الفصل الثاني
روبنسون كروزو يصبح تاجراً ويؤسر
في لندن , كنت محظوظاً تماماً بمصادفة بعض أصدقاء جيدين جداً . كان أحدهم قبطان سفينة تجارية كانت على شاطئ غينيا .كان سيذهب إلى هناك ثانية ودعاني أن أذهب معه . أخبرني أن الرحلة لن تكلفني شيئاً . وإذا أحببت أن آخذ معي أي شيء لأبيعه , يمكنني أن أفعل هذا وقد أكسب ربحاً جيداً .
قبلت عرضه وتابعت الرحلة معه , حملت معي ما يعادل حوالي أربعين جنيهاً من الألعاب وبعض السلع الأخرى التي أخبرني القبطان أنه يمكنني بيعها بكل سهولة . جعلت مني هذه الرحلة بحاراً وتاجراً معاً . أحضرت معي إلى الوطن من الرحلة ما يزيد عن خمسة أرطال من تراب الذهب بعتها في لندن بمبلغ ثلاثمائة جنيه .
شجعني نجاح هذه الرحلة على أن أذهب مرة أخرى , مع أن صديقي القبطان مات حالما رجعنا , قررت أن أذهب إلى غينيا ثانية بنفس السفينة . تركن مائتي جنيه من ربح الثلاثمائة جنيه في يدي أرملتي القبطان الأمينتين . أخذت معي في الرحلة ما يكافئ مائة جنيه تقريباً من البضائع لأبادلها بالذهب . أملت في هذه الرحلة حتى أن أكسب ربحاً أكبر . أسفرت الرحلة عن كونها أسعد رحلة قمت بها في أي وقت من الأوقات .
فيما نحن نذهب نحو جزر الكناري طاردتنا سفينة قراصنة تركية . أبحرنا بأسرع ما أمكننا , لكن سفينة القراصنة كانت أسرع منا وأمسكت بنا خلال بضع ساعات . قتل القراصنة ثلاثة من رجالنا وجرحوا ثمانية آخرين . أُخذنا كلنا كأسرى .
جعلني قبطان سفينة القراصنة عبده . عند نهاية الرحلة أخذني إلى بيته , وأملت أنه حين سيذهب إلى البحر ثانية سيأخذني معه . فكرت أنه عاجلاً أو آجلاً سيؤخذ هو نفسه سجيناً من قبل سفينة إسبانية حربية . عندئذ سأصبح حراً . لكن حين ذهب القبطان تركني في بيته لأعتني بحديقته وأقوم بالشغل في منزله .
حين عاد ثانية أُرسلت لكي أعيش على ظهر السفينة لأحرسها . هنا بدأت أفكر بطرق هرب , لكن لم تتح لي فرصة على الإطلاق إلى أن مضت سنتان . غالباً ما استخدمني القبطان للذهاب لصيد السمك في الخليج القريب من بيته . كان سيأخذ قارباً من قواربه الأصغر العائدة إلى سفينته . كنت سأذهب معه لأجذف القارب بمساعدة أحد خدمه . أحياناً كان يأتي أحد أقاربه , وهو مغربي , بدل من القبطان .
حدث أن استقبل القبطان القرصان ذات يوم بعض الضيوف الآتين إليه . أراد أن يسليهم على ظهر سفينته , ولذلك أرسل كمية كبيرة جداً من الطعام أكبر من العادة . وأعددت كل شيء وانتظرت في الصباح التالي أن يصل القبطان وضيوفه . لكن , حين صعد على ظهر السفينة كان القبطان وحيداً. قال لي بأن ضيوفه لن يأتوا بعد كل هذا . أمرني أن أخرج كما هي العادة مع المغربي ونصطاد بعض السمك . قررت أن هذا هو وقت الهرب ، وهكذا بدأت أعد القارب ، لا لرحلة صيد سمك بل لرحلة بحرية .
في بداية الأمر طلبت من المغربي أن يحضر لنا شيئاً نأكله . قلت بأنه لم يكن من الجيد أن نأكل الطعام الذي أرسله سيدنا لضيوفه .قال المغربي بأن هذا كان صحيحاً وذهب ليحضر بعض البسكوت والماء الطازج . بينما كان بعيداً , خبأت في القارب كمية كبيرة من طعام القبطان . خبأت أيضاً بندقية وفأساً ومنشاراً ومطرقة . مع الطعام الذي سيحضره المغربي , سيكون في القارب طعام وفير لرحلة طويلة تماماً .
حين أعد كل شيء انطلقت في رحلتي لصيد السمك مع المغربي وخادم واحد . مررنا من المدخل إلى المرفأ وتابعنا حتى أصبحنا على بعد حوالي ميل من الشاطئ . اصطدنا السمك لبعض الوقت , لكننا لم نمسك بأي شيء .
قلت للمغربي : " ذلك لن ينجح . لن نمسك أبداً بأي شيء هنا . يجب أن نذهب أبعد في البحر . "
وافق وخطوت إلى الأمام في القارب إلى حيث كان يجلس المغربي . اعتقد أنني كنت سأبدأ في التجذيف . انحنيت كأنني سألتقط المجذافين , لكن بدلاً من هذا فاجأته ودفعت به بسرعة خارج القارب في البحر . ارتفع إلى السطح على الفور وبدأ يسبح نحو القارب . كان سيصل إليه بسرعة كبيرة , لكنني أحضرت البمدقية التي خبأتها وصوبتها نحوه .
أخبرته : " يمكنك أن تسبح جيداً لتصل إلى الشاطئ من هنا . إذا فعلت هذا لن أؤذيك , لكن إذا اقتربت أكثر من القارب سأطلق النار عليك . "حدق المغربي بي لبعض الوقت وكأنه لم يصدقني لكنني أبقيت البندقية مسددة عليه . أخيراً استدار وبدأ يسبح نحو الشاطئ . حين ذهب , استدرت إلى الخادم الذي كان يدعى قصوري .
وعدت : " قصوري , إذا أصبحت مخلصاً لي سأجعل منك رجلاً عظيماً . لكن إذا لم تقسم أن تكون صادقاً معي سأرمي بك في البحر . "
ابتسم قصوري لي ووعد بحماسة أن يكون مخلصاً حتى أنني أبقيته في القارب كرفيقي .
حالما حل الظلام رفعت الشراع وأبحرت إلى أسفل الساحل . تبعت خط الشاطئ , ومع بحر هادئ وريح تالية أحرزت تقدماً جيداً جداً . في حلول الساعة الثالثة في فترة بعد الظهر من اليوم التالي عرفت بأنني كنت على بعد يزيد عن مائة وخمسين ميلاً عن بيت القرصان . أردت أن أتأكد تماماً من أنني كنت آمناً , ولذلك لم أذهب إلى الشاطئ أو أنزل مرساة إلى أن أبحرت لمدة خمسة أيام . اعتقدت أنه لو كانت أي سفن تتبعني لكانت الآن قد تخلت عن المطاردة .
ذات مساء , رسوت في مرفأ نهر صغير . كانت خطتي أن أنتظر إلى أن يحل الظلام ومن ثم أبحر إلى الشاطئ . حين حل الظلام , انطلقت ضجة عالية لحيوانات مفترسة نابحة ومزمجرة . خاف قصوري خزفاً شديداً وتوسل إلي ألا أذهب إلى الشاطئ في تلك الليلة .
كان علينا أن نرسو على الشاطئ في مكان ما لأنه لم يتبق لدينا المزيد من الماء العذب في القارب , وهكذا انطلقنا في الصباح . أراد قصوري أن يذهب إلى الشاطئ وحده بينما حرست أنا القارب . فكرت أن من الأفضل أن نذهب نحن الاثنين معاً , وفي النهاية ذهبنا إلى الشطئ , وكل منا يحمل بندقية وجرتين للماء الطازج . حين حللنا على الشاطئ , افترقنا أنا وقصوري . ذهبت مباشرة إلى داخل البر , بينما سلك قصوري طريقه إلى أعلى الساحل . كان من اللازم أن يجد واحد أو الآخر منا جدول ماء عذب .
بعد وقت قصير جداً عاد قصوري جارياً على طول الساحل بأسرع ما استطاع . ظننت أن حيواناً مفترساً كان يطارده , فذهبت إليه بأسرع ما استطعت . حين اقتربت أكثر , وجدت أنه كان يحمل على كتفه حيواناً صغيراً أطلق عليه النار واصطاده . سررنا جداً في أن يكون لدينا لحم طازج نأكله ثانية .
كان علينا في مرات عديدة خلال رحلتنا أن نرسو طلباً للماء الطازج . ذات مرة في وقت مبكر من الصباح , حين كنا لصق الشاطئ , لاحظ قصوري أسداً .
قلت : " يمكنك أن تذهب إلى الشاطئ وتطلق عليه النار . "
قال قصوري وهو يبدو خائفاً : " لست أنا . ذلك الأسد سرعان ما سيأكلني . "
لم أقل المزيد , لكن بعد أن رفعت بندقيتي صوبت أفضل تصويب ممكن . لسوء الحظ كسرت طلقتي الأولى رجل الأسد , نهض على ثلاثة أرجل وأطلق أعظم زئير مثير للخوف . أطلقت النار مرة أخرى , فأصبته هذه المرة في الرأس . مع أن الأسد لم يكن ذا نفع للطعام , فكرت بأن جلده قد يكون ذا قيمة لنا . لذلك انطلقت أنا وقصوري للعمل على سلخ جلده . عملنا طيلة اليوم كله وأنهيناه أخيراً . فردنا الجلد في الخارج ليجف في القارب , وبعد يومين كان جاهزاً ليخدمنا كساجدة أتمدد عليها .
إلى الامام أبحرنا إلى الجنوب لمدة ثلاثة أسابيع أخرى . فجأة , صاح قصوري ذات يوم بصوت عال : " سيدي , سيدي , سفينة كبيرة ! "
نظرت إلى حيث أشار ورأيت سفينة برتغالية . أدرت قاربنا في اتجاهها . كانت سريعة جداً إلى درجة أنني خفت أن تمر عنا قبل أن أتمكن من أطلق أي إشارة . لحسن الحظ , رآنا شخص على ظهر السفينة من خلال منظاره المقرب , فأبطأت السفينة البرتغالية . استغرقت ثلاثة ساعات من الإبحار الشاق لألحق بالسفينة وأصل إلى جانبها . أخيراً وصلت إليها وأمسكت بالحبل الذي رماه أحد البحارة إلى الأسفل . حين ربط ربطاً آمناً , تسلقت أنا وقصوري وصعدنا إلى ظهر السفينة الشراعية الكبيرة .
الفصل الثالث
تحطمت السفينة بروبنسون كروزو
كنت سعيداً جداً في أن أتحرر من جديد , فعرضتُ على قبطان السفينة كل شيء كلن لدي مقابل سلامتي . أجاب بأنه لن يأخذ أي شيء مني . كانت سفينته تتجه إلى البرازيل , ووعد أنني حين أرسو هناك فإنه يمكنني أن آخذ كل ممتلكاتي معي .
قال : " لقد أنقذتُ حياتك , بنفس الشروط التي سأريد أن أُنقذ بها أنا نفسي . في وقت ما قد أكون في نفس الحاجة كما كنت أنت . "
أراد القبطان أن يشتري قاربي وسأل كم أريد مقابله . أجبت بأنني لن أستطيع أن أسمي بأي سعر , لكنني سأقبل بأي عرض يتقدم به . عرض علي ثمانين قطعة من الفضة مقابل القارب وستين قطعة من الفضة أيضاً مقابل قصوري . في البداية لم أرد أن أفترق عن قصوري بعد أن ظل مخلصاً لي إلى هذا الحد خلال رحلتنا . مع هذا , وعد القبطان أنه سيحرر قصوري خلال عشر سنين من الزمن , وكان الولد راغباً في أن يذهب , لذلك وافقت على أن أبيعه .
أمضينا رحلة جيدة جداً إلى البرازيل ووصلنا بعد ثلاثة أسابيع من انضمامنا إلى السفينة . ما كان القبطان سيقبل أي نقود مني لرحلتي البحرية وأعطاني كل ما وعدني به . وأعطاني أيضاً أربعين قطعة من الفضة مقابل جلد الأسد .
حين تركت السفينة كان لدي مائة وثمانين قطعة من الفضة . طيلة الأشهر القليلة الأولى التي عشتها مع مزارع سكر , تمتعت بالحياة كثيراً جداً حتى أنني قررت أن أحاول أيضاً حظي كمزارع . لأجل هذا احتجت إلى أن أحصل على باقي نقودي من لندن . وعدني صديقي الطيب , قبطان السفينة البرتغالية , أن يساعدني على فعل هذا .
قال : " إذا أعطيتني رسالة يا مستر أنجلشمان , سآخذها من أجلك لأرملة التي لديها نقودك في لندن . حين آتي إلى البرازيل ثانية , سأُحضر بضاعتك التي ستكون قادراً على بيعها بربح جيد . "
بينما كنت أنتظر عودته , اشتريت قدر ما في إمكانياتي من أرض . كان لدي جار في الوضع نفسه تماماً كوضعي . في البداية , زرعنا الأرض لطعامنا الخاص بنا . فيما بعد , نظفنا ما يكفي من أرض لنكون قادرين على زراعتها بالتبغ . أعددت أيضاً حتى قطعة أرض أكبر استعداداً لليوم الذي سأتمكن فيه من زراعة قصب السكر . الآن , وقد أصبح لدي الكثير جداً من الأرض جاهزة للزراعة , أدركت بأنني سأحتاج بعض المساعدة في أرضي . كنت آسفاً لأنني افترقت عن الولد قصورس .
كان القبطان جيداً قدر ما كانت كلمته كذلك . أخذ رسالتي إلى الأرملة في لندن التي كانت تعتني بنقودي . أرسلت مائة جنيه لعدد من التجار الذين أرسلوا بضاعة بتلك القيمة إلى القبطان في لشبونة . أحضر لي مجموعة من قماش وبضاعة قيمة أخرى كنت قادراً على بيعها بسهولة . بالربح الذي كسبته , أصبحت قادراً على أن يصبح لدي ثلاثة خدم , ساعدوني في منزلي وفي حقولي .
خلال الوقت الذي عشت فيه في البرازيل طيلة ما يزيد عن أربعة سنين , عرفت اللغة جيداً . أصبح لدي العديد من الأصدقاء المزارعين وأيضاً تجار سان سلفادور . غالباً ما أخبرتهم عن رحلاتي التجارية إلى ساحل غينيا . وأخبرتهم أيضاً كم كان سهلاً أن أتاجر بالخرز والمقصات والألعاب مقابل تراب الذهب والعاج . أُثير اهتمام التجار جداً لسماع أنه من الممكن أيضاً الحصول على عبيد سيعملون في الأراضي .
بعد بعض الوقت
أتى ثلاثة مزارعين ليروني . أخبروني بأنهم في حاجة ماسة إلى عمال أكثر لأراضيهم . أرادوا مني أن أبحر معهم في سفينة إلى ساحل غينيا . وعدوا مقابل مساعدتي أن يكون لي حصة مكافئة من العبيد الذين سيحضرونهم بعودتهم ، وأن الرحلة لن تكلفني شيء .
كان هذا عرضاً جيداً جداً قبلته . رتبت أن يعتنى بضيعتي وأنا بعيد ، وانطلقنا مبحرين حالما كان كل شيء جاهزاً . عبرنا خط الاستواء بعد عشرة أيام . وبعد فترة قصيرة جداً من الزمن قابلتنا عاصفة بعنف لمدة أسبوعين حتى أننا لم نستطع أن نفعل شيئاً بل أن أذهب إلى حيث تأخذنا الريح .
حين هبطت الريح نظرنا إلى خرائطنا البحرية ووصلنا إلى استنتاج أن أقرب أرض كانت جزيرة من جزر الهند العربية . امتدت هذه الجزر إلى شمالنا الغربي فأطلقنا أشرعتنا في ذلك الاتجاه . قبل أن نستطيع أن نصل إليها , واجهتنا عاصفة ثانية أبعدتنا عن مسارنا .
كانت الريح لا تزال تهب بقوة شديدة جداً ذات صباح حين صاح أحد رجالنا في مركز المراقبة بصوت عال : " يابسة أمامنا . " جرينا كلنا على ظهر السفينة لنلقي نظرة . فيما نحن نفعل هذا حصل تهشم مكتوم وارتجت السفينة بعنف . غُرزنا في ضفة رمال . كانت الأمواج تتكسر على جوانب السفينة , وكان لاماء ينصب على الأسطح . لن يمر وقت طويل قبل أن تتكسر السفينة إلى قطع في هذا البحر .
لحسن الحظ هدأت الريح قليلاً , وفكرنا أننا سنحاول أن نطلق أحد قوارب سفينتنا . كان القارب في المؤخرة قد تهشم إلى قطع بفعل الأمواج , لكن كان لدينا قارب آخر على ظهر السفينة كنا قادرين على إنزاله من الجانب بأمان . ركب أحد عشر رجلاً منا فيه وبدأنا نجذف على أفضل وجه نستطيعه نحو الأرض . قبل أن نذهب بعيداً جداً , أتت موجة هائلة من خلفنا . رفعت القارب كأنه كان ريشة ودفعته للأمام . خلال ثانية كنّا كلنا نكافح في البحر .
الفصل الرابع
روبنسون كروزو يرسو على الجزيرة
أنا سباح جيد , لكنني كنت عديم القوة في بحر مائج كهذا . حملتني موجة للأمام وتركتني على الشاطئ نصف ميت من كمية الماء الذي ابتلعته . كان لدي ما يكفي من نفس لأنهض , وأترنح نحو الأرض , قبل أن تحلق بي موجة أخرى . سرعان ما وجدت أن من المستحيل أن أتجنب لحاق البحر بي . رأيت موجة أخرى عالية علو تلٍ تتقدم نحوي . أردت أن أحاول السباحة معها حتى إلى مكان أبعد على الشاطئ . حين وصلت إلى دُفنت إلى عمق عشرين قدماً . حبست أنفاسي وحُملت إلى الأمام بسرعة عالية . حدث هذا عدة مرات إلى أن وصلت أخيراً إلى قاع جُرف . تمكنت من التسلق إلى القمة , وهناك جلست متحرراً من الخطر .
نظرت حولي لأرى إذا كان من الممكن أن أرى أي أثر لأصدقائي . لم يكن هناك أي أثر منهم يُرى في أي مكان , فاستنتجت أنه لابد وأن يكونوا قد غرقوا . كان قلبي مليئاً بالعرفان بالجميل لنفسي , وفي الوقت نفسه كنت آسفاً على رفاقي . أسفت أسفاً شديداً على أن أحداً من أصحابي لم يظهر بأنه أُنقذ من السفينة . كان كل ما رأيته منهم في أي وقت ثانية طاقية , وثلاث قبعات وفردتي حذائين مختلفتين . في الوقت نفسه كنت شاكراً جداً بأن الله قد أبقى عليّ . مشيت إلى الأمام والخلف , رافعاً يدي في صلاة وتأمل في رحمة اله الواسعة لي .
سرعان ما بدأت أتعجب ما الذي كنت سأفعله بعدئذٍ . كنت مبللاً تماماً , ولم يكن لدي ملابس يمكنني التغيير بها . لم يكن لدي أي شيء آكله أو أشربه , كان كل ما لدي سكين , وصندوق تبغ يحتوي على قليل من التبغ .
مشيت مسافة قصيرة في اليابسة لأرى إذا ما كنت أستطيع أن أجد أي ماء طازج , لأنني كنت عطشاً جداً . في طريقي قطعت عصى قوية أدافع بها عن نفسي ضد أي حيوانات قد تهاجمني . بعد أن مشيت لبعض الوقت وجدت نبعاً صافياً , وبعد أن شربت كثيراً منه , شعرت بأنني في حال أفضل كثيراً .
بدأ الظلام يخيم , لذلك كان علي أن أجد مكاناً أقضي فيه الليل . قررت أن آمن مكاناً للنوم سيكون بين فروع شجرة . وجدت شجرة مناسبة , تسلقتها ونمت مستريحاً قدر ما أمكنني ذلك .
حين استيقظت كان الصباح قد طلع , والعاصفة قد توقفت والسماء صافية . اندهشت لرؤيتي أن سفينتنا , وخلال الليل , كانت قد رفعتها الأمواج من ضفة الرمل , حيث كانت قد وصلت إلى الأرض , وحُملت إلى قاع الجروف . كانت تستقر على بعض الصخور تحت الماء وبدا أنها تقف قائمة .
بعد وقت قصير من منتصف النهار , اختفت حركة المد , ووجدت أنه يمكنني أن أمشي ضمن ربع ميل من السفينة . كنت مصمماً على أن أصعد إلى ظهرها لأرى إذا ما كان يمكنني أن أجد أي شيئاً سيكون نافعاً لحياتي في الجزيرة . خلعت ملابسي وسبحت إلى السفينة . حين وصلت إليها وجدت حبلاً يتدلى إلى جانبها . بمساعدته أصبحت قادراً على التسلق إلى ظهر السفينة .
كان هناك الكثير جداً من الماء في مخزن السفينة , بينما كانت مقدمات السفينة منخفضة جداً حتى أنها استقرت تحت الماء تقريباً . كانت المؤخرة خارج الماء تماماً , وكان كل شيء عند نهاية السفينة جافاً . سررت في أ ن الكثير من الطعام على ظهر السفينة لم يكن قد مسّه ماء البحر المالح . ولأنني كنت جائعاً , ملأت جيوبي بالبسكوت الذي أكلته وأنا أذهب متجولاً في أنحاء السفينة .
رأيت أنني كنت سأحتاج إلى قارب لأحصل على كل ما أحتاج إليه في الشاطئ . وجدت بعض السواري الالإضافية وبعض ألواح الخشب . ربطت هذه في حبل وعكلت منها طوفاً قوياً قوة كفاية لحمل حمولة ثقيلة .
في بداية الأمر , وضعت على طوفي كل ألواح الخشب التي أمكنني أن أجدها . ثم ملأت صندوقاً خشبياً كبيراً بالخبز والجبن والأرز , وبعض اللحم المجفف . في دكان النجار وجدت صندوقاً مليئاً بالأدوات . كانت هذه في تلك اللحظة أنفع لي من كيس ذهب , فوضعتها بعيداً على ظهر الطوْف . احتجت إلى بندقية وبعض الذخيرة الاي وجدتها في مقصورة القبطان . كانت هناك بندقيتان ومسدسان , أخذتها مع بعض قرون مسحوق البارود , وكيس طلقات صغير وسيفين صدئين قديمين .
عرفت أنه في مكان ما في السفينة يوجد ثلاثة براميل من مسحوق البارود , وبعد البحث وجدتها . كان برميلان منها جافين , لكن الثالث كان قد تبلل وأصبح بلا نفع . وضعت البرميلين الجافين على ظهر الطوف مع البنادق والمسدسات .
كان لدي الآن ما يكفي من حمولة على ظهر الطوف لرحلة واحدة , فبدأت أفكر في العودة إلى الشاطئ . وجدت أنه بلا أي شراع أو دفة توجيه لم يكن من السهل بأي وسيلة السيطرة على الطوف . كان كل ما لدي , لأوجه الطوف به , مجذاف مكسور يستقر على ظهر السفينة .؟
كنت أبحث عن خليج صغير يمكنني استخدامه كميناء . بعد وهلة , وجدت خليجاً , ومن حسن الحظ أن حركة المد والجزر أخذت طوفي إلى داخله . من سوء حظي أنني وأنا أسلك طريقي إلى منتصف الخليج , ضربت ضفة رمل وانغرز الطوف . لم يكنن هناك من شيء سيمكنني من تحريك الطوف إلى حين يحل المد داخل الخليج.
بينما كنت أنتظر أن يحدث هذا ، نظرت بإمعان إلى الشاطئ على كلا جانبي الخليج.
احتجت إلى امتداد شاطئ منبسط رملي أرسي عليه حمولتي . وأسفر أول مكان اخترته أنه لم يكن مناسباً عند الفحص المدقق . كان هناك منحدر قد يقلب حمولتي الغالية التي جمعتها من المخازن إلى داخل الماء . على مسافة أبعد في الخليج لاحظت قطعة منبسطة على الشاطئ ظننت أنها ستغطيها حركة المدحين يصل إلى داخل الخليج .
بعد بضع ساعات كان هذا ما حدث ، وحالما غطى الرمل دفعت طوفي إلى الشاطئ. ثبته بغرز المجذاف المكسور في داخل الرمل وانتظرت إلى أن ابتعدت حركة المد . بقي طوفي وكل حمولته سالماً على الشاطئ .
على بعد حوالي ميل واحد مني كان هناك تل عال , وبعد أن أخذت واحدة من بندقياتي , انطلقت لأتسلق إلى القمة . أردت أن أرى أي نوع من المكان كان هذا الذي أتيت إليه . حين وصلت إلى القمة رأيت أنني كنت في جزيرة , وأنه لم يكن هناك أي أرض في مجال البصر .
عدت إلى طوفي وأحضرت حمولته إلى الشاطئ بأسرع ما أمكنني , حين كان الوقت يقترب من المساء , استعلمت الصناديق وألواح الخشب التي أحضرتها لأعمل لنفسي مأوى بسيطاً لليل .
قررت أن أحاول الحصول على ما يمكنني الحصول عليه من السفينة قبل أن تحطمها عاصفة أخرى وتكسرها إلى قطع . في زيارتي الثانية , تسلقت إلى سطح السفينة كما في السابق وبنيت طوفاً آخر . بعد تجربتي في اليوم السابق كان الطوف أخف كثيراً جداً , ولم أضع فيه الكثير جداً من الحمولة .
أحضرت بعض المزيد من المسامير وبعض المزيد من الأدوات من دكان النجار . وجدت المزيد من المسدسات , والطلقات ومسحوق البارود وبعض الملابس . وضعت هذه الأشياء على الطفْو مع أشرعة إضافية , وشبكة نوم وبعض الملاآت .
حين بلغت الشاطئ , بدأت أعمل لنصب خيمة صغيرة بالشراع وبعض الأعمدة التي قطعتها لهذا الغرض . حين أنهيت هذا , جلبت إليها كل شيء عرفت بأنه سيتلف من المطر والشمس . رتبت الصناديق الفارغة في دائرة حول الخيمة , وعملت فراشاً على الأرضية . حين أتمدد مستلقياً , يكون لدي مسدسان قرب رأسي وبندقية إلى جانبي لحمايتي . كنت تعباً , وكنت مشغولاً طيلة النهار , وسرعان ما نمت .
في كل يوم من الآن , حين تكون حركة المد قد انحسرت عن الخليج , ذهبت وصعدت إلى ظهر السفينة . تدريجياً حضرت كل الأشرعة والتجهيزات , حتى أنني أحضرت بعض كوابل الحديد , لكن هذه أسفرت عن أنها أثقل من أن يحملها طوفي . في طريق العودة إلى الشاطئ , انقلب الطوف وسقطت الكوابل في البحر . مع هذا , حين خرج المد أصبحت قادراً على استعادة الكوابل واحداً فواحداً . في واحدة من رحلاتي , سررت لاكتشاف بعض المزيد من الطعام , بما فيها السكر والخبز والدقيق .
سرعان ما ضللت الجزيرة مدة أسبوعين وقمت بإحدى عشر رحلة إلى السفينة . في رحلة أخيرة من كل هذه الرحلات لاحظت خزانة كنت قد أهملتها في السابق . كان فيها ثلاثة أمواس حلاقة , ومقص كبير ودزينة من سكاكين جيدة وشوك . كانت هناك أيضاً بعض النقود الأوروبية والبرازيلية , تعادل حوالي ستة وثلاثين جنيهاً في المجموع . حتى الآن , كنت قد أخذت من السفينة كل شيء ذا قيمة لي , وبدأت أدرس أين أعيش في الجزيرة . كانت خيمتي على أرض منخفضة إلى حد ما قرب البحر , ولم أفكر بأنه سيكون من الصحي أن أعيش هناك لمدة طويلة جداً . كانت هناك أربع نقاط كان لابد أن أضعها في عقلي في اختيار موقع بيتي . في بداية كل شيء , احتجت إلى أن أجد مكاناً سيكون صحياً وقرب بعض الماء العذب . ثانياً , يجب أن تكون هناك حماية من حرارة الشمس . ثالثاً , يجب أن أكون آمناً من هجمات المتوحشين أو الحيوانات المفترسة . وآخر ما في الأمر , إذا صادف أن أتت سفينة قرب الجزيرة بالصدفة , لن أغفل عنها .
الفصل الخامس
روبنسون كروزو يبني منزله
أخيراً وجدت مكاناً مناسباً أعيش فيه . كان سهلاً صغيراً على سفح تل . كان السهل يرتفع من التل حتى أن شيئاً لم يكن يمكن أن يهبط عليّ من أعلى . كانت الأرض المنبسطة على مسافة حوالي مائتي ياردة طولاً ومائة ياردة عرضاً . انحدرت النهاية الأقرب من البحر إلى الأسفل بلطف نحو الأرض المنخفضة المؤدية إلى الشاطئ . كان السهل على جانب التل , الذي كان محمياً من الشمس حتى المساء .
قبل أن أنصب خيمتي , وقفت وظهري إلى سفح التل , مواجهاً البحر . خطوت عشر خطوات للأمام ووضعت علامة . ثم عدت إلى موضعي السابق وخطوت عشر خطوات , أولاً إلى اليسار وبعدئذٍ إلى اليمين . جمعت هذه العلامات بحبل لتكوِّن نصف دائرة . حول طرف نصف الدائرة , وضعت صفين من أوتاد قوية . وقفت على بعد خمسة أقدام من الأرضية وكانت لها حافات حادة . ثم أخذت أطوال الكوابل , التي أخذتها من السفينة , ووضعتها في صفوف الأوتاد . أخيراً , قطعت بعض الأوتاد الأصغر ودفعت بها في داخل الأرض مكونة زاوية , حتى أنها تصرفت كدعائم لأوتاد أكبر . كان السياج الآن قويً جداً حتى أنه لم يكن أي إنسان أو أي حيوان يستطيع أن يصل من فوقه أو من خلاله . خلفي , كوَّن جانب التل المنحدر دفاعاً طبيعياً .
لم أضع فتحة باب كي أدخل إلى داخل الأوتاد , بل استعملت سلماً قصيراً لتسلق قمة السياج . حالما كنت أصل إلى الداخل كنت أرفع السلم ورائي , حتى أصبح محاطاً بالسياج وسالماً بالكامل . أحضرت إلى الداخل كل ذخيرتي , وطعامي وخزيني .
عملت خيمة كبيرة من شراع القنب ووضعت خيمة أصغر بداخلها , لكي أظلّ جافاً تماماً مهما كان المطر قاسياً . في الليل , كنت أنام مستريحاً جداً في شبكة نوم معلقة كانت تعود ذات مرة إلى أحد الضباط .
اعتدت كل يوم أن أخرج ببندقيتي , وسرعان ما اكتشفت أن هناك ماعزاً في الجزيرة . كانت خجولة جداً , تجري بسرعة , مما جعل من الصعب إطلاق النار عليها . لاحظت أنها لا تهرب بسرعة كبيرة , إذا كانت تتغذى في الوديان وأكون أنا على الصخور فوقها . بعد ذلك تسلقت دائماً الصخور أولاً . كانت الماعز الأولى التي أطلقت النار عليها وأصبتها ماعز أنثى إلى جانبها جدي صغير هو ابنها . حملت الماعز الصغير إلى بيتي على كتفي وحاولت أدجنه . لسوء الحظ لم يكن ليأكل أياً من الطعام الذي قدمته إليه , لذلك كان علي أن أقتله . زودني الماعزان بلحم طازج لبضعة أيام .
أدركت أنني سأفقد كل عدٍ للزمن إلا إذا عملت نوعاً ما من روزنامة . صنعت صليباً كبيراً من الخشب ووضعته على الشاطئ حيث رسوت . عليه نقشت الكلمات : " حللت على الشاطئ هنا في شهر أيلول الـ 30 في سنة 1659 " . على جوانب العمود القائم قطعت حزاً بسكيني كل يوم . في كل يوم سابع كنت أقطع حزاً بضعف طول هذا الطول . في اليوم الأول من كل شهر كنت أحز حزاً ضعف هذا الحز ثانية . على هذا النحو علمت مرور الزمن .
كانت هناك الكثير من الأشياء الأخرى أحضرتها من السفينة كان يجب أن أذكرها في وقت سابق . كان لدي الآن إمداد من أقلام حبر وورق . ثم أحضرت كل معدات إبحار السفينة , مثل البوصلات والخرائط البحرية . وجدت أيضاً ثلاثة أناجيل جيدة جداً أتتي مع حمولتي من إنجلترا . ولابد ألا أنسى أن أخبركم بأنني أنقذت قطتين وكلباً من السفينة . حملت القطتين إلى الشاطئ , بينما قفز الكلب في البحر وسبح حتى الشاطئ . كانت هذه المجموعة أصحابي في حياتي الموحشة .
جعل افتقاري للأدوات الصحيحة لأعمال أردت إنجازها عملي بطيئاً جداً . كانت قد مضت سنة قبل أن أكون قد أعددت بيتي كما أردته . بعد أن أكملت السياج أعددت نفسي لصنع طاولة وكرسي . ثم عملت بعض الأرفف على الصخرة في خلفية خيمتي , وأخيراً عملت حاملاً يمكنني تعليق بندقياتي عليه .
حين انتهيت سررت سروراً عظيماً في أن أرى كم من الأشياء الضرورية كانت لدي , وكيف رتبتها كلها على نحو جيد .
في حوالي هذا الوقت بدأت أحتفظ بمذكرات لما أفعله كل يوم . أُعيقت مهمتي في الكتابة بحقيقة أنه لم يك لدي أي شموع . حالما يحل الظلام , في حوالي السابعة عادة , كان علي أن آوي إلى الفراش . بعد بعض الوقت اكتشفت بأنني , بإبقائي بعض الدهن من أي ماعز أصيده , كان يمكنني أن أصنع مصباحاً , باستعمال قطعة صغيرة من حبل كفتيلة . قدم إلي هذا ما يكفي من نور لأصبح قادراً على أن أرى لأكتب مذكراتي , مع أنه لم يكن هناك في أي مكان تقريباً ما هو ساطع النور كشمعة .
ذات يوم , حين كنت أبحث عن شيء , عثرت صدفة على كيس صغير . في رحلتنا كنا قد حملنا بضع دجاجات , وكان هذا الكيس قد حمل الذرة لها لتأكلها . بدا أن معظم الذرة التي بقيت في الكيس قد أكلتها الفئران , لكن بعضها بقي في القاع . هززت البواقي على العشب خارج سياجي . كان هذا قبل أن يبدأ الموسم الممطر تماماً . بعد حوالي شهر لاحظت بعض الشتلات الخضر تبرز من الأرض . بعد وهلة قصيرة , اندهشت بأن رأيت بعد مدة تلك الشتلات تحولت إلى سوق شعير . حين نضج الحب فيما بعد احتفظت به بعناية وخططت أن أزرعه في السنة التالية . فعلت هذا لمدة سنين عديدة ومن ثم وجدت بأن لدي ما يكفي من الشعير لأصبح قادراً على استعمال بعضه لأغراض الخاصة . فعلت نفس الشيء مع بعض الرز الذي وجدته , ومع الشعير أصبحت قادراً على صنع بعض الخبز وبعض كعك الرز .
يتبع ... :
|