نعلم كلنا أن المسلم للمسلم أخ ، وأن المسلم للمسلم كالجسد الواحد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، فإن ضاقت بالمسلم الضوائق ، كان له المسلمون إخوة وأعوانا على ضائقته ، فالغني لا يغفل جفنه عن حال الفقير ، إذا جاع أحس بجوعه وكأنه هو من يجوع ، وإذا عرى أحس بعريه ، وكذا المتعلم لا يبخل بعلمه على الأميّ ، إذا فالمسلم للمسلم سند وعون ومتكأ .
ومن هنا نستنبط أن صناعة المعروف بين المسلمين ليست منة يمنّ بها من يعطي على من يعطى له ، بل هي واجب وخلق من أخلاق المسلم الحقيقي ، وإذا كانت كذلك ، فلماذا اندثرت هذه الصناعة الجميلة وأصبح أصحاب المال والنفوذ والقوة والعلم يتمننون على من هم في حاجة لهم بل ويرفضون إسداء المعروف لهم أحيانا ؟
ولكي أثري موضوعي ، استحضرت من ذاكرة الإسلام قصة أحد الصحابة ، ذلك الرجل الذي طرق بابه في يوم من الأيام طارق ، ففتحت زوجته الباب ، فإذا به عابر سبيل ومحتاج ، قال لها : إنني رجل عابر سبيل وليس لدي قوت لا طعام ولا شراب ، فسمع الزوج ذلك الكلام ، فقفز من مكانه ، وبحث عن شيء يعطيه إياه ، فلم يجد سوى قليل من الطعام أعدته زوجته له ، فأخذه وأعطاه إياه.
ولما غادر الرجل بالطعام ، أجهش الزوج بالبكاء ، فسألته زوجته : لم تبكي عليه وقد قضيت له حاجته ؟ قال لها : أنا لا أبكي عليه ، بل أبكي لأنني تركته يسأل !!
ياااااا الله ، ندم لأنه لم يخرج من بيته باحثا عن المحتاج ليعطيه قبل أن يسأل ، رغم أن كل ما يملك هو قليل من الطعام لا يكفيه حتى هو وزوجته.
ونحن اليوم بيوتنا ملأى بما لذ وطاب من الطعام ، وبأشكال مختلفة من الملبس ، وربما لا يرتاح أحدنا إلا إذا كانت عنده خزانة ملابس مليئة بأنواع الملابس كلها ، ونركب أفخر موديلات السيارات ، وربما ينغص عيش أحدنا أن لا يكون في بيته مكيفاً أو ثلاجة أو حتى تلفازا ، وجيراننا يباتون جوعى ، لا طعام ولا شراب ، تتقطع أمعائهم من الجوع ، وأطفالهم يجوبون الشوارع حفاة عراة يبحثون عن قوت يومهم بمد اليد للقاصي والداني (يشحذون ).
أي زمن هذا الذي جردنا من ترابطنا وتكاثفنا كمسلمين ، من تآخينا ، من إحساس بعضنا ببعض ، من مد يد العون وصناعة المعروف لوجه الله وإبتغاءً لرضاه.
إن سلفنا كانوا ينفقون وهم يعلمون أنهم إنما ينفقون مما يحبون ليدخروا أضعافا مضاعفة مما أنفقوا عند الله ، أما نحن ففضلنا أن ندخر ما عندنا في خزائننا التي فضلناها على خزائن الله التي لا تنفذ ، وقد يحتج بعضنا قائلا : هؤلاء نصابون ، يشوهون صورة البلد فيجب محاربتهم ! وما دخلنا نحن في أخلاقهم ، وحتى لو كان لنا دخل ، فلنعطيهم ومن ثم فلنرشدهم ، كما يقول المثل : لا تعطني سمكة بل علمني كيف أصطاد.
عار علينا يا أمة محمد أن نتعرى من أخلاقنا وقيمنا ، عار علينا يا مسلمين ، أنظروا لصنيع سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وهو أمير المؤمنين ، كان يجوب البلاد بين البيوت ، باحثا عن محتاج عن باك من الألم ، عن زوجة تشتاق لزوجها ، فأين نحن من هذا ! لنعد إخوتي لحضيرة الأخلاق والقيم ، لحدائق الترابط والأخوة ، يقول الأمام الراحل محمد متولي الشعراوي : " اعمل على قدر طاقتك ، ولا تأخذ إلا على قدر حاجتك ، والباقي أعطه لمن هو بحاجته".
وهذا هو مفهوم الزكاة ، مفهوم الصدقات ، مفهوم المعروف الذي يقول الله تعالى فيه : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) ، ويقول خير البرية صلى الله عليه وسلم : ( الصدقة تطفئ غضب الرب ) ، ويقول صلى الله عليه وسلم أيضا : (صنائع المعروف تقي مصارع السوء ) ، واعلموا إخواني أخواتي أننا محاسبون عن كل كبيرة وصغيرة ، وعن كل تقصير كان بعلمنا وكان مع سبق إصرار وترصد.
إننا لا نمتلك من ثقافة العطاء مقدار حبة من خردل ، وحتى إذا أعطينا ، فإننا قد نتباهى بصنيعنا ، بأن نعطي جهاراً لنري الناس بأننا معطائون وكرماء !! أو قد نتحجج بأعذار قبيحة كي لا نعطي !!
يقول الشاعر:
أقول لأصحاب المروءة قولة *** تفيدهم إن أحسنوا وتفضلوا
يسير ذوو الحاجات خلفك خضعا *** فإن أدركوها خلفوك وهرولوا
فلا تدع المعروف مهما تنكروا *** فإن ثواب الله خير وأجزل
هدانا الله جميعا لما فيه خير لديننا ودنيانا وأنفسنا ... آمين