تركيا وإسرائيل.. الصراع في "وادي الذئاب" الاثنين 20 ربيع الثاني 1431 الموافق 05 إبريل 2010 د. محمد سعيد لم يكن كاتب السيناريو التركي بهادير أوزدينير -مؤلف سيناريو المسلسل التليفزيوني التركي الذي حمل اسم وادي الذئاب- يتخيل أو يتصور أن يتحول الرمز الذي أراده إلى حقيقة لم يقصدها، وأن يصبح "وادي الذئاب" الذي أراد من خلاله أن يكشف جانبًا محدودًا من "إرهاب الدولة" الذي تقوم به قوات الاحتلال الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، أطفالًا ونساءً وشيوخًا دون تمييز، واقعًا يجسّد الأنماط الحقيقية لتفاعلات القوى الإقليمية في إقليم الشرق الأوسط، وأن يتحوَّل "الرمز" الذي أراده إلى عنوان لمعركة ضارية إسرائيلية- تركية تكشف أحد أنماط الواقع الذي يحكم الآن العلاقات الإقليمية في الشرق الأوسط، ليس فقط بين الذئاب والحملان والنعاج التي يموج بها هذا الإقليم "الموازييك" في كل مكوناته وتفاعلاته، ولكن أيضًا بين الذئاب وبعضها. وإذا كان صراع الذئاب مع الحملان والنعاج هو الصراع الطاغي على مسرح إقليم الشرق الأوسط فإن الجديد والأكثر إثارةً الآن هو صراع الذئاب مع بعضها البعض (إسرائيل وإيران وتركيا)، وهو نمط الصراع الجديد الذي يدور بين القوى الثلاث الكبرى في الإقليم, ويختلف كثيرًا في مشاهده عن صراع الأفيال والسناجب الذي كنت قد تصورته منذ سنوات نمطًا لتفاعلات ما أسميه بالنظام الإقليمي للخليج العربي أن ما أراد أن يقوله مسلسل "وادي الذئاب" أصبح هو المشهد الطاغي لأنماط تفاعلات إقليم الشرق الأوسط الذي تحول فعلًا إلى "وادٍ للذئاب" الإقليمية وبالذات القوى الإقليمية الثلاث المتصارعة والمتنافسة, كل بطريقتها على الزعامة والهيمنة في الإقليم, وهي تفاعلات قد يغلب عليها الرقص وفق أولويات وتوازنات إدارة الصراعات داخل الإقليم, لكنها تبقى دائمًا مفعمةً بدوافع الصراع الدامي الذي قد يحدث جزئيًّا في لحظات فلتان القدرة على ضبط إدارة الصراع, ولعل هذه المشاهد المتبادلة بين الرقص والصراع الدامي ما يفسر جانبًا كبيرًا, وربما الجانب الأهم من لغز العلاقات التركية_الإسرائيلية. ربما يكون السبب الأساسي في الحديث عن وجود لغز في العلاقات التركية –الإسرائيلية هو أولًا التحوّل المثير في مواقف تركيا من إسرائيل، وهي مواقف جديدة وغير معتادة تأتي مقرونةً بتقارب لا يقلّ إثارة مع قوى إقليمية أخرى منافسة لإسرائيل، خاصةً إيران وسوريا, وهو ثانيًا الحرص التركي الذي ربما يبدو مبالغًا فيه على استمرار وديمومة العلاقات مع إسرائيل, والحفاظ الدائم على ما هو أكثر من "شعرة معاوية" بين البلدين، هذا اللغز ليس فقط من نسيج خيال العرب الذين أضحوا من فرط ضعفهم أشد تلهفًا على موقف إقليمي أو دولي يناصرهم ويظهر العداء لإسرائيل, ولكنه أيضًا موجود وبقوة عند الإيرانيين أيضًا؛ فالعرب الذين راهنوا على إمكانية أن تكون تركيا حليفًا إقليميًّا لهم أو على الأقل موازنًا إقليميًّا للقوتين المتنافستين إسرائيل وإيران, صدموا من فرط حرص تركيا على علاقات قوية مع إسرائيل وإيران, وتزداد الحيرة عندما تضع تركيا كل هذا جانبًا, وتواجه أي محاولة إسرائيلية لتجاوز الحدود والحقوق بقوة وكبرياء مثيرين لغيرة العرب وفي كل الحالات فإن التفاعلات التركية مع إسرائيل تبقي التفاعلات التوازنية. ولقد حرص رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان على تأكيد هذا الموقف أو السياسة "التوازنية" التركية بين كافة دول الإقليم بما فيها إسرائيل وبين علاقاتها الإقليمية في الشرق الأوسط وعلاقاتها مع أوروبا بقوله في طهران أن تركيا لن تضحي بعلاقاتها مع الغرب لصالح التحالف مع الشرق, فناحية من وجهنا للغرب والأخرى للشرق, في ردّ على سؤال عما إذا كانت مواقف بلاده الحادة تجاه إسرائيل إشارة لتحوّلها ناحية الشرق بعد عقود طويلة من الجفاء بين أنقرة العلمانية ومحيطها الإسلامي, لكنه لم يكتفِ بذلك وقال أن أنقرة ستواصل علاقتها مع إسرائيل ولكنها لن تقبل بأي ضغط (من إسرائيل أو حلفائها) من الخارج ليملي عليها مواقفها السياسية، وفي الوقت نفسه أعلن أن تركيا وإيران تستطيعان صوغ نظام إقليمي جديد يقلِّل حجم الفراغ (في المنطقة) ويضع حدًّا لمخططات الأعداء في الخارج. أردوغان قال ذلك بعد توقيع اتفاقيات عدة في طهران في المجال التجاري بهدف زيادة التبادل التجاري بين البلدين من 12 مليار دولار سنويًّا إلى 20 مليار في عامي 2010/2011 ولخص براق جزوجيرجين المتحدث باسم رئاسة الوزراء الذي رافق أردوغان في زيارته لطهران "29 أكتوبر 2009" التوجه الإقليمي الاستراتيجي التركي بقوله: إن تركيا توسّع من علاقاتها.. ولا تغير منها.. لدينا صداقات قوية مع سوريا والعراق وإيران وروسيا وجورجيا وأرمينيا واليونان وبلغاريا وغيرها.. وهذا يعني أنه ليس لدينا أي موقف سلبي تجاه دولة ما.. ولا نقبل لأنفسنا أن نصبح مع مجموعة ضد آخرى، لسنا من مؤيدي سياسة المحاور. وفي محاولة منه لحسم مدلول التوجه التركي الجديد نحو دول العالم العربي الإسلامي نفى أن يكون هذا التوجّه على حساب علاقات تركيا مع الغرب وإسرائيل, وقال أن حكومته تسعى إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من التعاون الاقتصادي، لأن تبادل المصالح على نحو متكافئ يفتح الباب لاستقرار التعايش والسلام بين الشعوب.. ولذلك نفى أردوغان بشدة مصطلح "العثمانية الجديدة" الذي حاول بعض الكتَّاب تفسير التوجه التركي نحو الشرق في إيحاء إلى أن تركيا عائدة للقيام بدور قيادي في العالَمَيْن العربي والإسلامي من وحي التجربة العثمانية السابقة واستعادة الكثير من وشائج العلاقات بين تركيا والعرب خلال سنوات تلك التجربة. هذا يعني أن حكومة حزب العدالة والتنمية ليست من أنصار سياسة "إما....أو" أي إما أن تكون مع العرب والمسلمين وإما أن تكون مع الغرب وإسرائيل, ولكنها من أنصار سياسة أن تركيا مع مصالح تركيا, وهذه المصالح تفرض عليها أن تعي مدلول "العمق الاستراتيجي" الذي أبدعه وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو الذي شبه دول المنطقة "بالبيوت الخشبية" التي إذا اشتعلت النيران في أحدها سوف تنتقل حتمًا إلى الأخرى، ما يفرض عليها أن تهتم بالسلام والتقدم والاستقرار في دول الجوار الإقليمي المحيط بها من كل الجوانب بقدر ما تهتم بالسلام والتقدم والاستقرار والحرية في تركيا, وهذا هو مضمون التوجه التركي نحو العالمين العربي والإسلامي وغيرها من دول الجوار الإقليمي التركي. أما العلاقة مع إسرائيل فهي من ناحية امتداد لهذا الإدراك، ولكنها من ناحية أخرى تعبير عن وعي بأن إسرائيل حليف استراتيجي يمكن ترويضه لنسج علاقات تفيد تركيا وتوظّف لمزيد من علاقات المصالح مع أوروبا والولايات المتحدة، لكن الجديد في هذه العلاقة هو بروز إدراك تركي جديد يرى أن صمت تركيا على أي تجاوز إسرائيلي بحقّ العرب والمسلمين سيؤثر على مصداقية علاقة تركيا مع عالمها الإسلامي, وأن الشارع السياسي التركي لم يعد يقبل أي سياسة استكبار إسرائيلية، ويفرض على حكومته أن تكون مناوئة لأي من مؤشرات الاستخبارات الإسرائيلية. هذان الإدراكان هما المسئولان عن دفع تركيا إلى ممارسة "الرقص مع الذئاب" في علاقتها مع إسرائيل مع الحرص الكامل على أن يبقى الرقص رقصًا لا يتجاوزه إلى أنماط أخرى دموية في العلاقات. هكذا يمكن فهم الموقف التركي الرافض لجريمة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة, ويمكن فهم الموقف التركي الرافض لجريمة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة, ويمكن فهم انسحاب رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان من مؤتمر دافوس الاقتصادي (30 يناي009) أثناء إلقاء شمعون بيريز رئيس الدولة الإسرائيلية كلمته, ويمكن أيضًا فهم إلغاء ترتيب مشاركة إسرائيل في مناورة "نسر الأناضول" الجوية السنوية, ويمكن أيضًا فهم تهديد رئيس الجمهورية التركية عبد الله جول بسحب السفير التركي من تل أبيب، اعتراضًا على الإهانة التي وجهها داني آيالون نائب وزير الخارجية الإسرائيلي للسفير وإصرار تركيا على ضرورة اعتذار إسرائيل للسفير التركي وللشعب التركي. ففي أوج الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ندّدت تركيا بهذه الحرب والجرائم التي تُرتكب ضد الشعب الفلسطيني, وطالب رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان في اجتماع مع قيادات حزبه العدالة والتنمية "في 19 يناير 2009" مجلس الأمن بمعاقبة إسرائيل وقال: الصمت الدولي في وجه تحدي إسرائيل للقرارات الدولية غير مقبول, ويجب على مجلس الأمن أن يفرض عقوبات على إسرائيل لردعها عن الاستمرار في العدوان. وفي رده على الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز في اجتماع دافوس وقبيل انسحابه من الاجتماع احتجاجًا على عدم إعطائه المساحة الزمنية نفسها التي حصل عليها بيريز ليرد على أكاذيبه بحق الشعب الفلسطيني, خاطب أردوغان بيريز: أنت لست صاحب حق, وحجتك ضعيفة, لذلك اخترت أن ترفع صوتك بشكل غير دبلوماسي, ولكن الحقيقة تبقى أن حماس أطلقت صواريخ بدائية تسقط معظمها في مناطق مفتوحة, وأنتم قصفتم بيوتًا وهدمتموها فوق رءوس أهلها من الأطفال والنساء, وإنه كان بالإمكان التوصل إلى تهدئة وسلام, وأنتم اخترتم طريق الحرب, إنكم يا سيادة الرئيس قتلة أطفال. وفي تعليقه على الاستقبال الحافل الذي استقبله به الشعب التركي عقب عودته من دافوس قال: شعبنا ينتظر الرد نفسه من أي رئيس لوزراء تركيا، وإن القضية قضية تقدير لبلادي ومكانتها، لذلك كان من الواجب أن يكون رد الفعل واضحًا، لم أكن أسمح لأحد بتسميم هذه المكانة الخاصة بكرامة بلادي. ونفى أردوغان في تعليق لاحق أن تكون انتقاداته لسياسة تل أبيب في مؤتمر دافوس الاقتصادي انعكاسًا لتوترات تركية إسرائيلية سابقة, مؤكدًا أنها ناجمة عن الهجوم الإسرائيلي على غزة. لكن المسئولين الأتراك انقسموا فيما بينهم حول تفسير أسباب رفض أنقرة مشاركة إسرائيل في مناورات "نسر الأناضول" الجوية التركية، ففي حين أرجعت مصادر تركية هذا الرفض إلى اعتراض على تلكؤ إسرائيل في تسليم تركيا صفقة الطائرات بدون طيار من طراز "أهارون" التي تعاقدت عليها تركيا قبل أربعة أعوام, صدرت تصريحات أخرى من داخل الحكومة التركية ربطته بالاحتجاج التركي على الانتهاكات الإسرائيلية في قطاع غزة والقدس, وأعلن أردوغان أن بلاده استبعدت إسرائيل من المناورات "استجابة لضمير الرأي العام التركي الرافض أن تحلّق الطائرات التي قتلت الأطفال والعزَّل في غزة فوق أرضه.. يجب أن ننصت لرغبات شعبنا". هذه الممارسات التركية لم تشأ إسرائيل أن تتركها تمر بسلام، خصوصًا بعد إعلان تركيا عزمها على إجراء مناورات عسكرية مشتركة موسَّعة مع سوريا بعد يومين فقط من استبعاد إسرائيل من مناورات "نسر الأناضول" الجوية وإعلان وزير الخارجية السوري وليد المعلم عقب الاجتماع الأول لمجلس التعاون الاستراتيجي السوري التركي إلغاء تأشيرات دخول مواطني البلدين, فقد تعمدت إسرائيل توجيه إساءة بالغة إلى تركيا في شخص سفيرها في تل أبيب أحمد تشينيكول عندما استدعاه نائب وزير الخارجية الإسرائيلي داني آيالون إلى مكتبه، وتعمد إهانته أمام الحضور المكثَّف الدبلوماسي والإعلامي بإجلاسه في مكان منخفض عن المكان الذي يجلس عليه، واستبعاد العَلَم التركي من مكان اللقاء مكتفيا بعلم إسرائيل, وتجنب تقديم واجب الضيافة التقليدية, وتأنيبه على عرض التليفزيون التركي لمسلسل "وادي الذئاب" الذي يتناول صراعًا بين المخابرات التركية والمخابرات الإسرائيلية، ويظهر أفراد الأخير يخطفون الأطفال ويطلقون الرصاص على الفتيات وكبار السن, وإبلاغه احتجاجًا رسميًّا من الحكومة الإسرائيلية على إذاعة هذا المسلسل. هذه الإهانة وما رافقها من مساندة إعلامية لشخص آيالون وللسياسة الجديدة التي يسعى وزير الخارجية أفيجدور ليبرمان إلى تشجيع الدبلوماسية الإسرائيلية عليها بالتعامل بفظاظة مع الغير والتوقف عن ما يسميه بـ "الانبطاح الدبلوماسي" ووجهت برد فعل تركي حاسم الأمر، الذي اضطر الحكومة الإسرائيلية إلى تقديم اعتذار على لسان آيالون نفسه للسفير التركي وللشعب التركي، وهو ما اعتبره رجب طيب أردوغان رئيس الحكومة التركية انتصارًا دبلوماسيًّا وأنه يتضمن دروسًا يتعين الاستفادة منها حول كيفية التحرك بشأن هذه المسائل، مضيفًا في إشارة ذات مغزًى لدول الجوار الإقليمي والعربي، خاصةً أن الذين تعذّر عليهم الاستفادة من هذه الدروس عليهم تحديد مواقفهم ومسيراتهم القادمة وفقًا لذلك, وهي إشارة أضاف إليها مراد ماكين الكاتب التركي الشهير في صحيفة "راديكال" قوله أن الإنذار الذي وجَّهه الرئيس (عبد الله جول) لإسرائيل صنع النهاية للعصر الذهبي لإسرائيل في المنطقة، والذي كانت تفعل فيه ما يحلو لها من دون حساب أو خوف من عقاب حقيقي, وهو بداية لعصر جديد ستكابد فيه إسرائيل كثيرًا لتعيد بناء صورتها من جديد. هذا العقاب التركي لإسرائيل لم يحلْ دون مواصلة التعاون الاستراتيجي بين البلدين على نحو ما تكشَّف من زيارة كل من ديفيد بن إليعازر وزير التجارة والصناعة الإسرائيلي ومن بعده إيهود باراك وزير الدفاع الإسرائيلي لتركيا، وهي زيارات أكدت هذا التعاون وحرص الطرفين عليه ضمن الضوابط التي منعت كلًّا من رئيس الجمهورية عبد الله جول ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان من لقاء إيهود باراك في أنقرة، مكتفيَيْن بلقاءاته مع كل من وزير الدفاع ووزير الخارجية. وإذا كان الوزير بن إليعازر قد عاد من أنقرة ليتحدث عن مستقبل واعد للعلاقات بين تركيا وإسرائيل, وإذا كان باراك عاد في حالة انبهار من وصف وزير الدفاع التركي محمد وجدي جونول للعلاقات بين تركيا وإسرائيل بأنها "علاقات تحالف" فإن هذا لم يمنع إسرائيل من مواصلة مسلسل تصفية الحسابات مع رجب طيب أردوغان وحكومته, ومن رفض قبول عودة أنقرة وسيطًا في مفاوضات جديدة بين إسرائيل وسوريا. فأردوغان وحكومته متهمان بأن مواقفها من إسرائيل نابعة أساسًا من المنظور الإسلامي الذي تطل من خلاله على العالم, وهو بالضرورة منظور معادٍ للغرب وعلى رأسه إسرائيل, وقد بدأ التحريض الإسرائيلي ضد أردوغان عقب الملاسنة بينه وبين شمعون بيريز في دافوس من خلال قنوات عدة داخل تركيا وخارجها، منها تحريض الجيش ضد أردوغان وحكومته, وتخويف العواصم الأوروبية من تداعيات السياسة الأردوغانية، والعمل على إقناع الولايات المتحدة بالاعتراف بارتكاب الأتراك إبادة جماعية بحق الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى حسب ما نشرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، ويبدو أن الجهود الإسرائيلية للنَّيْل من أردوغان وحزب العدالة والتنمية قد أخذت تؤتي ثمارها، فتورط لجنة الشئون الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي في إصدار قرار يصف المذابح التي ارتبكت ضد الأرمن من جانب القوات العثمانية في الحرب العالمية الأولى إبادة جماعية يمكن إرجاعه لأدوار قامت وتقوم بها إسرائيل داخل تركيا نفسها، وبالذات في صفوف الجيش "حامي العلمانية" وأحزاب المعارضة، وأيضًا داخل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وهي أدوار يمكن أن تتكشف حقائقها في فترة لاحقة، وبالذات التحريض ضد أردوغان وحزب العدالة والتنمية على أمل إسقاط الحزب في الانتخابات القادمة والتخلص منه، باعتباره عقبةً في طريق التحالف الاستراتيجي الإسرائيلي- التركي. هذا التحريض وصل إلى ذروته في التقرير الذي أعدَّه مركز البحوث السياسية، وهو الجهة المسئولة عن التقديرات الاستخباراتية في وزارة الخارجية الإسرائيلية وتَمَّ توزيعه على اللجنة الوزارية السباعية التي أنشاها بنيامين نتنياهو لإدارة حكومته وبعض سفارات إسرائيل في الخارج, فقد لخص هذا التقرير أحداث الأزمة الدبلوماسية التي نشبت بين إسرائيل وتركيا، وركَّز على اتهام أردوغان بالعداء للسامية، من منطلق أن العداء لإسرائيل عداءٌ للسامية, كما نصّ على فقرة مهمة تتباهى بما أسمته بالجرح التركي الذي سيظلُّ ينزف من جراء الإهانة الإسرائيلية للسفير التركي، وأن الرسالة التي أرادتها إسرائيل قد وصلت، وأن الجرح الذي أحدثته سيبقى أثره لفترة طويلة وأن الهدف منها قد تغلغل في نفوس كبار المسئولين الأتراك بمن فيهم رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان فقد أدركوا أنهم تجاوزوا الخطوط الحمراء مع إسرائيل، وأن مواقف تركيا المعادية لإسرائيل ستؤدِّي بهذه الدولة إلى خسارة إسرائيل من جهة, وفقدان الشرعية في الساحة الدولية من جهة أخرى. التقرير تعمد التركيز على أردوغان وعدد تصرفاته التي اعتبرها معدو التقرير تدخلًا في باب "اللاسامية" وقال: إنه لا يفعل ما يفعله عبثًا أو بشكل عاطفي بسبب أحداث الحرب الأخيرة على غزة، بل لأنه يتعمد هذا الهجوم النابع من قناعته الأيديولوجية, ولأنه يستخدمه في سياساته الرامية إلى كسب العالم العربي والإسلامي بشكل عام، وإلهاء شعبه في تركيا عن إخفاقاته في سياساته الاقتصادية والاجتماعية. وهكذا يتواصل رقص الذئاب في وقت يقف العرب مشدوهين غير مصدقين ما يرونه وما يسمعونه ولا يجدون غير ما يصفون به غير لُغز العلاقات التركية-الإسرائيلية في زمن تراجعت فيه الألغاز لتفسح الطريق أمام عالم جديد مُفْعَم بالحقائق الدامغة، وفي مقدمتها أن المصالح الوطنية أولًا, والكرامة والعزة الوطنية ثانيا عاملان يحكمان علاقات الدول ويحددن معالم تفاعلاتها إن كانت رقصًا أم قتلًا واغتيالًا، حسب ما تفرضه موازين القوى واعتبارات المصالح، خاصةً في إقليم مثل الشرق الأوسط الذي أصبح واديًا للذئاب.
__________________ |