الفصل العاشر
قارب كانو آخر يُبنى
بدأت أبهج سني إقامتي في الجزيرة الآن . علمت جمعة أن يسخن الذرة ويخبز الخبز . خلال وقت قصير أصبح قادراً على القيام بالعمل كله تماماً كما استطعت أنا أن أقوم به . بدأ يتكلم جيداً تقريباً ليفهم أسماء كل شيء أردته . كان سروراً عظيماً لي أن أصبح قادراً على الكلام إلى شخص ثانية بعد كل هذه السنين .
سألته عن مدى بعد البر الرئيسي عن الجزيرة وعما إذا كانت قوارب الكانو دائماً ما تضيع غالباً في البحر . بدا أن لديه فكرة ضئيلة جداً عن المسافات , لكنه أخبرني أن هناك خطراً ضعيفاً جداً وأن قوارب الكانو نادراً جداً ما تضيع . قال إن هناك , وعلى مسافة قريبة داخل البحر , تياراً وريحاً . في الصباح يتجه التيار في طريق واحد وفي فترة ما بعد الظهر يتجه في طريق آخر . من هذا فهمت أنه كان يتكلم عن حركات المد والجزر .
أخبرني جمعة عن شعبه الذين دعاهم بالكاريبيين . قال أيضاً بأنه على مسافة طويلة وراء الشمس الغاربة , عاش رجال مثلي ببشرة بيضاء ولحى .
قال جمعة : " إنهم يقتلون كثيراً من رجل . "
افترضت أنه كان يتكلم عن الإسبان . فقد كانت قسوتهم في جنوب أميركا معروفة حتى في أوروبا .
سألته : " هل ترى أن من الممكن الوضول إلى بلادهم ؟ "
أجاب : " نعم , نعم , يمكنك الذهاب إليها في قاربيّ كانو اثنين . "
بذلك عنى أن الإنسان يحتاج إلى قارب أكبر بحجم قاربيّ كانو اثنين .
بدوري أخبرت جمعة عن شيء من قصتي . وصفت له حياتنا في إنجلترا وكيف أنني تركت وطني وأتيت إلى البحر . وصفت كيف تحطمت السفينة التي كنت أبحر بها . حين سمع هذا جمعة استغرق في التفكير . قال بعد بعض الوقت : " أنا أرى قارباً هكذا يأتي إلى قومي . "
في البداية لم أفهم ما كان يحاول أن يخبرني به . ثم أدركت بأنه كان يقول بأن سفينة مثل سفينتنا كانت قد حطمتها عاصفة على شواطئ بلاده هو . وصفها لي ببعض التفصيل ثم أضاف شيئاً أثار اهتمامي إلى حد عظيم .
قال : " نحن ننقذ رجلاً أبيض من الغرق . "
سألت : " كم رجلاً أبيض كان هناك .؟ "
عد على أصابعه ليريني أن هناك سبعة عشر رجلاً في المجموع . تابع جمعة القول بأن الرجال البيض كانوا لا يزالون هناك وظلوا يعيشون من شعبة لمدة أربعة سنوات . سألته لماذا لم يقتل شعبه الرجال البيض ويأكلونهم .
أجابني : " عملوا أخاً معهم . شعبي لا يأكلون أي رجل إلا حين يشنون حرباً . "
ذات يوم حين كان الطقس صافياً جداً كنت أنا وجمعة على قمة تل في الجانب الشرقي من الجزيرة . نظر جمعة عبر البحر واُثير جداً . دعاني إلى جانبه وأشار بأصبعه .
قال : " يا للفرح , يا للفرح . هناك , انظر إلى بلادي . هناك قومي . "
سألته ما إذا كان يحب أن يعود إلى شعبه مرة أخرى .
أجاب : " نعم , سأكون مسروراً كثيراً لأن أكون عند قومي أنفسهم . "
سألت : " ما الذي ستفعله هناك ؟ هل ستتحول إلى متوحش مرة أخرى , تأكل لحم البشر وتصبح متوحشاً كما كنت من قبل ؟ "
" لا , لا , جمعة يخبرهم أن يعيشوا جيداً . جمعة يخبرهم أن يأكلوا خبزاً ولحم ماعز وأن يشربوا حليباً . لا يأكلون لحم رجلون ثانية . "
قلت : " لماذا ؟ إذن من المؤكد أنهم سيقتلونك . "
أجاب جمعة : " لا , هم لا يقتلوني . إنهم يرغبون في التعلم . "
حين سألته ما إذا كان سيعود إلى شعبه , قال جمعة بأنه ليس لديه أية قارب كانو وأنه لا يمكنه أن يسبح بعيداً جداً إلى هذا الحد . وعدت أن أصنع قارب كانو له , لكن جمعة لم يرد أن يذهب وحيداً .
استغربت : " لماذا ؟ سيأكلوني لو ذهبت معك . "
أجاب جمعة : " لا , لا , إنهم لا يأكلونك . إنهم لطفاء معك كما هم لطفاء مع الرجال البيض الآخرين . "
كان واضحاً أن جمعة أراد مني أن أغادر الجزيرة لأذهب معه لأنضم إلى قومه . بالرغم من هذا , فكرت أنه من الأفضل أن أبقى في الجزيرة وأن يذهب جمعة بدوني . حين أخبرته بهذا حزن حزناً شديداً جداً وابتعد عني . سرعان ما عاد بعد وقت قصير ومعه فأس .
قال : " هاك , خذ . أنت تقتل جمعة . لماذا تُبعد جمعة عنك ؟ أفضل أن تقتله . "
حالما قال هذه الكلمات رأيت في عينيه دموعاً . أخبرته حينئذ , وفي مرات عديدة فيما بعد , بأنني ما كنت سأبعده في الوقت الذي يريد هو أن يبقى . وجدت أنه يريد أن يعود للوطن وأنني يجب أن أذهب معه وأساعد قومه .
قال : " أنت التعلم الرجل المتوحش ليكون أليفاً , تخبرهم أن يعرفوا الله , أن يصلوا إلى الله . أنت تعلمني خيراً , أنت تعلمهم خيراً . "
مع أن جمعة لم يرد أن يتركني , قررت أن أبني قارب كانو آخر , وانطلقت في الأرجاء باحثاً عن شجرة مناسبة لصنع القارب . خططت أن أبني قارباً أكبر من قاربي الأول ووجدت بعض الصعوبة في الحصول على شجرة كبيرة تماماً , كانت أيضاً قرب الماء . أخيراً وجد جمعة شجرة , وبعد أن أسقطها , بدأنا في تجويفها . أراد جمعة أن يحرق داخلها , لكنني أريته كيف أفعل هذا بالأدوات التي كانت لدي . سرعان ما تعلم كيف يستعملها . في حوالي مدة شهر من الزمن أنهينا تشكيل قارب الكانو وأصبح جاهزاً لينطلق . استغرقنا أسبوعان آخران لجر القارب بوصة بوصة إلى الشاطئ إلى أن طفا في البحر .
حين حلّ القارب في الماء رأيت أنه سيحمل عشرين رجلاً بسهولة . مع أن القارب كان كبيراً جداً استطاع جمعة أن يوجهه بسهولة تامة بمقذافه . مع هذا , خططت أن أضع سارية وشراعاً , ومرساة أيضاً .
استغرقت هذه الأمور الإضافية حوالي شهرين لصنعها وتركيبها . إضافة إلى الشراع الرئيسي أضفت شراعاً أمامياً صغيراً , حتى أن قارب الكانو كان سيدور بسرعة أكبر في الريح . وصنعت أيضاً ذراع دفة , حتى يكون من السهل توجيهه . حين اكتمل هذا العمل كان علي أن أعلم جمعة كيف أبحر بالقارب . مع أنه كان خبيراً بالمجذاف , لم يكن يعرف أي شيء عن الإبحار بالشراع .
خلال موسم المطر أبقيت قاربنا الكانو تحت السقيفة . أثناء وجود مد عالٍ سحبناه إلى أعلى لشاطئ . حفر جمعة حوضاً صغيراً كان كبيراً فقط ليستوعب القارب وعميقاً تماماً بالنسبة إليه ليطفو فيه . حين انحسر المد عن الشاطئ بيننا سداً عبر المدخل لتبقي الماء خارجه .؟ ثم غطيناه بفروع من الأشجار وهناك استقر إلى أن توقفت الأمطار .
|