الحلم والقبر ( الحلم والقبر ) طالما وعد خطيبته إنه سيكون أديباً مشهوراً , تتباهى به أمام الدنيا , وسوف يكون غنياً , عندما تباع كتبه , وتتمكن كلماته من سوق الأدب ، وسوف يغدق عليها ما تشتهي , ويدخلها في رحاب ما يبهر . كانت دائما تشجعه ، وتشعره إنه أفضل رجل ، أخذ ديوان شعره الذي سكب فيه أمواج روحه المتقدة ، ذهب إلى القاهرة كي ينشره ، ودعها والشجن يكسو أعماقه ، راحت تدعو الله أن يصلح حاله ، وأن تثمر خطاه , احتضنت عيناه جوانح قريته , وعطر وجدانه برائحة الحقول , عمل في القاهرة في إحدى شركات الأمن ، كان يحرس بعض المحلات ليلاً ، ويقضي ما يوفره من نومه في التعرف على الأدباء والشعراء ، ذهب إلى أحد الشعراء المشهورين الذي طالما شاهده في التلفاز , كم تمنى أن يكون مثله ، أنتقى بعض قصائده ، وراح يعرضها عليه ، استقبله استقبالاً حسناً ، فزاد حبه لهذا الشاعر ، وخاصة أنه أثنى على قصائده ، ووعده أنه سوف ينشر له قصيدة غداً في الجريدة التي يعمل بها ، أشتاق أن تشرق الشمس حتى يرى قصيدته ، وهي منشورة في أكبر الجرائد , نوى أن يحتفظ بالعديد من نسخ الجريدة كي يريها لخطيبته ، وأهل قريته الذين لا تصلهم أقدام الجرائد , وفي الصباح وجد القصيدة منشورة ، لكن اسمه لم يكن موجوداً عليها , بل اسم الشاعر الكبير الذي يعشقه ويتخذه مثلاً أعلى , حاصرته صدمة عنيفة , وأحس بدوار شديد يقتلع ثباته من جذوره , فجلس على الأرض , وكأن محركات نفسه توقفت عن العمل , وكاد أن يغمى عليه , غير أنه لملم ذهوله , وانتشل عصف نفسه من بئر الخدعة الذي وقع فيها , و راح إلى الشاعر الكبير ، كي ينتقم منه , دخل عليه مكتبه في الجريدة , لم يتكلم كلمة واحدة , هجم عليه , ثم صفعه صفعة قوية , وضع الشاعر الكبير يده على خده , ثم نظر في يده , وطلب رجال الأمن , فانهالوا عليه ضرباً , هانت عليه نفسه , واسودت الدنيا في ناظريه ، فكر أن ينتحر , لكن ألف شيء كان يمنعه من ذلك , لم يذهب للعمل لمدة أسبوع , وجلس وحيداً يحاول أن يعالج مناحي نفسه من انهمار الاكتئاب الذي خيم في جنباتها . حاول أن ينشر الديوان في أي جهة حكومية , لكن الشاعر الكبير بنفوذه الواسع كان يمنع ذلك , وكأنما يراقب خطواته , ويتحداه أينما ذهب , عرض إنتاجه على دور النشر الخاصة , فلم يجد دار نشر تقبل أن تغامر , وتنشر لشاعر مغمور مثله , لم يتحمس له أحدٌ رغم أن معظمهم أثنوا علي شعره , عرض عليه بعضهم أن ينشر ديوانه على نفقته الخاصة , لكن كيف .....؟؟ وهو الذي لا يملك مالاً وما يعمل به يكفي بالكاد طعامه وأجرة مسكنه , وشراء بعض الكتب , فهو يدمن شراء الكتب مهما كانت حالته المادية منذ تعرف على عالم الأدب السحري , وفي آخر دار نشر ذهب إليها , سخر منه صاحب الدار ونصحه أن يعود إلى قريته , فالطريق أصعب مما يتصور , ومن الصعب أن تصنع اسمك , خرج من عنده مكسور الخاطر , والهزيمة تستبيه , أحس بغصة تخنق الطريق أمامه , تذكر حبيبته , قرر أن يعود لها , وأن يتخلى عن أحلامه الأدبية لو لبعض الوقت ,وأن يسافر إلى إحدى دول الخليج التي يعمل به أولاد عمه , ثم يعود بما يكفي لنشر مائة ديوان , راح يعبر الشارع في شرود ٍ فادح ٍ , لم يلتفت حوله , فصدمته سيارة يمتلكها ابن مسؤول كبير في الحكومة , فأخذوه إلى المستشفى , واتصلوا بأهله وخطيبته التي لم ينقطع سيل بكائها , ليلاً ونهاراً منذ علمت بما حدث , دخل في غيبوبة كثيفة , وعندما تنقشع عنه غيومها السوداء , يردد لن أموت سوف أنشر الديوان ثم يذكر الشاعر الكبير بأقبح ما يكون وتكفهر ملامحه ...... لن أموت .....لن .....لن أ....م .... و....ت بدأت حالته تتدهور يوماً فيوماً , وعندما أفاق من غيبوبة دامت ثلاثة أيام , وجد خطيبته تبكي وتبكي , فبكي أيضاً وقال في أسى : أنا أول من أحببت , وأنت أول من أحببت , أرجو أن تعطيني قلماً كي أكتب قصيدة , ربما تكون الأخيرة , زاد بكائها وراحت تمسح في شعره , ثم ذهبت مسرعة كي تحضر له قلماً , أعطته القلم و الورقة وساورها رغبة عارمة في أن تقبّله , لم تستطع منعها , والقلم يهتز في يده , قبلتْ جبينه , ثم نظرت إليه , كأنما تنظر إلى كنز , فابتسم الكنز لها , ثم وقع القلم من يده , فتعالت الصرخات في المستشفى , وأخذوا جثمانه إلى قريته التي خرجت في مشهد لم تشهده من قبل لاستقبال جثته , ودفنه , لم تعد خطيبته تذهب إلى دراستها وتغير حالها تماماً , ولم تعد تلقي النكات كعادتها , وأصبح السواد ملبسها الدائم , ولم تخلعه برغم مرور عام على موت خطيبها , وقد جاءها العديد من الخطّاب , لكنها كانت ترفضهم , وتعلن أنها لن تتزوج أبداً , إلى أن جاءها ابن أغنى رجل في القرية , فصمم أهلها أن يزوجوها له بأي ثمن , وأجبروها على ذلك , وقبل يومين من الزفاف , ذهبت إلى قبر خطيبها , تصاحبها باقة من الورد , تركتها على جسد قبره ، وأخذت تبكي , وتنادي عليه , إلى أن أوشكت الشمس أن يغرقها المغيب . بقلم : ياسر الششتاوي |