اولا مفهوم الستر:
الستر في حقيقته : هو تغطية لهنات وعيوب المخطئ وإخفائها ، وهذا لا يعني بالتحديد تخصيصه بذوي الهيئات كما نقل ذلك عن الإمام النووي – رحمه الله – بل الضابط في هذا هو المجاهرة بالمعصية من عدمها ، لأنه بمجاهرته استخف بحق الله سبحانه وتعالى ، وقد تورثه هذه المجاهرة إلى إقامة الحد عليه أو التعزير .
يقول الإمام أحمد – رحمه الله – " الناس يحتاجون إلى مداراة ، ورفق في الأمر بالمعروف ، بلا غلظة ، إلا رجلاً مبايناً ، معلناً بالفسق والردى ، فيجب عليك نهيه وإعلامه ، وقد بنا كلامه - رحمه الله - فيما يظهر بما ثبت عند البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم – أنه قال : " كل أمتي معافى إلا المجاهرين ، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ، ثم يصبح وقد ستره الله ، فيقول : يا فلان عملت البارحة كذا وكذا ، وقد بات يستره ربه ، ويكشف ستر الله عنه " .
وبالتالي يجدر التنبه إلى أنه لا يلزم من عدم الستر التشهير المنهي عنه ، إلا من جاهر بالمعصية فإنه يجوز التشهير بفسقه وقد نبه إلى ذلك أيضاً الإمام أحمد – رحمه الله – حينما قال : إذا كان الرجل معلناً بفسقه فليست له غيبة "
مع مراعاة ضوابط التشهير ، فليس التشهير في المكان الذي جاهر صاحبه فيه كالتشهير مثلاً على صفحات شبكة الإنترنت . فلا بد من مراعاة المصالح والمفاسد في ذلك ، وفي المقابل لا يفهم من الستر في عدم إظهار الذنب أمام الناس .. نسيان الإنكار على المخطئ بل يجب على المحتسب بيان قبيح عمله وتوجيهه للصواب والأخذ على يده .
فإن كان ذا حقاً فإن حياتنا * كما قيل سترٌ والردى كاشف الستر
* العوامل المساعدة على الستر :
لا شك أن المتتبع لهذه العوامل سيجد أنها كثيرة ، لكن يمكن تقسيمها من باب التقريب للفهم إلى عاملين :
أولاً : عوامل راجعة لذات المخطئ :
ولعل من أبرز هذه العوامل : التأثير القلبي واستشعار المخطئ لعظم الذنب الذي وقع منه ، وظهور شرارة شروط التوبة – التي نص عليها أهل العلم – عليه ، وتنزيلها على واقعه .
ويدل على ذلك ما جاء في قصة التي زنت في عهد النبي – عليه الصلاة والسلام – فإن النبي – عليه الصلاة والسلام – أعرض عنها ولم يفرح بخبرها ، ولما أصرت وألحت على النبي – صلى الله عليه وسلم – تريد تطهير نفسها ، فلم يسألها عليه الصلاة والسلام كم مرة فعلت الزنا، بل لم يسألها من هو الذي زنى بك ، وتمنى أنها لو استترت بستر الله .
ثانياً : عوامل راجعة لنوع الخطأ :
وأما لعوامل الداعية للستر والتي ترجع لنوع الخطأ فإنها ينبغي أن تراعى وأن تكون في الحسبان ، بل إن مجريات القضية قد تتغير بتغير تلك الأخطاء واختلافها ، فلا يعقل أن ينظر في الستر على مرتكب الكبيرة كما يجب أن ينظر في الستر على مرتكب الصغيرة ، ولا يمكن كذلك أن ينظر لمن خطأه موجب للحد كمن خطأه لا يوجب الحد ، ولا أن نتعامل مع المرأة في الستر كما نتعامل مع الرجل ... وهكذا .
وأن كنا نشنع في الحقيقة على من لا يرى عدم الستر مطلقاً لمن ارتكب معصية توجب حداً ، وقد غاب عن ذهنه ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : " لو أخذت سارقاً لأحببت أن يستره الله ، ولو أخذت شارباً لأحببت أن يستره الله " .
وأصرح من ذلك وأقوى في الاستدلال ما ورد من فعل المصطفى – عليه الصلاة والسلام – فقد جاء في حديث أبي أمامة المخرَّج في الصحيحين قال " : بينما رسول الله في المسجد ونحن قعود معه إذ جاء رجل فقال : يا رسول الله : إني أصبت حداً فأقمه علي ، فسكت عنه ، ثم أعاد فقال : يا رسول الله : إني أصبت حداً فأقمه علي ، فسكت عنه ، وأقيمت الصلاة ، فلما انصرف نبي الله قال أبو أمامة : فاتبع الرجل رسول الله حين انصرف ، واتبعت رسول الله أنظر ما يرد على الرجل ، فلحق الرجل رسول الله فقال : يا رسول الله ، إني أصبت حداً فأقمه علي، قال أبو أمامة : فقال له رسول الله : "أرأيت حين خرجت من بيتك ، أليس قد توضأت فأحسنت الوضوء ؟ قال بلى يا رسول الله . قال : فقال له رسول الله : فإن الله قد غفر لك حدك ، أو قال : ذنبك ".
والمتأمل في الحديث يتجلى له بوضوح عدم رغبة النبي – صلى الله عليه وسلم – مفاتحة الرجل في ذنبه الذي ارتكبه بل إنه أعرض عنه ، ولما انقضت الصلاة لم يبحث عنه وإنما انصرف ولحق به الرجل ، وكل ذلك يدل على التأكيد على أهمية الستر وفضله ، فأين من يتأمل هذا الهدي النبوي .
بل حتى الشهادة في مثل هذه القضايا ينبغي علينا أن نلاحظ أن ثلاثة أرباع الشهادة التامة فيها ، تنقلب ردعاً للشاهد وزجراً له عن التفوه بالشهادة ، كي يظل المخطئ في حماية من الستر ونجوة من العقاب .
وحسبك أن تعلم أن عدد الشهود ما لم يتكاملوا أربعة يعدون آثمين متلبسين بجريمة القذف .
* الآثار الإيجابية :
وأما عن الآثار الإيجابية المترتبة على الستر سواء على الفرد أو المجتمع فهي كثيرة يمكن أن نوجزها في النقاط التالية :
أولاً : استشعار فضل الستر ، وأن الله يستر من ستر عبداً مذنباً ، فقد أخرج مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً : " لا يستر عبدٌ عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة " .
وأن الله من صفاته الستير ، ففي الحديث : " إن الله حيي ستير يحب الحياء والستر " – صححه الألباني .
ثانياً : رجوع المستور عليه وتوبته ، وليعلم من أنعم الله عليه بالستر بين عباده أن الله يمهل ولا يهمل ، وأن الله قادر على أن يكشف ستره إذا هو كشف الستر الذي بينه وبين الله ، وأن الله مطلع عليه وأن من قام بالستر عليه لم يستره عن عين الله ، قال تعالى : " وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون " .
وفي حديث أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ضحك وأخبر الصحابة أن ما أضحكه هو أن العبد حينما تعرض أعماله عليه يوم القيامة ويجحدها ويطلب عليه شهيد فيشهد عليه أقرب شيء منه -أعضاؤه- ...
ثالثاً : أنه علاج اجتماعي كبير ، حيث تختفي فيه كثير من أمراض المجتمع .
رابعاً : انتشار المحبة والألفة بين الناس ، وفشو حسن الظن بين المؤمنين ، قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم .." الآية .
هذه بعض الآثار والتي جاءت على وجه التنبيه ، لما تتطلبه المقالة من سمات الاختصار .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم