بانتظار ما سيقوله أوباما بمناسبة «ذكرى مجزرة الأرمن» تركيا والأرمن في المعيار الأميركي جاء رد الفعل التركي على اتهام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأميركي الأتراك بتنفيذ مجازر جماعية بحق الأرمن، عنيفا. فقد استدعت أنقرة سفيرها في واشنطن، معلنة أنه لن يعود الى هناك «حتى يتضح الموقف الأميركي الرسمي من هذه المسألة»!
في الأسبوع الماضي، أقرت اللجنة الأميركية مشروع قرار الاتهام بأغلبية 23 صوتا مقابل 22، جاء فيه أن الجمهورية التركية الحديثة قامت على أنقاض الدولة العثمانية التي عملت خلال السنوات (1915-1923) على تهجير الأرمن من قراهم ومدنهم التي كانوا يسكنون فيها في شمال الأناضول وجنوبه، بتهمة «التحالف مع روسيا»، وأن هذه الممارسات التركية «توجت بإبادة جماعية» بحق الأرمن.
وعلى الفور، استدعى رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، سفيره في واشنطن، معلنا أن الأخير لن يعود الى هناك «حتى تتضح الصورة بالنسبة لأنقرة فيما يخص الموقف الأميركي الرسمي الخاص في هذا الموضوع».
ومن المقرر أن يلقي الرئيس الأميركي باراك أوباما، يوم 24 ابريل المقبل خطابا بمناسبة الذكرى 85 لتهجير الأرمن من الأناضول. وإذا ما تضمن هذا الخطاب أي اتهامات مباشرة للأتراك في موضوع الإبادة الأرمنية، فان أنقرة «ستعيد النظر في علاقاتها مع واشنطن»، بحسب المراقبين والمحللين السياسيين.
تأييد الأرمن.. تاريخي
وكان أوباما قد زار أنقرة في ابريل الماضي ودعا الحكومة التركية للحوار المباشر مع أرمينيا لحل المشاكل العالقة بين الطرفين، الأمر الذي رحبت به أنقرة، لا سيما أنه جاء بعد زيارة قام بها الرئيس التركي عبدالله جول الى يريفان (عاصمة أرمينيا) في سبتمبر 2008، رد عليها الرئيس الأرميني ساركيسيان بزيارة مماثلة الى تركيا.
تبادل الزيارات توج بحوار مباشر لقي دعم العواصم الأوروبية، وانتهى بتوقيع اتفاقية تعاون مشترك في 9 أكتوبر الماضي في سويسرا، تعهد بموجبها الطرفان (الأرميني والتركي) «حل المشاكل العلاقة، بما في ذلك ادعاءات الأرمن الخاصة بتعرضهم لمجازر على يد الأتراك». يذكر أن فرنسا وبريطانيا كانتا تحاربان الدولة العثمانية الى جانب روسيا، فيما كانت أميركا تتضامن مع الأرمن لأسباب دينية أو استعمارية تقليدية. ويبدو أن الموقف الأميركي ما زال كما هو رغم مرور 60 عاما على التحالف الاستراتيجي بين واشنطن وأنقرة. كما يبدو أن العقلية الأميركية «فرض المعايير فيما يتعلق بدور تركيا الإقليمي وإغلاق الملفات التاريخية» ما زالت كما هي.
يذكر أيضا أن أكثر من 40 ولاية أميركية وبرلمانات 18 دولة (منها فرنسا وايطاليا وروسيا ولبنان واليونان) كانت قد أيدت الادعاءات الأرمينية، وأصدر البرلمان الأوروبي أيضا العديد من القرارات من أجلهم، معتبرا أن اعتراف تركيا بهم من أهم شروط استمرار مباحثات ضم الأخيرة للاتحاد.
استغلال الظروف
هذه التطورات، على الصعيد الأوروبي والأميركي والعالمي، جاءت في وقت تسعى فيه حكومة أردوغان لحل مشاكلها مع دول الجوار، بما فيها أرمينيا. حيث بدأ العديد من المثقفين الأتراك يتحدثون بصوت عال عن ضرورة الاعتراف بحقيقة ما حدث عام 1915 «أيا كانت تسميته».
واليوم يستغل القوميون الأرمن التطورات الأخيرة لمحاصرة تركيا دوليا، وذلك بالرغم من الدعم الأميركي والأوروبي، وأيضا العربي والإسلامي، الذي تلقاه تجربة حزب العدالة والتنمية ذات الملامح «الإسلامية المعتدلة والديموقراطية». ولطالما فشل القوميون الأرمن ومنظمات اللوبي الأرمني في أميركا في تمرير قرار داخل الكونغرس يعترف بتعرض الأرمن لمجازر على يد الأتراك.
فقد استمر السكوت الأميركي والأوروبي على الاحتلال الأرمني لإقليم ناغورنو كاراباخ والأراضي الأذربيجانية المجاورة منذ عام 1992، مما أضطر أنقرة للتضامن مع أذربيجان- ذات الأصل التركي- واعتبار الانسحاب الأرمني «شرطا أساسيا» لتطبيع العلاقات التركية– الأرمنية ولحسم موضوع «الإبادة الجماعية». وكانت تركيا اعترفت باستقلال أرمينيا عام 1991، وفتحت مجالها الجوي أمامها، وسمحت لأكثر من 50 ألف مواطن أرمني بالعمل في استانبول مع تسهيلات كبيرة، إلا أنها لم تتبادل العلاقات الدبلوماسية، وأبقت الحدود البرية بينهما مغلقة، بسبب حديث الأرمن عن الإبادة وحقهم التاريخي في بعض أجزاء تركيا الحالية، ومنها جبال آرارات.
وقد أدت سياسات أنقرة الايجابية لخلق خلافات في الشارع الأرميني: فالبعض قرأها على أنها «فرصة مهمة» لتحقيق المصالحة الاستراتيجية مع الأتراك، واعتبارها «اعترافا ضمنيا- غير مباشر» بما تعرض له الأرمن قبل 85 عاما. والبعض الآخر يراهن على أنها بداية لاستخراج موقف دولي قانوني ضد تركيا يجبرها على دفع تعويضات مالية للأرمن الذين فقدوا ممتلكاتهم وأراضيهم في الأناضول قبل أن يجبروا على الهجرة. وهذا ما يفسر التحرك الأرمني المكثف لإقناع الكونغرس بإصدار قرار يعترف بالمجازر، يمهد لقرار مماثل من الأمم المتحدة يحمل الأتراك مسؤوليات إنسانية وسياسية ومالية.
ومن هنا يمكن تفسير رد الفعل العنيف الذي صدر من أنقرة تجاه لجنة العلاقات الخارجية الأميركية. فأنقرة تخشى أن يصوت الكونغرس على مشروع القرار بعد أن يحال إليه، خصوصا أنها خسرت دعم اللوبي اليهودي الذي لم يعد يتصدى- كما كان يفعل- للأرمن عندما يستنكرون مواقف أردوغان ضد إسرائيل.
ما تستطيع أنقرة فعله
وجاءت تهديدات أنقرة بإعادة النظر في العلاقات التركية– الأميركية في إشارة واضحة من حكومة أردوغان للرد بشدة على أي موقف أميركي في موضوع الأرمن، خصوصا إذا لم يتخذ الرئيس أوباما موقفا واضحا أو أقر الكونغرس الادعاءات الأرمنية.
وتقول مصادر دبلوماسية إن من بين هذه الخيارات عدم عودة السفير التركي الى واشنطن، وإغلاق قاعدة أنجيرليك الشهيرة، وإيقاف كافة أنواع التعاون العسكري مع أميركا في العراق وأفغانستان، وإعادة النظر في جميع العقود والاتفاقيات العسكرية، ومقاطعة الشركات والمنتجات الأميركية والبحث عن مواقع إقليمية ودولية لإزعاج واشنطن، بما في ذلك تطوير العلاقات السياسية والاستراتيجية مع إيران.
لكن جهات تذكر بردود الفعل التركية العنيفة على باريس وموسكو وروما وغيرها من العواصم عندما أقرت برلماناتها بالمجازر الأرمنية، تقول هذه الجهات إن أنقرة لم تطبق أيا من تهديداتها تلك، وأن حكومة أردوغان لن تتحدى أميركا بهذا الوضوح والحزم، خصوصا في ظل المعطيات الإقليمية والدولية الراهنة، وأيضا في ظل الأزمة الداخلية التي تواجه أنقرة في علاقاتها مع جنرالات الجيش الذين يعرف الجميع أنهم لن يترددوا في تحريك دباباتهم إذا تلقوا الضوء الأخضر من واشنطن.
تصفية حسابات
يبقى الرهان الأخير في جميع الحالات على موقف الرئيس أوباما الذي كان قد اختار تركيا كأول دولة إسلامية يزورها بعد دخوله البيت الأبيض، واعتبر أنقرة آنذاك حليفا استراتيجيا مهما جدا بالنسبة للحسابات الأميركية الإقليمية والدولية.
والأتراك بدورهم سئموا من هذه اللعبة التي تتكرر كل عام، حيث يكرر الأرمن محاولاتهم لاستصدار قرار من الكونغرس وتنتهي محاولاتهم بإعلان البيت الأبيض أن تركيا دولة مهمة بالنسبة للمصالح الاستراتيجية الأميركية. وباتت أنقرة اليوم مصممة على وضع النقاط على الحروف، باعتبار أن الوقت لم يعد لصالحها، وهي التي تسعى لتصفية كل حساباتها التاريخية مع جيرانها، وتسعى أيضا لحل مشاكلها مع الأقليات الدينية والمذهبية والقومية في الداخل، أي مع الأكراد والعلويين والروم الأرثودوكس ومع 40 ألف أرمني يعيشون ويعملون في استانبول منذ مئات السنين!
__________________ |