الأتراك... يعيدون صناعة التاريخ صناعة التاريخ حرفة لا يجيدها إلا الرجال، هؤلاء الذين يحفرون أسماءهم في التاريخ حيث يفنى بلايين البشر ويبقى هؤلاء علامات مضيئة تهتدي بها البشرية وتعرف من خلالها جذورها، فتصنع حاضرها وتخطط لمستقبلها، ولاسيما في مجال الرقي الإنساني وتحقيق غاية البشر في الوجود. وما يقوم به الأتراك الآن صورة من تلك الصور الزاهرة التي تقوم بها مجموعة اختارها شعبها تقف على سدة السلطة لم تستول على السلطة عبر انقلاب عسكري أو توارثته عبر آبائها ولكنها خيار شعبي خالص، وهذا درس أيضا للشعوب التي تخلت عن دورها في صناعة حاضرها ومستقبلها وتركت بلادها لمن سطا عليها، سواء من العسكر أو غيرهم. لن أتحدث هنا عما قام به رجب طيب أردوغان وأعضاء حكومته منذ توليهم السلطة عام 2003، فهذا يحتاج إلى كتب وليس إلى مقال، ولكني سأتحدث فقط عن إنجازات أسبوع واحد، ولن أقول إنجازات وإنما دروسا لمن أراد أن يصنع التاريخ. فخلال الأسبوع الماضي، قامت تركيا بصناعة أحداث تاريخية هامة ستحدد كثيرا من معالم المستقبل لها ولجيرانها ولدول المنطقة. فبعد الدرس القاسي والمؤلم الذي تلقاه رئيس إسرائيل شيمون بيريز على مرأى من العالم كله في مؤتمر دافوس العام الماضي على يد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، في وقت كان فيه عمرو موسى، الأمين العام للجامعة العربية، يجلس دون حراك متابعا افتراءات بيريز دون أن يجرؤ على فتح فمه بالرد عليه كعادة المسؤولين العرب، قام أردوغان ولقن بيريز والإسرائيليين جميعا درسا في كيفية التعامل مع مجرمي الحرب في الساحات الدولية، وعاد أردوغان ليستقبله شعبه استقبالا حافلا بعد منتصف الليل وتحت الثلوج المتساقطة لأنه كما قال في تصريحات عديدة: «نحن استمعنا إلى صوت شعبنا». فعل ذلك لأن شعبه اختاره، ولم يغتصب السلطة عبر انقلاب عسكري مثل معظم أنظمة الحكم العربية التي لا تضع قيمة لشعوبها ولا تسمع إلى صوتها. ولم تتوقف دروس تركيا لإسرائيل عند هذا الحد، حيث لم تتوقف مطالبها برفع الحصار عن غزة في وقت تشارك فيه دول عربية إسرائيل جريمتها. وفي الأسبوع الماضي، قررت تركيا إلغاء مشاركة سلاح الجو الإسرائيلي في مناورات سنوية ورثها أردوغان عن الحكومات التركية السابقة، وقال في مبررات الإلغاء إنه رد على مشاركة سلاح الجو الإسرائيلي في الجرائم التي ارتكبت ضد الفلسطينين في غزة. اهتزت إسرائيل للقرار التركي الذي قزمها أمام حكومات عربية تمد يد العون والدعم إلى إسرائيل وتشارك في حصار قطاع غزة. ولم تقف تركيا عند هذا الحد، بل أعلنت ما زاد إسرائيل هما وغما، حيث قررت أن تقيم مناورات مشتركة مع سوريا في الشتاء المقبل، كما أعلنت أن العلاقات بين تركيا وإسرائيل لن تعود إلى سابق عهدها إلا بعد أن ترفع إسرائيل حصارها عن قطاع غزة. وكان وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو قد ألغى زيارة لإسرائيل بعدما رفضت إسرائيل أن يقوم في نفس الوقت بزيارة لقطاع غزة.
أما على الصعيد الإقليمي، فرغم أن سوريا لا تشارك تركيا ثقافتها ولا لغتها، فإن تركيا قررت إزالة العمل بالتأشيرات ونقاط الحدود بين البلدين في خطوة غير مسبوقة منذ سقوط الخلاقة العثمانية وتقسيم إرثها في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وفي أعقاب هذا، قاموا بتوقيع 34 مسودة اتفاق وتفاهم بين البلدين في معظم المجالات. هذا في الوقت الذي تذل فيه الحكومات العربية المواطنين العرب على حدودها، ولاسيما البرية، حيث يقضي بعض المواطنين ساعات طوالا بين الحدود وهم ينتظرون السماح لهم بالمرور رغم أنهم يحملون تأشيرات، أو يسجنون مثل الفلسطينيين في قطاع غزة. وفي نفس الأسبوع، كان رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في العراق يرتب الأوضاع الاستراتيجية مع العراقيين ويحاصر حزب العمال الكردستاني ويفعل التعاون الاستراتيجي ليؤمن تركيا من الجنوب وينهي مشكلات امتدت لعشرات السنين. هذا بعد أيام قليلة من الاتفاق الذي أنهى مائة عام من الصراع مع الأرمن عبر الاتفاق الذي وقع مع أرمينيا، وتوج بمباراة كرة القدم التي حضرها رئيس أرمينيا مع الرئيس التركي في مدينة بورصة التركية.
لقد أدرك الأتراك، بعد التنمية الداخلية غير المسبوقة التي قاموا بها خلال خمس سنوات من الحكم، أن إنهاء الصراعات الخارجية، ولاسيما مع الجيران، هو أهم خطوة استراتيجية يجب أن يقوموا بها. فخلال أسبوع واحد وبعد سنوات من العمل، أقاموا علاقات متطورة بأشكال مختلفة مع كل من سوريا والعراق وأرمينيا. هذا في الوقت الذي يقطعون فيه خطوات حثيثة في طريقهم إلى أوربا التي باتت تخشى منهم ومن إمكانية عودة نفوذهم إلى قلبها، حيث وصلوا إلى أسوار فيينا قبل ثلاثمائة عام، وفي نفس الوقت لقنوا إسرائيل دروسا في السياسة والأخلاق والعسكرية عجز العرب مجتمعين عن أن يقوموا بشيء منها، وإن يكن مجرد الاحتجاج.
لقد بدأ وجه تركيا يتغير خلال سنوات معدودة، لتخرج من دولة تعاني أكبر المشكلات الاقتصادية والسياسية والعرقية والحدودية مع جيرانها إلى دولة تصنع تاريخ نفسها وجيرانها بل والمنطقة من حولها. وقد أدرك الأتراك أن سياسة ملء الفراغ، التي سبق أن أطلقها الرئيس الأمريكي إزينهاور بداية الخمسينيات من القرن الماضي في أعقاب تهاوي الإمبراطورية البريطانية، تستدعي التفكير فيها في أعقاب التهاوي والترنح الذي بدأته الإمبراطورية الأمريكية الآن، وأنه لن يملأ الفراغ الذي ستتركه أمريكا في المنطقة عاجلا أو آجلا إلا صناع التاريخ، وإلا دول قوية وحكومات تسمع صوت شعوبها، أما الأقزام الذين مشوا ويمشون في ركاب أمريكا وإسرائيل فإن مصيرهم سيكون، لا شك، من مصيرها وسوف ينالون، بلا ريب، مكانتهم المرموقة في مزبلة التاريخ.
__________________ |