![قديم](stylev1/statusicon/post_old.gif)
04-29-2010, 06:48 AM
|
|
جيوستراتيجيا الأتراك الجدد. محمود حيدر انظروا إلى تركيا، فستجدون ما لا حصر له من أسباب الكلام عن حيويتها السياسية. ولا يحتاج المشهد إلى كثير من المشقة، لُيستدلَّ بالوقائع على الأسباب.
في العام 2002 لحظة وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم بزعامة رجب طيب اردوغان، أخذت الصورة التركية متَّخذاً لا قِبَلَ لها به منذ أكثر من ثمانين عاماً:
- تحررت إلى حدٍّ بيِّن من الرومانسية الإسلاموية لحقبة اربكان في التسعينيات. وهي الحقبة التي شهدت موجاً من الاضطرابات آل على الدوام إلى رفع الشرعية عن أحزاب الحركة الإسلامية الجديدة.
- فتحت باب المجالسة الودودة مع جنرالات الجيش، وخفَّفت من الحذر المزمن بين الحكومة المدنية والمؤسسة العسكرية.
- أنشأت ضرباً من مصالحة بين الإسلام والعلمانية، ضمن صيغة تعاهد يضمنها الدستور، ولا تؤثر فيها تحيُّزات الاصطفاف الايديولوجي.
الذين قرؤوا الصورة منذ بداياتها قالوا: إن الأتراك الجدد راحوا يفتتحون بهدوء زمناً جديداً لبلادهم. منهم من رأى أن من علامات الزمن الجديد هو رأب الصدع بين زمنين تاريخيين. ولقد تجلى ذلك بما يشبه الطريق الثالث لمفارقة الإشكال: ليس قطيعة مع علمانية جنرال الحداثة مصطفى كمال، بل إجراء الوصل بما قطعته العلمانية نفسها مع الإسلام كهوية للأمة التركية.
لو كان الحاصل خلاف هذا «الوصل» لما كانت حكومات اردوغان حظيت بنعمة الاستقرار على مدى ثماني سنوات متواصلة.
الأكيد أن النخبة التي تقود تركيا اليوم، أدركت ضرورة حفر مسار تؤسسه عقلانية الجمع والتكامل بين الماضي العثماني والحاضر العلماني. حتى إذا انفرج المستقبل القريب عن حصيلة ما، فسيكون في الوصال الحميم بين روح الإسلام وروح الحداثة.
«خطبة اردوغان» حيال طائفة واسعة من القضايا عكست بوضوح هذا الإدراك. كان له أن يجعل من المصالح القومية والمشاعر الإسلامية كينونة واحدة. وأن يستعيد أمجاد امبراطورية عثمانية هي لدى تيارات علمانية تركية وازنة، كانت عيباً يجب التستُّر عليه، وعدم البوح به.
لم يكن اردوغان على سيرة هؤلاء. بدا وكأنه يخالفهم الى الدرجة القصوى في خطاب الجهر والبوح، خصوصاً ما يتعلق منه بفلسطين ومقدساتها. كان له أن يغتنم فرصة لقائه مؤخراً مع الهيئة البرلمانية العليا لحزب العدالة والتنمية ليقول: إن على إسرائيل أن تعلم أنني لست زعيم دولة عادية.. بل زعيم أحفاد العثمانيين الذين أعتز بتراثهم وجهادهم ومنجزاتهم العظمى»...
لم يُفهم كلام اردوغان في تركيا، وفي محيطها، إلا بوصف كونه أطروحة معرفية ترفع منسوب الطموحات التركية إلى حدودها العليا. ربما لم يُرق هذا النوع من الخطاب لكثيرين من الأتراك ممن تربُّوا على قيم العلمانية الحادة. لكن شرائح واسعة من النخب التركية، إسلامية وغير إسلامية، وجدت تناسقاً مع ما تحمله لغة اردوغان من رغبات لدور يتعدى قلاع الجغرافيا القومية المغلقة.
بعض الذين تلقوا الخطاب الاردوغاني قالوا إنه طبعة جديدة منقَّحة عن الخُطَب العصماء لسلاطين بني عثمان، وهم في عزِّ نفوذهم الجيو-ستراتيجي المترامي الأطراف. لكن هؤلاء وسواهم ممن أقاموا وزناً لدلالات اللغة التركية الجديدة، عادوا ليتساءلوا عن مدى تطابق الرغبات الاردوغانية مع القدرة على تحقيقها. وآخرون تساءلوا أيضاً عما إذا كانت رومانسية الخطاب التركي هي مقدمة لمهمة إمبراطورية من طراز جديد...
واقع الحال، ليس على هذا المقدار من الطموح. وحزب العدالة والتنمية يدرك الحدود التي ينبغي التوقف عندها. صحيح أن هناك طموحات إلى دور مرجعي تستعيد فيه تركيا مكانتها الجيوسياسية في المنطقة. وصحيح أيضاً أن الشروط الموضوعية التي تفصح عنها خريطة الشرق الأوسط تسمح بمثل هذا الدور. لكن ما هو حقيقي وواقعي أن طموحات الحكام الأتراك محسوبة بدقة. وهي لا تجتاز حقول التوفيق بين متناقضات القوى، وفي منطقة تكتظ بالفراغ الاستراتيجي.
عند هذه الدرجة من الفهم يتصرف الأتراك الجدد. وقد وضعوا من أجل ذلك ما يمكن أن نسميه بالفرضية الإستراتيجية التي يمكن تفعيلها لتتحول الى مسار كامل. وأما مسوِّغات هذه الفرضية فقوامها جملة حقائق:
- حقيقة كون مستقبل تركيا الجيوستراتيجي تحدده الجغرافيا وطبائع الهوية الديموغرافية للسكان. ذلك يعني أن المستقر التركي هو آسيا والشرق الأوسط، وليس الغرب الأوروبي. وهو ما أشار إليه وزير الخارجية أحمد داوود اوغلوا في كتابه «العمق الاستراتيجي»، وأخذ به حزب العدالة والتنمية كمادة فكرية ومعرفية في إدارة سياسات الحكم..
- حقيقة وعي تركيا لدورها ومكانتها بعد التحولات الأمنية الكبرى التي حصلت في المنطقة، ولاسيما مع احتلال افغانستان والعراق ونتائج الحرب الإسرائيلية على لبنان وفلسطين.
- حقيقة سعي الأتراك نحو تفعيل وتمتين حضورهم الجيو- ستراتيجي من خلال الدور الوسائطي لحل النزاعات بعد الغياب المدوِّي للمرجعيات الإقليمية والدولية.
هذه حقائق مهمة وعالية القيمة من الناحية الإستراتيجية. لكن آليات توظيفها تبقى محكومة على الدوام بوضعيات سياسية وجيو - أمنية شديدة الحساسية، وتنطوي على قابلية الاشتعال كل حين..
__________________ |