم أستطع رؤيتهما ثانية , فعدت إلى النوم من جديد . نهضنا باكراً وأخبرتهم بما رأيت , فاتفقنا أن نسير أنا وبروفيس على سبيل الحيطة إلى نقطة معينة , ثم ننتقل إلى القارب من هناك .
نُفذت الخطة , وحين أصبح القارب بمحاذاتنا , صعدنا إليه وجذفنا في أثر السفينة البخارية .
كانت الساعة الواحدة والنصف حين لمحنا بخارها , ثم ما لبثنا أن رأينا خلفها دخان سفينة أخرى . ولما كانتا تقبلان علينا بكامل سرعتهما , فقد جهزنا الحقائب وودعنا هربرت وستارتوب .
ثم شاهدت زورقاً بأربعة مجاديف ينطلق من الشاطئ على مسافة قريبة أمامنا , ويسير في نفس الاتجاه . باتت السفينة الآن قريبة جداً , وما لبث الزورق أن عبر طريقنا وأصبح بموازاتنا . كان بالإضافة إلى المجذفين رجلان , أحدهما ضابط يتولى الدفة , أما الآخر الذي كان يرتدي ثياباً تشبه ثياب بروفيس , فبدا وكأنه ينكمش ويهمس إلى رجل الدفة وهو ينظر إلينا .
تمكن ستارتوب بعد دقائق أن يميز أي سفينة هي الأولى , فقال لي بصوت منخفض : " هامبورغ . " . كانت تقترب نحونا بسرعة بالغة , وراحت ضربات مجاذيفها تعلو أكثر فأكثر . وشعرت وكأن خيالها بات فوقنا , حين نادى الرجال في الزورق لنا , فقال الرجل الذي يتولى الدفة : " لديكم مجرم عائد . ذلك هو الرجل المحتجب بالمعطف الفضفاض . اسمه آبل ماغويتش , وأحياناً بروفيس . إني أدعو هذا الرجل أن يستسلم ؛ وأدعوكم أن تساعدوننا . "
في تلك اللحظة , جعل زورقه يصطدم بقاربنا , وأمسك المجذفون بجانب قاربنا قبل أن ندرك ما كانوا يفعلون , مما تسبب بجلبة شديدة على متن السفينة , فسمعتهم ينادوننا , وسمعت الأمر يصدر بيقاف المجاذيف , سمعتها تتوقف , لكنني شعرت وكأن السفينة تسير فوقنا . في اللحظة تلك , رأيت رجل الزورق في يلقي بيده على كتف السجين , ثم رأيت بروفيس يقفز وينتزع المعطف عنق الرجل المنحني , فكان وجهه وجه المجرم الآخر القديم . رأيته يتراجع بنظرة من الخوف الشديد , وسمعت صرخة شديدة على متن السفينة ورشة صاخبة في الماء , فأحسست بالمركب يغرق تحتي . نُقلت من ثم إلى الزورق , حيث كان هربرت وكذلك ستارتوب . لكن مركبنا اختفى كما اختفا المجرمان .
ما لبث أن شوهد شيء غامق في الماء , ولما اقترب أكثر , تبين لي أنه ماغويتش , جاء يسبح . فنقل إلى متن الزورق وقيدت يداه ورجلاه في الحال .
استمر البحث الدقيق عن المجرم الآخر , لكن الجميع عرفوا بأنه غرق , فجذفوا نحو الحانة التي غادرناها مؤخراً , وهناك تسنى لي إحضار بعض الحاجيات إلى ماغويتش الذي تلقى إصابة بالغة في الذدر وأصيب بجرح عميق في الرأس . أخبرني بأنه اعتقد أنه انزلق من تحت السفينة , وأنه لقي صدمة في رأسه أثناء الصعود . حينما وضع يده على كومبيسون , وقف هذا وتهاوى إلى الوراء , فسقطا عن متن الزورق معاً . ثم جرى عراك تحت الماء , لكن بروفيس حرر نفسه وسبح بعيداً .
حين استأذنت الضابط بتغيير ملابس السجين المبتلة , بعد شراء أية ملابس أستطيع الحصول عليها من المنزل , أذن لي بذلك , موضحاً أن مسؤوليته هي التدقيق في أي شيء يخص السجين .
وهكذا انتقلت المحفظة التي كانت بحوزتي فيما مضى إلى يد القائد . بقينا في النزل حتى تراجع المد , فنقل ماغويتش إلى الزورق ووضع على متنه . كان على هربرت وستارتوب العودة براً إلى لندن بأقصى سرعة ممكنة . وشعرت أن مكاني هو بجانب بروفيس طالما أنه على قيد الحياة . فقد تلاشى شعوري بالكراهية تجاهه ولم أعد أر فيه سوى الرجل الذي عمل ليحسن إلي , وشعر نحوي بالمحبة والعرفان بالجميل . لم أر فيه سوى رجل أفضل بكثير مما كنت تجاه جو .
عندما رجعنا إلى لندن , أخبرته بمدى الحزن الذي ينتابني حين أفكر بأنه عاد إلى بلده من أجلي . فأجاب : " يا بني , إنني في غاية الرضى لأنني جربت حظي فقد رأيت ولدي , ويستطيع أن يكون سيداً بدوني . "
كلا . لقد فكرت في ذلك . كلا . كنت أعلم أنه نظراً لإدانته في الحكومة ستأخذ ممتلكاته . لكن لا ينبغي أنه يعلم بأن آماله في إثرائي قد تلاشت .
الفصل الثلاثون
عقاب العودة
في تلك الفترة الكئيبة من حياتي عاد هربرت إلى المنزا ذات مساء , وقال بأنه سيتركني قريباً . فهو ذاهب إلى القاهرة لبعض الأعمال . سألني إذا ما كنت فكرت بمستقبلي , وحين أخبرته بأنني لم أفعل , قال : " في فرعنا بالقاهرة يا هاندل , إننا بحاجة إلى ـــ "
شعرت بأنه لم يشأ قول الكلمة الصحيحة , فقلت : " كاتب . "
" كاتب , ولعله يصبح شريكاً بعد فترة وجيزة . والآن يا هاندل , هل تأتي ؟ "
شكرته بحرارة , لكنني قلت بأنني لست متأكداً من الالتحاق به مثلما تلطف وعرض علي . فقال بأنه سيترك المسألة معلقة لستة أشهر , أو حتى سنة , إلى أن أتخذ قراري . وسر كثيراً حين اتفقنا على هذا الدبير , وقال بأنه سيجرؤ الآن بإعلامي أنه يعتقد بأن عليه المغادرة في نهاية الأسبوع .
ودعت هربرت نهار السبت من ذلك الأسبوع , وكان قلبه يعتمر بالأمل المشرق , لكنه كان حزيناً وآسفاً لمغادرتي . بعد ذلك عدت إلى منزلي الموحش .
اضطجع بروفيس في السجن تحت وطأة المرض الشديد ينتظر محاكمته طيلة الوقت وراحت صحته تسوء وتضعف منذ أن أُغلق باب السجن .
حان موعد لبمحاكمة في الحال , فسمح له بالجلوس على كرسي في المحكمة , وسمح لي بالوقوف إلى جانبه خارج سجن الإتهام , والامساك بيده . كانت المحاكمة قصيرة وواضحة جداً , وقيل ما يمكن أن يقال عنه في الدفاع عنه ـ كيف اتبع عادات كادحة واغتنى وفق ما يمليه القانون والضمير . لكن الحقيقة بقيت في أنه عاد إلى إنجلترا , فكانت عقوبة عودته هي الموت , وعليه الاستعداد للموت . ورحت أتمنى وأصلي بإخلاص أن تكون وفاته بسبب المرض .
وفيما الأيام تمر , رأيت تحولاً عظيماً لم ألحظه لديه من قبل . فسألته ذات يوم : " هل تعاني من الألم الشديد اليوم ؟ "
" لا أشكو من أي ألم يا ولدي . "
" إنك لا تشكو أبداً . "
كان ينطق بكلماته الأخيرة , ابتسم ورفع يدي ووضعها على صدره .
" عزيزي ماغويتش , يجب أن أخبرك الآن أخيراً . هل تفهم ما أقول ؟ "
ظغط على يدي بلطف .
" كانت لك طفلة أحببتها وفقدتها . "
ضغط على يدي بشدة أكثر .
" عاشت ولقيت أصدقاء أشداء . إنها تعيش الآن , وهي سيدة وفي غاية الجمال . وأنا أحبها ! "
وبجهد هزيل أخير رفع يدي إلى شفتيه , ثم انخفض رأسه على صدره بهدوء .
يتبع ...