هل يمكن أن تدرك إلى أين يمكن أن يذهب بك الحبر كلما علمته أن يكون أكثر ضراوة وجموحاً، كلما أرخيت له العنان أن يتوغل أكثر بين الدم وشاهدات القبور؟ إنه كالحصان الجامح الذي يتقن كيف يمارس لعبة الصهيل والعربدة الماجنة، إذ لا تستطيع عندئذ أن تكون الفارس اللائق بذلك.
في ذهنك أشياء كثيرة تريد أن تكتبها، وأشياء كثيرة لا تريد أن تكتبها، وفي لحظة مارقة تختلط الأشياء بتفاصيلها الموجعة فتكتب ما لا تريد أن تكتبه ولا تصرح به على الإطلاق، إنك تريد أن تهرب من صوتك، وصوتك يلاحقك كالمعصية التي ترتديك، ولا تغادرك أبداً، تريد أن تهرب من ذاتك المنهكة بانكساراتها الماحقة، وذاتك وجعك المؤبد الذي ينقضّ عليك ليذبحك، تريد أن تهرب من داخلك المذبوح، ولكن الفضائيات الآثمة تثير بداخلك المذبوح جميع ألوان الجنون. تحاول أن تكتب بدم بارد مثلّج، وأن تضع في اعتبارك جميع الخطوط الحمراء التي لا يجوز تجاوزها، وأن تكتب بعقلانية وحيادية مطلقة، وأن تكون رصيناً جداً أمام المشاهد المذهلة التي تبثها شاشات الفضائيات بين الحين والحين. وبغتة تجد نفسك داخل الحصار محاصراً، وداخل الذبح مذبوحاً، وفوق الأعناق محمولاً على الأكف التي تنعاك وأنت ما تزال حياً ميتاً، لا تدري أحقيقة أنت في الموتى الرائعين، أم الأحياء المنبوذين! بغتة تجد أن الخطوط الحمراء تجاوزتك كثيراً، وأنك في دوامتها تغرق تحت رحى عواصفها الغادرة، وأن ما حولك يشبه الدم وهو دم، ويشبه الورد وهو ورد، ويشبه الحرائق وهو حرائق صاعقة.
هنا يصبح لون الحبر أكثر اشتعالاً من الأرجوان، ويختلط الحبر بالدم والورد ليشكل الثلاثي المارق حراباً تستفزك لتكتب بسخونة لاذعة، وتحسُّ في لحظة أنك أسير ما حولك، وما أنت فيه من الخراب والدمار واليأس. فكيف بالله تضبط أعصابك لتكتب بحيادية وهدوء متجاوزاً كل الحرائق والمجازر والبراكين التي تغتالك ثم تبعثك من جديد إنساناً آخر خارج حدود المنطق والمعقول؟ ها أنتذا في قلب جنين دفعوك إليها من الوراء جداً لتقاوم معها رغماً عن أنفك، وتقف في ساحاتها معلناً انخراطك معها في موتها وانبعاثها، لكي لا يلعنك الآخرون في تخاذلك المهين. وهاأنتذا مع إيمان حجو رغماً عنك تصعد معها على سُلَّم دمها إلى السماء الغاصة بالشهداء والعصافير والبيارق المبعثرة هنا وهناك كالكواكب المبعثرة هنا وهناك تقذفها جراحها حيث شاءت على امتداد ما تبصر العين، وفوق احتمال ما تنأى الذاكرة. أصابعك تثور عليك لتكتب الحقيقة، وداخلك يثور عليك لتكتب أبعد من الحقيقة، وحبرك يثور عليك لأنك تهادن في ساحة الموت من يذبحك، وأنت ذاك المتداخل ببعضك تشابكت ببعضك كخيوط العنكبوت، ولا تدري كيف تخرج من دوامة الشراك الملعونة، ولا كيف يمكن لك أن تصبح للحظة واحدة حراً، وأنت تذهب إلى موتك المحتم. هل هناك شيء في الحياة أصعب من ألا يختار المرء حتى موته بحرية!؟ تتداخل خيوط الحبر مع خيوط الدم، وتتشابك قطرات الدم مع قطرات الحبر، وبينهما ذلك الخيط الشفيف من الورد الجوري يقبض بيديه على حفنة من الجمر وينثرها فوق ركام الأشياء ليبعث في الركام الحياة.