عرض مشاركة واحدة
  #18  
قديم 01-20-2010, 03:30 AM
 
صناعة التاريخ ونهاية العصر الذهبي ل"إسرائيل"

أحمد منصور



صناعة التاريخ حرفة، لا يتقنها إلا القليل من الحكام، فهناك من يقضي في الحكم عشرات السنين ولا يترك خلفه إلا الفقر والظلم والاستبداد والجهل والتخلف، وهناك من يقضي شهوراً أو أعواماً قليلة ولا يترك خلفه إلا التقدم والرقي والعزة لأمته.
تولى حزب العدالة والتنمية السلطة في تركيا في عام 2003، وخلال سنوات معدودة تمكن من أن يخرج بتركيا من التبعية الكاملة للولايات المتحدة في القرار السياسي والعسكري إلى الاستقلالية والسيادة، وكان قرار حكومة العدالة والتنمية برفض استخدام أراضي تركيا من قبل القوات الأميركية في حربها على العراق في مارس من عام 2003 أول القرارات الصادمة من قبل دولة هي عضو في حلف الأطلسي، للدولة الرئيسة فيه.
في المقابل جاء الرئيس حسني مبارك إلى السلطة عام 1981 خلفاً للرئيس السادات الذي كان يرى أن 99% من أوراق الشرق الأوسط بيد الولايات المتحدة غير أن مبارك ربما أعطى الواحد في المائة الباقية لتفقد مصر قرارها السيادي، ويحول السيادة عبر خطاب من يتولون الوظائف حوله إلى مهازل وأهازيج دفعت مصر بمسؤولياتها التاريخية والجغرافية إلى الوراء وتقهقرت على الصعيد الداخلي والعربي والدولي بشكل غير مسبوق في التاريخ، أما ما حققه أردوغان لشعبه وأمته خلال ست سنوات وما حققه مبارك لشعبه وأمته خلال تسعة وعشرين عاماً فهذه قصة أخرى تحتاج إلى كتب، ولكن لننظر إلى المشهد خلال الأسابيع القليلة الماضية بين أنقرة والقاهرة.
فخلال الأسابيع القليلة الماضية بدا المشهد بين أنقرة والقاهرة في صناعة تاريخ المنطقة فريداً إلى حد بعيد، ففي الوقت الذي يتهم النظام المصري من قبل منظمات المجتمع المدني العربية والدولية بأنه يشارك في حصار مليون ونصف المليون فلسطيني في قطاع غزة ويقوم ببناء سور فولاذي بتمويل وصناعة أميركية كاملة وفق اتفاق إسرائيلي - أميركي أكدته مصادر عديدة، كان الأتراك يقومون بدعم قافلة «شريان الحياة-4» التي كانت تحمل مساعدات إنسانية لسكان غزة ويتفاوضون مع الحكومة المصرية ويتوسطون لديها من أجل أن تسمح بوصول القافلة إلى المحاصرين في غزة.. غزة التي أصبح الطابور الخامس من الكتاب المرتزقة في بعض وسائل الإعلام المصرية يصورها على أنها العدو ويحرض الرأي العام المصري ويتلاعب به وكأن الخطر الدائم الذي يهدد مصر هو من غزة وليس من "إسرائيل"، غزة التي هي جزء من العمق الاستراتيجي لمصر أصبح في مصر من الكتاب والإعلاميين من يحرض الشعب المصري عليها ويعتبرها العدو بينما يروج هؤلاء ل"إسرائيل" على أنها الحليف الذي لم يسبب أي ضرر لمصر منذ توقيع اتفاقيات السلام.
مثل هذه الكتابات لا تأتي من فراغ وإنما هي جزء من حملة تمولها الولايات المتحدة منذ عدة سنوات من أجل تغيير الرأي العام المصري تجاه القضية الفلسطينية وقد نجحت الولايات المتحدة في حملتها عبر الرحلات التي قام بها كثير من هؤلاء إلى الولايات المتحدة عبر برامج مختلفة تستمر بين شهر أو أكثر كل حسب البرنامج المعد له.
لكن الدرس التاريخي الأكبر كان في صناعة الكرامة الوطنية وتعليم "إسرائيل" كيف تتعامل مع الكبار وذلك حينما أنذر الرئيس التركي عبدالله غول "إسرائيل" بأن تقدم اعتذاراً رسمياً مكتوباً عن الإهانة التي وجهها مساعد وزير الخارجية الإسرائيلي إلى السفير التركي حينما استدعاه ووبخه حول مسلسل «وادي الذئاب» الذي نجح في استقطاب غالبية الشعب التركي (75 مليوناً) لمشاهدته، وهو يصور بشكل واضح جرائم "إسرائيل" ضد النساء والأطفال.
يوم الأربعاء 13 يناير 2010 سيكون يوماً غير عادي في التاريخ. ففي هذا اليوم هدد الرئيس التركي بسحب السفير من "إسرائيل" ما لم تقدم اعتذاراً رسمياً وقال «ما لم يتم حل المسألة هذا المساء فسيعود سفيرنا على أول طائرة يوم الخميس». وكانت "إسرائيل" قد حاولت التحايل حينما قام مساعد وزير الخارجية الإسرائيلي بتقديم اعتذار ضمني غير أن أنقرة طلبت اعتذاراً رسمياً واضحاً محدداً، ركضت "إسرائيل" لتقديم الاعتذار، بل إنها أرسلت مسودة الاعتذار للرئيس التركي عبدالله غول ليطلع عليها ويجري عليها ما يشاء من تعديلات تتناسب والكرامة التركية ويقرها قبل إصدارها.
ووقف الأتراك جميعاً بكل أطيافهم وراء الرئيس الذي دافع عن كرامتهم، وصدر الاعتذار الذي وصفته الصحف التركية بأنه النصر الدبلوماسي الذي طوى العصر الذهبي ل"إسرائيل"، ف"إسرائيل" أضعف مما يمكن أن يتصور وهي لا تستمد قوتها إلا من الحكام العرب المتواطئين معها.
وسوف نرى في الفترة القادمة تأثير هذه السياسة التي تنتهجها تركيا على تغيرات كثيرة في المنطقة ومن أهمها ما يتعلق بالحصار الذي تفرضه "إسرائيل" على قطاع غزة. ف"إسرائيل" بحاجة ماسة إلى تركيا كما هي بحاجة ماسة إلى مصر أكثر من حاجة أي منهما إلى "إسرائيل"، لكن ساسة تركيا يعرفون كيف يصنعون التاريخ ويظهرون بمظهر رجال الدول حينما يخرجون ويتحدثون ويفرضون على الدنيا ما يريدون.
لنا أن نتخيل أن مبارك بدلاً من القبلات والعناق الذي يستقبل به قادة "إسرائيل" الملوثة أيديهم بدماء المصريين والفلسطينيين يتعامل مع "إسرائيل" بنفس الطريقة التي يتعامل بها عبدالله غول وأردوغان وأحمد داوود أوغولو مع زعماء "إسرائيل"، وهي سياسة التركيع ل"إسرائيل" وصناعة العزة والكرامة، ما الذي يمكن أن يصبح عليه مصير "إسرائيل" ومستقبلها وهي بين فكي كماشة تركيا ومصر؟ إنها صناعة التاريخ لا يتقنها إلا من يعرفها.
__________________
رد مع اقتباس