عزمي بشارة .. فيلسوف يستشرف الأفق
يختلف الفرقاء السياسيون الفلسطينيون كثيرًا أو قليلاً، لكنهم جميعًا يتفقون على الدكتور عزمي بشارة، ويعتبرونه الأقدر على الاتصال بكل الفلسطينيين الحمساويين والفتحاويين، في الداخل والخارج، بالعرب والخواجات الغربيين.
ولد عزمي بشارة عام 1956 في مدينة الناصرة، وبعد إنهاء الثانوية العامة أمضى خمس سنوات مع إخوانه في تأسيس وتنظيم الطلاب الجامعيين العرب، ثم ذهب إلى ألمانيا للدراسة في جامعة هومبولدت ببرلين، وبعد عودته إلى وطنه فلسطين عُيّن أستاذًا للفلسفة والعلوم السياسية والثقافية في جامعة بير زيت.
أسس في رام الله مع زملاء آخرين "المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية" التي أغنت المكتبة العربية بدراسات عن الديمقراطية، وبصفته نائبًا في الكنيست كرس بشارة جهده في الدفاع عن حقوق فلسطيني 48، وحقوق الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة في مقاومته ضد الاحتلال.
وفي عام 1999 رشح نفسه لمنصب رئيس الوزراء، لكي يضع نقاطًا جديدة على الأجندة السياسية وهي: وقف سياسة التمييز ضد المواطنين العرب، منها قضايا القرى غير المعترف بها، ومصادرة الأراضي، ومن أجل طرح خط سياسي بديل لمرشحي حزبي العمل والليكود.
ولأنه عضو في الكنيست، فإن صوت بشارة مسموع في أوروبا، فمن خلال مشاركته في ندوات عديدة قال أكثر من مرة: إن دولة الاحتلال التي يقول الأوروبيون الغربيون عنها: إنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، هو أمر غير صحيح؛ لأن هناك ديمقراطيات مثل لبنان وتركيا وإيران، لا يأخذها الغرب في الحسبان.
استخلاصات مفكر
ويرى بشارة أنه ليس هناك كبير فرق بين حماس ومنظمة التحرير من منظور دولة الاحتلال، التي تساوي بينهما استراتيجيًا، وتفرّق بينهما شكلاً لا مضمونًا، وأن خشية الأنظمة العربية من الولايات الـمتحدة مبالغ فيها، ولابد من النظر إلى التغيرات في أميركا اللاتينية؛ فهناك فرصة لتغيير الاستراتيجيات العربية؛ فاستنهاض الأنظـمة لهممها يخرجها من أزمتها الداخلية؛ لأن الرضوخ للسياسة الأميركية يجعلها تخسر شعوبها، ومن يرضخ لها سيظل يرضخ إلى ما لا نهاية.
ويؤكد أن ما يهم الحكومات الإسرائيلية الـمتعاقبة هو ترسيخ الأمر الواقع الذي تنفذه كحكومة احتلال، فلـم يعد يهمها مع من ستوقع اتفاقية الإذعان التي من خلالها تفرض شروطها وبنودها وحدودها على الشعب الفلسطيني، الـمهم هو أنها تسعى لخلق ظروف سياسية فلسطينية تقوم على الاقتتال والتنافس لتنسجم مع سياسة الأمر الواقع. ودليل ذلك أنها بدأت بتطبيق ما يسمى الفصل أحادي الجانب قبل وصول حركة حماس إلى الحكم.
ويضيف: "تود إسرائيل بنواياها الخبيثة الـمعلنة إعطاء الشعب الفلسطيني رسالة بأنها ستنفذ ما تريد على الأرض، رضي الفلسطينيون أم لـم يرضوا، والأفضل لهم أن يقبلوا بما يملى عليهم حتى لا تجبرهم إسرائيل على القبول، وكأن ما تفعله على الأرض منذ عقود هو باختيارنا؟!"
لكن الأمر- حسب رأيه- ليس كما تظن دولة الاحتلال، فهناك عنصر قوة الشعب الفلسطيني الأساسي والحاسم، ولن نظل أقوياء إلا به، ومن هنا يصبح الحديث عن الوحدة الوطنية ليس ضربًا من الشعار السياسي الـمستهلك، بل هو سلاح استراتيجي، فأية تسوية لا تتم دون توقيع الطرفين الـمتنازعين، وإذا توهمت إسرائيل أننا نتوهم بأننا لسنا مهمين وضروريين لعقد اتفاقية سلام، وأن التوقيع الفلسطيني توقيع ثانوي، فعليها أن تتخلص من هذا الوهم الخطير الذي يشكّل أول ما يشكّل خطرًا استراتيجيًا عليها هي، لأننا ببساطة لن نوقع، وستظل هي مرتبكة خائفة قلقة، أما أميركا فليست قوية إلى هذه الدرجة، ولن تكون كذلك إلى ما لا نهاية، من هنا فإن الـمتأمل لحالنا في هذا العالـم على ضوء الـمتغيرات لا يجد صعوبة في امتلاك الأمل بالخلاص من الاحتلال.
الاعتراف ليس الحل
وشكك بشارة باستعداد "إسرائيل" للاعتراف بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني إذا اعترفت حماس ب "إسرائيل"، مشيرًا إلى أن تنفيذها الفصل أحادي الجانب بدأ قبل وصول حركة حماس إلى السلطة الوطنية، حيث أقنعت إسرائيل العالـم بأنه لا يوجد شريك فلسطيني، ولـم تتعاطَ حكوماتها مع الرئيس الراحل ياسر عرفات، الذي قضى محاصرًا؛ لأنه لـم يوافق على الرؤية الإسرائيلية للتسوية، ولا هي أيضًا تتعاطى مع الرئيس أبي مازن؛ لسبب بسيط أنه لا يوجد فلسطيني يقبل بالتصور الإسرائيلي للتسوية.
إن الشعب الفلسطيني في الوقت الراهن في ساعة الحسم، ما يتطلب أن يتحول الفلسطينيون إلى معسكر واحد لحماية قضيتهم، وعلى الشعب الفلسطيني تفويت الفرصة على مَن يريد للفلسطينيين أن يشتبكوا معًا في حرب أهلية؛ فالوحدة الوطنية ضمانة استراتيجية، وهي من أدوات الحماية، وأن مَن يراهن على غيرها مخطئ.
وتخوف بشارة هو أنه رغم عدم وجود الفلسطيني الذي يقبل بالـمقترحات الإسرائيلية للتسوية، إلا أن قيام حرب أهلية فلسطينية يمكن أن تفرز من يقبل بالـمشروع الإسرائيلي، فالانجرار إلى حرب كهذه سينسف كل صمود فلسطيني ضد الاحتلال وإجراءاته على الأرض.
ويعتبر أن كل الذين بنوا سياستهم على التفوق الأميركي في الـمنطقة العربية، أصبحوا في وضع جديد بعد عودة جزء من التوازن إلى العالـم بعد تداعيات 11 من سبتمبر؛ فجماعة 14 أيار في لبنان- كمثال- أخذوا يعيدون حساباتهم هـم وحلفاؤهم حتى لا يجدوا أنفسهم في حرب أهلية جديدة، فقد فشل نموذج استقدام الديمقراطية على ظهر دبابة أميركية.
ومن خلال التغيرات التي طرأت على العالـم مؤخرًا، ليس هناك قوة كلية شمولية أبدية؛ فمنظومة الولايات الـمتحـدة الأمنية والعسكرية تنهار في الـمنطقة العربية بعد غزوها العراق، كما أن الحركة الـمناهضة للسياسة الأميركية في تزايد، خصوصًا في أميركا اللاتينية وغيرها من مناطق العالـم.
ومن وجهة نظره، استطاعت إيران السيطرة على ثلثي العراق بالاستفادة من براغماتيتها السياسية، وجعلت الـ 150 ألف جندي أميركي رهائن لديها، واستطاعت أن تقول لأميركا: (لا)، وقـد خسرت أميركا عنصر الـمفاجأة في الحرب الـمفترضة على إيران. حسب الـمعطيات.
الحوار هو الحل
ويؤكد أن الحوار مهم دائمًا، وأنه مخرج من كافة المآزق، خصوصًا عندما تصل الأمور إلى طريق مسدود لا حسم فيه، والحقيقة أن الحوار، خاصة بين الخصوم السياسيين قد يكون مجرد أداة لكسب الوقت، أو لتجنب صراع دموي بانتظار تحركات محلية، وتحالفات تجري وراء الكواليس تحسم الصراعات، أو بانتظار تطورات "أمام الكواليس" ليست في يد المتحاورين، مثل ما سوف تنتهي إليه السياسة الأميركية في لبنان وإيران، ومدى جدية إسرائيل في تهديداتها المتكررة للمقاومة اللبنانية...وغيرها.
أما على الساحة الفلسطينية، فللحوار أساس موضوعي وهو أن ينجح كأداة في فض الخصومة، وذلك بالرجوع إلى مصالح مشتركة للشعب على اختلاف مكوناته تحت الاحتلال. والعامل المقرر هو نوع الإجابة على السؤال: فيما إذا كانت القوى المتحاورة تعي المصلحة المشتركة أم لا، وتريدها أم لا ؟ أي تترجمها في مواقفها، أم تترجم مصالح أخرى ارتبطت بها كنخب سياسية مستقلة إلى حد ما عن واقع جماهيرها.
وكرّر منذ بداية انتفاضة الأقصى، أن هدف الحوار يجب أن يكون التوصل إلى استراتيجية موحدة في السياسة والمقاومة، بحيث يتم الاتفاق على ثوابت سياسية لا يمكن التنازل عنها في المفاوضات، وقيادة وطنية موحدة تجمع بين القاعدة السياسية المشتركة، والاتفاق على ما هو شرعي وما هو غير شرعي في المقاومة من منظور المصلحة الوطنية الفلسطينية في مرحلة التحرر الوطني.
وما يستحق أن يدور الحوار من أجله هو:
- كيفية الحفاظ على الوحدة الوطنية الفلسطينية في إطار المجلس التشريعي، وحكومة وحدة وطنية، وفي إعادة بناء (م. ت. ف) كإطار يشمل أيضًا فلسطينيي الشتات.
- المقاومة الموحدة، والرفض الموحد للخطوات الإسرائيلية من طرف واحد، وتنظيم الحملة الفلسطينية الموحدة ضد ممارسات الاحتلال، مثل: الجدار، وتحديد حركة المواطنين، وتوسيع الاستيطان في منطقة القدس.
- كيفية إدارة شئون الشعب الفلسطيني المعيشية، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه لا توجد تسوية سياسية على الأبواب، وهذا يتطلب تخليًا كاملاً عن الرهان على إفشال الحكومة الفلسطينية عبر الحصار، فرهان أي قوة سياسية فلسطينية على إفشال الحكومة الفلسطينية، وانصياع أي طرف سياسي فلسطيني آخر لأفكار أوروبية أو أميركية بشأن مشاركته أو عدم مشاركته في الحكومة، يحول الحوار إلى حوار طرشان، لأنه يخرج عن القاعدة الوطنية المشتركة، والهدف المدّعى للحوار هو أن ينجح، لا أن يقطف الأميركيون والإسرائيليون ثمار الحصار في الحوار.
وبكلمات أخرى يقول بشارة: يجب العمل لإنجاح الحوار من أجل كسر الحصار، والاستمرار في المقاومة، ومن أجل وضع خطوات مشتركة لمواجهة السجان الذي يتصرف بلا حسيب ولا رقيب، فيعيد أبناء هذه البلاد العائدين إليها صيفًا من المطارات على أعقابهم، ويقلل عدد سكان القدس، ويبني الجدار بتسارع أكبر، ويغير على المدن والقرى الفلسطينية كالعصابات، وبدلاً من أن يكون الرأي العام العالمي مستنفرًا إلى جانب هذا الشعب ضد الاحتلال يتم تجنيده ضد خيارات شعب تمخضت عنها انتخابات رغم الاحتلال!