الباب الثالث عشر
في ذكر كلمات منتخبة من كلام السلف الصالح في الاتعاظ بالقبور ، وما ورد عنهم من ذلك من منظوم ومنثور
537- قال الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير : كان أبو بكر الصديق يقول في خطبته : أين الوضاءة الحسنة وجوههم ، المعجبون بشبابهم ، الذين كانوا لا يعطون الغلبة في مواطن الحرب ، أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحيطان قد تضعضع بهم ، وصاروا في ظلمات القبور الوحا الوحا النجا النجا .
538- وروى ابن أبي الدنيا عن الحسن أنه مر به شاب ، وعليه بردة له حسنة فقال : ابن آدم معجب بشبابه ، معجب بجماله كأن القبر قد وارى بدنك وكأنك لاقيت عملك ، ويحك ذا وقلبك ، فإن حاجة الله إلى عباده صلاح قلوبهم .
539- وعن عبد الله بن العيزار قال : لابن آدم بيتان : بيت على ظهر الأرض ، و بيت في بطن الأرض فعمل للذي على ظهر الأرض فزخرفة وزينة ، وجعل فيها أبواباً للشمال ، وأبواباً للجنوب ، وصنع فيه ما يصلحه لشتائه وصيفه ، ثم عمد إلى الذي في بطن الأرض فأخر به ، فأتى عليه آت فقال : أرأيت هذا الذي أراك قد أصلحته ، كم تقيم فيه ؟ قال : لا أدري . قال فالذي قد أخربته كم تقيم فيه قال : فيه مقامي ، قال : تقر بهذا على نفسك وأنت رجل يعقل ؟!
540- وعن الحسن قال : يومان وليلتان لم تسمع الخلائق بمثلهن قط : يوم تبيت مع أهل القبور ولم تبت ليلة قبلها ، وليلة صبيحتها يوم القيامة ويوم يأتيك البشير من الله تعالى ، إما بالجنة أو النار ، ويوم تعطى كتابك بيمينك وإما بشمالك .
541- وعن عمر بن ذر أنه كان يقول في مواعظه : لو علم أهل العافية ما تضمنته القبور من الأجساد البالية لجدوا واجتهدوا في أيامهم الخالية خوفاً من يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار .
542- وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال : القبر منزل بين الدنيا والآخرة ، إن خيراً فخير وإن شراً فشر .
543-وعن الحسن قال : أوذنوا بالرحيل ، وجلس أولهم على آخرهم وهم يلعبون وقال رجل لبعض السلف : أوصني قال : عسكر الموتى ينتظرونك .
544- وكان أبو عمران الجوني يقول : لا يغرنكم من ربكم طول النسية ، وحسن الطلب ، فإن أخذه أليم شديد حتى تبقى وجوه أولياء الله بين أطباق التراب إنما هم محبوسون لبقية آجالكم حتى يبعثهم الله إلى جنته وثوابه .
545- وعن محمد بن واسع قال : كل يوم ينتقل منا إلى المقابر ثلاثة ، وكأنك بهذا الأمر قد عم أحزناً حتى يلحق منا ولنا .
546- شهد الحسن جنازة فاجتمع عليه الناس ، فقال : اعملوا لمثل هذا اليوم - رحمكم الله - فإنما هم إخوانكم يقدمونكم ، وأنتم بالأثر ، أيها المخلف بعد أخيه إنك الميت غداً ، والباقي بعدك ، والميت في أثرك أولاً بأول حتى توافوا جميعاً قد عمكم الموت واستويتم جميعاً في كربة وعصصة ، ثم تخليتم إلى القبور ، ثم تنتشرون جميعاً ثم تعرضون على ربكم عز وجل .
547- وقال صفوان بن عمرو : ذكروا النعيم فسموا أناساً ، فقال رجل : أنعم الناس أجساداً في التراب قد أميت ، وبقي ينتظر الثواب .
548- وقال مسروق : ما من بيت خير للمؤمن من لحده قد استراح من أمر الدنيا أو من عذاب الله.
549- وقال بشر بن الحارث : نعم المنزل القبر لمن أطاع الله .
550- وقال الفضل بن غسان : مر برجل بقبر محفور فقال : المقيل للمؤمن هذا
قال : ونظر رجل إلى القبور فقال : أصبح هؤلاء زاهدين فيما نحن فيه راغبون .
551- وعن عقبة البزار قال : رأى أعرابي جنازة فأقبل يقول : هنيئاً يا صاحبها فقلت : علام تهنئه ؟ قال : كيف لا أهنىء من يذهب به إلى حبس جواد كريم نزله عظيم ، عفوه جسيم ، قال كأني لم أسمع القول إلا تلك الساعة .
552- قال ابن أبي الدنيا ]ثنا ] أبو مالك البجلي عن أبي معاوية قال : ما لقيني مالك بن مغول إلا قال لي : لا تغرنك الحياة واحذر القبر إن للقبر شأناً .
553- قال : وحدثنا أحمد بن محمد الازدي ثنا خالد بن أحمد بن أسد قال : أخذت بيدي على جبلة يوماً فأتينا أبا العتاهية فوجدناه في الحرم فانتظرناه فلم يلبث أن جاء فدخل عليه إبراهيم بن مقاتل بن سهل وكان جميلاً فتأمله أبو العتاهية وقال متمثلاً :
يا حسان الوجوه سوف تموتون وتبلى الوجوه تحت التراب
فأقبل علي بن جبلة فقال :
أكتب يا مربي شبابه للتراب سوف يأكل البلى بعض الثياب
يا ذوي الوجوه الحسان المصونات وأجسامها الغضاض الرطاب
أكثروا من نعيمها أو أقلوا سوف تهدونها لعفر التراب
قد نعتك الأيام نعياً صحيحاً تفارق الإخوان والأصحاب
فقال أبوالعتاهية : قل يا حامد ، قلت : معك ومع أبي الحسن ، قال : نعم فقلت :
يا مقيمين رحلوا للذهاب أشفير القبور و حطوا الركاب
نعموا الأوجه الحسان فما صونكموها إلا بعفر التراب
و ألبسوا ناعم الثياب ففي الحفر تعرون من جميع الثياب
قد ترون الشباب كيف يموتون إذا استنضروا بماء الشباب
554- قال : وحدثني محمد بن خلف قال : سمعت أبي قال : رجعنا من ميت مع ابن السماك يقول :
تمر أقاربي جنبات قبري كأن أقاربي لا يعرفوني
وذووا الأموال يقتسمون مالي ولا يألون أن جحدوا ديوني
قد أخذوا سهامهم و عاشوا فبالله ما أسرع ما نسوني
555- قال : وأنشدني أبو جعفر القرشي :
تناجيك أجداث وهن سكوت وساكنها تحت التراب خفوت
يا جامع الدنيا لغير بلاغة لمن تجمع الدنيا وأنت تموت
556- قال : وأنشدني الثقفي من قوله :
أما ترى الموت ما ينفك مختطفاً من كل ناحية نفساً ينجو بها
قد يعضت أملاً كانت تؤمله وقام في الحي ناعيها وباكيها
وأسكنوا الترب تبلى فيه أعظمهم بعد النضارة ثم الله يحييها
وصار ما جمعوا فيها وما ادخروا بين الأقارب يحويه أدابيها
فاختر لنفسك من أيام مدتها واستغفر الله لما أسلفته فيها
557- ولما انصرف الناس من جنازة داود الطائي رحمه الله أنشد السماك رحمه الله .
انصرف الناس إلى دورهم وغودر الميت في رمسه
مرتهن النفس بأعماله لا يرتجي الإطلاق من حبسه
لنفسه صالح أعماله و ما سواها فعلى نفسه
قف بالمقابر وانظر إن وقفت بها لله درك ماذا تستر الحفر
ففيهم لك يا مغرور موعظة وفيهم لك يا مغتر معتبر
558- قال أبو العتاهية :
رويدك يا ذا القصر في شرفاته فإنه عنه تسحب و تدعج
ولا بد من بيت انقطاع ووحشة وإن غرك البيت الأنيق المبهج
وقال بعضهم :
كم ببطن الأرض ثاو من وزير و أمير وصغير الشأن وعبد خامد الذكر حقير
شملت قبور القوم في يوم قصير و لم تعرف غنياً من فقير
تقدمين تزود قريباً من فعالك إنما قرين الغنى في القبر ما كان يفعل
إن كنت مشغولاً بشيء فلا يكن بغير الذي يرضى الله تشتغل
ما صاحب الإنسان من بعد موته إلى قبره إلا الذي كان يعمل
إنما الإنسان ضيف لأهله يقيم قليلاً عندهم ثم يرحل
تم الكتاب بحمد الله وحسن توفيقه في خامس عشر شهر ربيع الآخر سنة إحدى وخمسين وثمان مائة على يد العبد الفقير إلى الله تعالى أحمد بن محمد الشهير بابن القطعة الحنفي غفر الله له ولجميع المسلمين ، والحمد لله رب العالمين .
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وحسبنا الله ونعم الوكيل
تم بحمد الله تعالي