رد: أسرار ترتيب القرآن الكريم (متجدد) ومنها: أنه لما قال في آل عمران في المتشابه: والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا قال هنا: لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أُنزل إِليك ومنها أنه لما قال في آل عمران: زُينَ للناسِ حُبَّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا فصل هذه الأشياء في السورة التي بعدها على نسق ما وقعت في الآية ليعلم ما أحل الله من ذلك فيقتصر عليه وما حرم فلا يتعدى إليه لميل النفس إليه فقد جاء في هذه السورة أحكام النساء ومباحاتها للإبتداء بها في الآية السابقة في آل عمران ولم يحتج إلى تفصيل البنين لأن تحريم البنين لازم لا يترك منه شيء كما يترك من النساء فليس فيهم مباح فيحتاج إلى بيانه ومع ذلك أشير إليهم في قوله: وليخشَ الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً ثم فصل في سورة المائدة أحكام السراق وقطاع الطريق لتعلقهم بالذهب والفضة الواقعين في الآية بعد النساء والبنين ووقع في سورة النساء إشارة إلى ذلك في قسمة المواريث ثم فصل في سورة الأنعام أمر الحيوان والحرث وهو بقية المذكور في آية آل عمران فانظر إلى هذه اللطيفة التي من الله بإلهامها! تم ظهر لي أن سورة النساء فصل فيها ذكر البنين أيضاً لأنه لما أخبر بحب الناس لهم وكان من ذلك إيثارهم على البنات في الميراث وتخصيصهم به دونهن تولى قسمة المواريث بنفسه فقال: يوصيكم اللَهُ في أَولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين وقال: للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب فرد على ما كانوا يصنعون من تخصيص البنين بالميراث لحبهم لهم فكان ذلك تفصيلاً لما يحل ويحرم من إيثار البنين اللازم عن الحب وفي ضمن ذلك تفصيل لما يحل للذكر أخذه من الذهب والفضة وما يحرم ومن الوجوه المناسبة لتقدم آل عمران على النساء: اشتراكها مع البقرة في الافتتاح بإنزال الكتاب وفي الافتتاح ب الم وسائر السور المفتتحة بالحروف المقطعة كلها مقترنة كيونس وتواليها ومريم وطه والطواسين و الم العنكبوت وتواليها والحواميم وفي ذلك أول دليل على اعتبار المناسبة في الترتيب بأوائل السور ولم يفرق بين السورتين من ذلك بما ليس مبدوءاً به سوى بين الأعراف ويونس اجتهاداً لا توقيفاً والفصل بالزمر بين [حم] غافر و [ص] وسيأتي (اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران) فكان افتتاح القرآن بهما نظير اختتامه بسورتي الفلق والناس المشتركتين في التسمية بالمعوذتين سورة المائدة وقد تقدم وجه في مناسبتها وأقول: هذه السورة أيضاً شارحة لبقية مجملات سورة البقرة فإِن آية الأطعمة والذبائح فيها أبسط منها في البقرة وكذا ما أخرجه الكفار تبعاً لآبائهم في البقرة موجز وفي هذه السورة مطنب أبلغ إطناب في قوله: ما جعل اللَهُ مِن بحيرة ولا سائبة وفي البقرة ذكر القصاص في القتلى وهنا ذكر أول من سن القتل والسبب الذي لأجله وقع وقال: من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأَرض فكأَنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاًوذلك أبسط من قوله في البقرة: ولَكُم في القِصاص حياة وفي البقرة: وإِذ قلنا ادخلوا هذه القرية وذكر في قصتها هنا: فسوفَ يأَتي اللَهُ بقومٍ يحبهم ويحبونه وفي البقرة قال في الخمر والميسر: فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإِثمهما أَكبر من نفعهما وزاد في هذه السورة ذمها وصرح بتحريمها وفيها من الاعتلاق بسورة الفاتحة: بيان المغضوب عليهم والضالين في قوله: قل هل أَنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وقوله: قد ضلوا من قبل وأَضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل وأما اعتلاقها بسورة النساء فقد ظهر لي فيه وجه بديع جداً وذلك أن سورة النساء اشتملت على عدة عقود صريحاً وضمنا فالصريح: عقود الأنكحة وعقد الصداق وعقد الحلف في قوله: والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم وعقد الأيمان في هذه الآية وبعد ذلك عقد المعاهدة والأمان في قوله: إِلا الذينَ يصلون إِلى قوم بينَكُم وبينَهُم ميثاق وقوله: وإِن كانَ مِن قومٍ بينكُم وبينهم ميثاق فدية والضمنى: عقد الوصية والوديعة والوكالة والعارية والإجارة وغير ذلك من الداخل في عموم قوله: إِن اللَهُ يأَمُركُم أَن تؤدوا الأمانات إِلى أَهلها فناسب أن يعقب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود فكأنه قيل في المائدة: يا أَيها الذين آمنوا أَوفوا بالعقود التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمت فكان ذلك غاية في التلاحم والتناسب والارتباط ووجه آخر في تقديم سورة النساء وتأخير سورة المائدة وهو: أن تلك أولها: يا أَيها الناس وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهو أشبه بخطاب المكي وتقديم العام وشبه المكي أنسب ثم إن هاتين السورتين النساء والمائدة في التقديم والاتحاد نظير البقرة وآل عمران فتلكما في تقرير الأصول من الوحدانية والكتاب والنبوة وهاتان في تقرير الفروع الحكمية وقد ختمت المائدة بصفة القدرة كما افتتحت النساء بذلك وافتتحت النساء ببدء الخلق وختمت المائدة بالمنتهى من البعث والجزاء فكأنما سورة واحدة اشتملت على الأحكام من المبتدأ إلى المنتهى ولما وقع في سورة النساء: إِنا أَنزلنا إِليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس الآيات فكانت نازلة في قصة سارق سرق درعاً فصل في سورة المائدة أحكام السراق والخائنين ولما ذكر في سورة النساء أنه أنزل إليك الكتاب لتحكم بين الناس ذكر في سورة المائدة آيات في الحكم بما أنزل الله حتى بين الكفار وكرر قوله: ومن لم يحكم بما أنزل الله فانظر إلى هذه السور الأربع المدنيات وحسن ترتيبها وتلاحمها وتناسقها وتلازمها وقد افتتحت بالبقرة التي هي أول ما نزل بالمدينة وختمت بالمائدة التي هي آخر ما نزل بها كما في حديث الترمذي قال بعضهم: مناسبة هذه السورة لآخر المائدة: أنها افتتحت بالحمد وتلك ختمت بفصل القضاء وهما متلازمتان كما قال: وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين وقد ظهر لي بفضل الله مع ما قدمت الإشارة إليه في آية زين للناس أنه لما ذكر في آخر المائدة للَهِ مُلكُ السموات والأَرض وما فيهن على سبيل الإجمال افتتح هذه السورة بشرح ذلك وتفصيله فبدأ بذكر: أنه خلق السموات والأرض وضم إليه أنه جعل الظلمات والنور وهو بعض ما تضمنه قوله: وما فيهن في آخر المائدة سورة الأنعاموضمن قوله: الحمد لله أول الأنعام أن له ملك جميع المحامد وهو من بسط: للَهِ مُلكُ السمواتِ والأَرض وما فيهن في آخر المائدة: ثم ذكر: أنه خلق النوع الإنساني وقضى له أجلاً مسمى وجعل له أجلاً آخر للبعث وأنه منشئ القرون قرنا بعد قرن ثم قال: قل لمن ما في السموات والأَرض فأثبت له ملك جميع المنظورات ثم قال: قل لمن ما في السموات والأرض فأثبت له ملك جميع المنظورات ثم قال: وله ما سكن في الليل والنهار فأثبت له ملك جميع المظروفات لظرفي الزمان ثم ذكر أنه خلق سائر الحيوان من الدواب والطير ثم خلق النوم واليقظة والموت والحياة ثم أكثر في أثناء السورة من ذكر الخلق والإنشاء لما فيهن من النيرين والنجوم وفلق الإصباح وخلق الحب والنوى وإنزال الماء وإخراج النبات والثمار بأنواعها وإنشاء جنات معروشات وغير معروشات والأنعام ومنها حمولة وفرش وكل ذلك تفصيل لملكه ما فيهن: وهذه مناسبة جليلة ثم لما كان المقصود من هذه السورة بيان الخلق والملك أكثر فيها من ذكر الرب الذي هو بمعنى المالك والخالق والمنشئ واقتصر فيها على ما يتعلق بذلك من بدء الخلق الإنساني والملكوتي والملكي والشيطاني والحيواني والنباتي وما تضمنته من الوصايا فكلها متعلق بالقوام والمعاش الدنيوي ثم أشار إلى أشراط الساعة فقد جمعت هذه السورة جميع المخلوقات بأسرها وما يتعلق بها وما يرجع إليها فظهر بذلك مناسبة افتتاح السور المكية بها وتقديمها على ما تقدم نزوله منها وهي في جمعها الأصول والعلوم والمصالح الدنيوية نظير صورة البقرة في جمعها العلوم والمصالح الدينية ما ذكر فيها من العبادات المحضة فعلى سبيل الإيجاز والإيماء كنظير ما وقع في البقرة من علوم بدء الخلق ونحوه فإنه على سبيل الاختصار والإشارة فإن قلت: فلم لا أفتتح القرآن بهذه السورة مقدمة على سورة البقرة لأن بدء الخلق مقدم على الأحكام والتعبدات قلت: للإشارة إلى أن مصالح الدين والآخرة مقدمة على مصالح المعاش والدنيا وأن المقصود إنما هو العبادة فقدم ما هو الأهم في نظر الشرع ولأن علم بدء الخلق كالفضلة وعلوم الأحكام والتكاليف متعين على كل واحد فلذلك لا ينبغي النظر في علم بدء الخلق وما جرى مجراه من التواريخ إلا بعد النظر في علم الأحكام وإتقانه ثم ظهر لي بحمد الله وجه آخر أتقن مما تقدم وهو أنه لما ذكر في سورة المائدة يا أَيُها الذينَ آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إلى آخره فأخبر عن الكفار أنهم حرموا أشياء مما رزقهم الله افتراء عليه وكان القصد بذلك تحذير المؤمنين أن يحرموا شيئاً مما أحل الله فيشابهوا بذلك الكفار في صنيعهم وكان ذكر ذلك على سبيل الإيجاز ساق هذه السورة لبيان ما حرمه الكفار في صنيعهم فأتى به على الوجه الأبين والنمط الأكمل ثم جادلهم فيه وأقام الدلائل على بطلانه وعارضهم وناقضهم إلى غير ذلك مما اشتملت عليه القصة فكانت هذه السورة شرحاً لما تضمنته المائدة من ذلك على سبيل الإجمال وتفصيلاً وبسطاً وإتماماً وإطناباً وافتتحت بذكر الخلق والملك لأن الخالق والمالك هو الذي له التصرف في ملكه ومخلوقاته إباحة ومنعاً وتحريماً وتحليلاً فيجب ألا يتعدى عليه بالتصرف في ملكه وكانت هذه السورة بأسرها متعلقة بالفاتحة من وجه كونها شارحة لإجمال قوله: ربِ العالمين وللبقرة من حيث شرحها لإجمال قوله: الذي خلقَكُم والذين من قبلكم وقوله: هو الذي خلقَ لكُم ما في الأَرض جميعاً وبآل عمران من جهة تفصيلها لقوله: والأنعام والحرث وقوله: كُلُ نفسٍ ذائقة الموت الآية وبالنساء من جهة ما فيها من بدء الخلق والتقبيح لما حرموه على أزواجهم وقتل البنات بالوأد وبالمائدة من حيث اشتمالها على الأطعمة بأنواعها وفي افتتاح السور المكية بها وجهان آخران من المناسبة الأول: افتتاحها بالحمد والثاني: مشابهتها للبقرة المفتتح بها السور المدنية من حيث أن كلاً منهما نزل مشيعاً ففي حديث أحمد: (البقرة سنام القرآن وذروته نزل مع كل آية منها ثمانون ملكاً) وروى الطبراني وغيره من طرق: (أن الأنعام شيعها سبعون ألف ملك) وفي رواية (خمسمائة ملك) ووجه آخر وهو: أن كل ربع من القرآن افتتح بسورة أولها الحمد وهذه للربع الثاني والكهف للربع الثالث وسبأ وفاطر للربع الرابع وجميع هذه الوجوه التي استنبطتها من المناسبات بالنسبة للقرآن كنقطة من بحر ولما كانت هذه السورة لبيان بدء الخلق ذكر فيها ما وقع عند بدء الخلق وهو قوله: كتب ربكم على نفسه الرحمة ففي الصحيح: (لما فرغ الله من الخلق وقضى القضية كتب كتاباً عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي). يتبع ....................
التعديل الأخير تم بواسطة نبيل المجهول ; 01-07-2007 الساعة 08:36 PM |