أحزان مبعثرة لدمعة دامعة أحزان مبعثرة لدمعة دامعة تأليف : حريز مريم كتابة النصوص : حريز شعيب مسكينة تلك المرأة التي رأيتها بالأمس منزوية في ركن من الأركان في أحد الأندية جالسة مع ابنها وقد ظللت جبينها الوضاح سحابة سوداء من الحزن ، وانحنت على نفسها كأنما تشعر أن قلبها يتنزى في صدرها وأنه يحاول الفرار منها ، وهي تعطف عليه لتمسكه بين جوانبها ولو أنها أرادت بنفسها خيرا لتركته وشأنه يمضي في سبيله أنى شاء ، فبُعدا لقلب لا يسكن عن الخفقان ولا يُفيق من الهموم والأحزان. سألتها : ما بالك؟ فقالت : لاشيئ ، فقلت : أنت تكتمينني ما بنفسك ولست أريد بك إلا خيرا ، فقالت : أعطيت الله عهدا أن لا أشكوا إلا لمن أرجوا عنده البرء ، وما أنا براجية عندك ولا عند الناس برءا من دائي ، قلت : أفضي إلي فلربما عجزت عن تطبيبك ، فلن أعجز عن مواساتك وتعزيتك ، فأصغت إلى كلماتي وكأنها أنست بي، ثم أنشأت تحدثني وحديثها لا يخلو من الآهات والزفرات . فقالت : كنت أعيش في غفلة الدهر بين أهلي معززة مكرمة ، لا ينغص علينا أحد عيشنا ، حتى أفاق الدهر من غفوته ، فبدأ بنا حتى جرعنا المصيبة . تراكمت الديون على أبي ، وخسر معظم ماله وثروته ، وصار أصحاب الديون يطالبون بحقهم ، وهو لا يستطيع لذلك سدادا ، حتى أوقفوه وجها لوجه أمام المحكمة لتقضي عليه بالسجن 15 سنة . وتركنا نعاني الأمرٌين ، فنحن نساء عاجزات ضعيفات عن مواجهة الحياة اللئيمة القاسية ، لا يستطعن تحمل التعب والكد ، وأما أصحاب الديون فقد تكالبوا على منزلنا بما حمل ولم يتركوه حتى حملوا أثاثه ومقتنياته ثم باعوه بأبخس الأثمان ، وقضينا نحن أسبوعا كاملا في العراء ، لا نأكل إلا النزر القليل من الرغيف الذي يهبنا إياه الجيران المحسنون . ليس لنا أهل في هذه الدنيا فأبي وحيد والديه وقد توفيا منذ زمن طويل و لم نجد إلا محسنا آوانا في داره وأكرمنا بما جادت به يده . وقررت أمي العمل في المنازل ، وصارت لا تعود إلا ليلا وفي يدها بعض الدريهمات ، وماذا تفعل يا سيدتي تلك الدريهمات ، فقلت علني أعمل أنا أيضا فربما ننتفع أكثر بما سأكسبه و خرجت في الصباح الموالي وأينما أذهب أجد عملا ولكنني حينما أُنبئهم عن لقبي واسم أبي يطردونني وكأني أنا التي أجرمت وما ذنبي يا ترى سوى أني ابنة أبي . رجعت مساءا إلى البيت مخذولة أمشي كالأسد الجريح ، لم أيأس لأنه ما كان علي إلا أن أثابر وأجتهد لتحسين الحال ، خرجت في اليوم التالي ، بحثت و بحثت حتى حطت رحالي في مكتب مدير بالمؤسسة الفلانية ، عرضت عليه مطلبي وحاجتي للعمل فوافق من حينه ، لم أطمئن له فنظراته كانت مريبة لكني تناسيت ذلك وقلت وما شأني به فمهمتي أن أعمل وأقبض الثمن وأعود إلى المنزل وكان ذلك شأني كل يوم أقوم صباحا أعمل ثم أعود مساءا وفي يدي ما يكفينا أنا وأمي لشراء بعض الرغيف ولباسا نستر به عورتنا . نقلني المدير إلى مكتبه لأنظفه له كل يوم ، وبدأت القصة ، وصار يغازلني ويراودني على نفسي ويعرض علي مقابل ذلك أموالا خيالية لكي أرضخ لنزواته ، كنت أطلب منه أن يزيد من راتبي فما عاد يلبي حاجياتنا كلها ، إلا أنه يأبى الإباء كله إلا إذا رضخت لمطالبه ، ولذلك يا سيدتي كان جمالي شؤما علي ، فلو كنت شوهاء لوجدت في الناس من يرحمني ويحنو علي ، ولكن الجمال سلعة من السلع النافقة لا يستطيع صاحبه أن ينال ما في أيدي الناس إن كان فقيرا معوزا إلا من طريق المساومة فيه . عرض علي ذات يوم أن أذهب لمنزله لأنظفه وأرتبه فوافقت ولم تكن موافقتي لأني أرغب في العمل بل لأني مجبرة عليه . ذهبت إلى منزله ، رتبته ونظفته وبينما كنت في حالي إذ رأيته دخل ، فأغلق الباب بل أحكم الغلق، ثم قال : وأين الفرار ، حاولت وحاولت واسترحمته ، لكن شهوته كانت أعلى ، فأخذ مني جوهرتي الثمينة وتركني جريحة ، ثم أعطاني مبلغا كبيرا من المال وهو يبتسم في وجهي وذهب، قتل نفسي بدم بارد وبكل وحشية ... ويح لكم يا معشر الرجال ، ما كنت أطلب منكم بإسم الفضيلة والشرف إلا رغيفا واحدا لغذائي وآخر لعشائي فأبيتموهما علي ، فلما طلبت منكم باسم الرذيلة جميع ما تملك أيديكم من مال ونشب بذلتموه لي طائعين ، فما أصغر نفوسكم وأخس أقداركم . رجعت إلى البيت و بي من الهم والغم ما تخر له الجبال هدا وما يعجز الإنسان على النطق به ، ذهب كل ما كنت أملكه ، وليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ؛ ومنذ ذاك اليوم جفاني النوم ، فلا أرقد إلا قليلا وأستيقظ مرتاعة من كابوس يُقظ مضجعي ، ومع مرور الأيام أحسست أن جنينا يضطرب في أحشائي ، وزاد بذلك تفكيري وهمي ، ويوما بعد يوم بدأ بطني يكبر وبان حالي . وعرفت أمي بالمصيبة فولولت وصرخت ثم وقعت مغشيا عليها ، حتى أتى صاحب الدار ورآني فأيقن بالداهية وطردني من البيت خشية الفضيحة . أين أذهب والظلام حالك ، وأنا الغزالة الضعيفة وسط جموع الذئاب والضباع المفترسة التي لا ترحم ، و قلت علني أذهب إلى من لطخ شرفي عله يعود إلى رشده فيرحمني ويرثي لحالي ، خاصة وأن ابنه في أحشائي ، وذهبت إليه وكلي أمل في عطفه علي ، ولكن للأسف ، واجهني بالطرد والشتم بأقبح الصفات خاصة بعدما علم بكوني أحمل جنينا ، جنين الذل والعار ، وبرحت المكان وصرت أمشي في شوارع المدينة علني أجد مأوى أستتر فيه عن الوحوش البشرية ، ووجدت كوخا دارسا بدى لي لأول وهلة أن سكانه قد هجروه ، فارتميت على أرضه وبكيت ما شاء الله لي أن أبكي ثم نمت نوما عميقا ، وبقيت فيه منذ ذاك اليوم . وضعت حملي وكبر ولدي ، وخلال تلك السنوات سمعت بموت أبي وأمي ، وأنبئت بخبر مغتصبي ، حيث أرزأه الدهر وأخذ منه كل ماله وتركه أسير الذل والمهانة ، وكأن الدهر انتقم لي وأخذ حقي منه وأذاقه ما كان بي . خرجت ذات يوم أطلب عون الناس كعادتي ليمنحوني ببعض الدراهم أقيم بها عود ولدي وأقضي بها حاجتي ، فقابلت رجلا قال لي : مضى زمن طويل وأنا أبحث عنك وأقلب طرفي بين الوجوه علني ألمح طيفك وأخيرا وجدتك . فقلت : ومن أنت يا ترى فلست أذكر أني عرفتك من قبل . فقال : أنا فلان بن فلان، المدير السابق للمؤسسة الفلانية ؛ لم أعرفه حقا ، لأني لم أرى أمامي ذلك الفتى الجميل الوضاح الذي كان كل منبت شعرة في وجهه فما ضاحكا تموج فيه ابتسامة لامعة ، بل رأيت مكانه رجلا شقيا منكوبا قد لبس الهرم قبل أوانه وأوفى على الستين قبل أن يسلخ الثلاثين ، فاسترخى حاجباه ، وثقلت أجفانه ، وجمدت نظراته ، وتهدل عارضاه ، وتجعد جبينه ، واستشرف عاتقاه ، وهوى رأسه بينهما هوية بين عاتقي الأحدب . حدثتني نفسي أن أفر من وجهه وأن لا أتحدث إليه بعدما عرفته ، فاعترض طريقي واسترحمني لأغفر له ذنبه ، فقلت له : ويحك أيها الرجل ، أبعدما فعلت بي لا زلت تريد محادثتي ، إنك عرفت حينما طردتني أن بين جنبي نارا تضطرم وجنينا يضطرب ـ تلك للأسف من الماضي وذاك للخوف من المستقبل ـ وأغلقت الباب في وجهي حتى لا تحمل نفسك مسح دموع أنت مرسلها ، فهل أستطيع بعد ذلك أن أتصور أنك رجل شريف ، بل لا أستطيع إلا أن أتصور أنك إنسان سرق مني عفتي وصرت ذليلة النفس حزينة القلب ، أستثقل الحياة وأستبطئ الأجل ، وأي لذة في العيش لامرأة لا تستطيع أن تكون زوجة لرجل وأما لولد ، بل لا تستطيع العيش في مجتمع من هذه المجتمعات البشرية إلا وهي خافضة رأسها مسبلة بجفنها ، واضعة خدها على كفها ، ترتعد أوصالها وتذوب أحشاءها خوفا من عبث العابثين وتهكم المتهكمين ؛ أنت ياسيدي كاذب خادع ولص قاتل ، ولا أحسب أن الله تركك إلا وقد أخذ بحقي منك فأحمد الله على ذلك . فقال : أ لازلت واجدة علي ، أما علمت أن الزمان انتقم لك مني ، وها أنذا بين يديك فافعلي بي ما تشائين ؛ فما كان مني إلا أن تركته ينتحب بين يدي كالطفل الرضيع ولم أحدثه بكلمة ، ورجعت إلى كوخي ، وبعد أيام أتاني رسول منه يحدثني بحال سيده حيث كان يعالج سكرات الموت ، ويرغب في رؤيتي وولدي قبل انقضاء الأجل ، وذهبت من فوري ، فدخلت البيت وإذا هو بغرفة صغيرة مظلمة ، لا تشمل على أكثر من سرير بال يتراءى فوقه شبح ماثل من أشباح الموتى ، فترفقت في مشيتي حتى دنوت منه ، وكأنه شعر بمكاني ، فحرك شفتيه يطلب جرعة ماء ، فأسعفته بها فاستفاق قليلا ، وحينما رآني تسربت دمعة من بين جفنيه وأطال النظر في وجهي، وكأنما هبطت علي في تلك الساعة جيوش الرحمة ، فما عدت أراه في صورة الوحش المفترس بل في صورة وديعة مسكينة فرحمته ، وطلب مني مسامحته فسامحته ، فحول ناظريه نحو ابنه وقال : أهذا هو ، فقلت : ومن غيره ، فأشار بأن أقربه إليه ، فقبله ووضع برأسه على صدره ، وفاضت روحه إلى بارئها . ـ وأتمت حديثها ـ أحسست برعشة تتمشى في أعضائي وشعرت بسحابة سوداء قد غشت على نظري ، وقلت لها : نعم ليس بيدي حل لمعضلتك إلا أن تنسي الماضي وتعيشي الحاضر ، وبالرغم من هذا فإني أقدر على تعزيتك ومواساتك فأقول : هل سمعت أن الحزن يعيد ما فات وأن الهم يصلح الخطأ، فلماذا الحزن والهم . ولا تضني أن الدنيا كملت لأحد ، فليس على ظهر الأرض من حصل له كل مطلب وسلم من أي كدر ، إنك لا تستطيعين طرد طيور الحزن من فوق رأسك بل يمكنك منعها من التعشيش فوقه ، واذكري أن هناك في العالم من هو أشقى منك فابتسمي ولا تكوني جبانة تجدي أمامك مئة حل وحل ولا تختارين منها إلا الفرار ، أطفئي نار الحقد من صدرك بعفو عام عن كل من أساء إليك ، أما إذا أردت العيش سعيدة فانزعي الكراهية من قلبك واعلمي أن الحياة كالوردة كل ورقة منها خيال وكل شوكة حقيقة ، فاصبري قليلا فبعد العسر أبدا يُسر وكل أمر له وقت وتدبير . أما قولي لهؤلاء الرجال: إذا همت نفسك بالمعصية فذكرها بالله ، فإن لم ترجع فذكرها بأخلاق الرجال ، فإن لم ترجع فذكرها بالفضيحة إذا علم بها الناس ، فإن لم ترجع فاعلم أنك في تلك الساعة انقلبت إلى حيوان . واذكر بأن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل. وهكذا فرجت قليلا ما كان بصدرها ، ومنحتها بقيل من العزيمة ، ثم رحلت عنها أحدث نفسي : ما أقبح تلك الشهوات التي تخالط روح وبصر الشاهي حتى تحبسه عن رؤية الواقع والمصير وذاك العذاب الأليم . * * * * * * * * * * * * * |