عرض مشاركة واحدة
  #21  
قديم 06-26-2010, 12:06 AM
 
تحرير فلسطين بين خيار الواقعيين وإصرار المؤمنين!
[ 21/05/2010 - 07:45 ص ]
أ. د. سليمان صالح


الثقة بالذات من أهم شروط التفوق والتقدم والنصر، أما الإحساس بالعجز فإنه يجر وراءه الفشل والهزائم، تلك حقيقة تزداد وضوحاً كلما تعمقنا في دراسة تاريخ الرجال والأمم. لذلك كانت أخطر ضربة تعرضنا لها في تاريخنا هي أن الاستعمار الثقافي جعلنا نشعر بالعجز، ونفقد الثقة بالذات. ولتسويق اتفاقيات كامب ديفيد وعملية السلام مع "إسرائيل" تم استخدام وسائل الإعلام لبث ملايين الرسائل التي تؤكد عدم قدرة الأمة العربية على مواجهة "إسرائيل" التي تقف خلفها الولايات المتحدة الأمريكية والتي تملك 99% من أوراق اللعب، لذلك فالسلام مع "إسرائيل" هو الخيار الاستراتيجي الوحيد.
لقد سادت حالة الشعور بالعجز والهزيمة بالرغم من أن الأمة قد حققت نصراً تاريخياً على "إسرائيل" عام 1973. وأثبتت أن الجيش الإسرائيلي يمكن قهره وهزيمته. الغريب أن الذي روّج لمقولة الخيار الاستراتيجي الوحيد، ونشر عملية التخويف من "إسرائيل" كان هو القائد الأعلى للجيش الذي حقق النصر التاريخي، ثم انطلق الكتّاب والإعلاميون التابعون للسلطة لترويج الواقعية السياسية والخيار الاستراتيجي، وتخويف الأمة، وزيادة شعورها بالعجز. وقد أثارت اتفاقيات كامب ديفيد موجة من المقاومة لمشروع الاستسلام، قادته مجموعة من الدول العربية أطلقت على نفسها دول الصمود والتصدي، لكن بعد سنوات قليلة انكسرت هذه المجموعة، وتخلت عن معارضتها للسلام مع "إسرائيل"، وقدمت بعضُها مبادرات، واتجهت منظمة التحرير الفلسطينية للتفاوض سراً مع "إسرائيل"، فتوصلت إلى اتفاقيات مهينة ومذلة في أوسلو.
نتيجة طبيعية
دراسة تاريخ تلك الفترة تؤكد أن اتجاه كل النظم العربية بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية إلى السلام مع "إسرائيل" كانت نتيجة طبيعية لطوفان من الإنتاج الإعلامي والثقافي الذي أغرقت به وسائلُ الإعلام الأمةَ، والذي يقوم على التخويف وإثارة الرعب من "إسرائيل"، والتأكيد على استحالة تحقيق النصر، وأن الواقعية تقتضي الجلوس على مائدة المفاوضات للحصول على حكم ذاتي يتحول إلى دولة مع مرور الزمن، ولا يُهم أن تكون تلك الدولة خاضعة ل"إسرائيل".. أي أن النتيجة كانت هي الاستسلام والخضوع. وفي هذه العملية تم تصوير المقاومة بأنها جنون يتناقض مع حكمة الواقعيين ورؤيتهم الثقافية للأحداث!. الغريب أيضاً أن منظمة التحرير الفلسطينية كانت تجلس على موائد المفاوضات السرية، وترضى باتفاقيات أوسلو المذلة للكرامة الفلسطينية والعربية، بينما كانت الانتفاضة الأولى التي بدأت عام 1987 تتوهج إبداعاً ومقاومة، وتثبت عجز "إسرائيل"، وجبن جيشها، وأن شعب فلسطين سوف يستمر في المقاومة لتحرير أرضه باستخدام الحجارة.. وبذلك لا يختلف سلوك ياسر عرفات عن سلوك السادات، ولا يختلف سلوك المثقفين الفلسطينيين في منظمة التحرير عن سلوك الكتاب المصريين في الصحف التابعة للسلطة. فكيف يمكن أن نفسر ذلك؟..
بدلاً من أن يحتفل الكتاب المصريون التابعون للسلطة بالنصر الرائع الذي تحقق عام 1973، ويستخدموا هذا النصر لزيادة شعور الأمة بالقدرة على الفعل وتحقيق الانتصارات وبناء النهضة والتقدم، راحوا يزرعون الخوف في نفوس الناس من "إسرائيل" ويروجون لفكرة أن السلام مع "إسرائيل" هو الحل الوحيد.. ورغم أهمية هذا النصر في تاريخنا فإن الإنتاج الدرامي في أشكال أفلام ومسلسلات عن هذا النصر كان ضعيفاً جداً.. حتى نسي الناس هذا النصر. فكيف يمكن أن نفهم أن نظاماً يتخلى عن الاحتفال بانتصار رائع، ويسوغ الاستسلام والهزيمة؟.
وبدلاً من أن تحتفل منظمة التحرير بالإنجاز التاريخي الجميل لشعب فلسطين، الذي علم العالم أن الأحرار لابد أن يقاوموا وينتزعوا حريتهم ويحرروا أرضهم حتى باستخدام الحجارة، وأن القوة المادية لن تنفع المحتل في مواجهة شعب يُصِر على المقاومة، راحت هذه المنظمة تستجدي الحصول على مكاسب تافهة تتمثل في سلطة لا تملك من أمر نفسها شيئاً. والأخطر من ذلك أن الذين تفاوضوا وعادوا إلى رام الله اضطهدوا قادة الانتفاضة وسجنوهم وعذبوهم لحماية أمن "إسرائيل"، ولإخماد الانتفاضة.
هل يفسر الأدب؟!
التوصل إلى تفسير صحيح يحتاج إلى دراسات تاريخية متعمقة لنفسية القادة.. ولكن هل توصل خيال الأدباء إلى تفسير؟! تذكرت مسرحية من فصل واحد لسعد الدين وهبة عنوانها "بابا زعيم سياسي..". تقوم على اكتشاف الابن لمذكرات أبيه بعد موته. حيث يشرح الأب كيف وصل إلى أن يكون زعيماً سياسياً كبيراً.. وأن وصوله إلى هذه المكانة قد تم بالصدفة حيث كان يسير في الشارع فوجد نفسه فجأة في قلب مظاهرة تطالب بالاستقلال، وانقض البوليس على المظاهرة، وبينما كان يجري تم القبض عليه وتحويله إلى السجن، ثم خرج من السجن لتستقبله الحركة الوطنية بالتمجيد والإشادة بكفاحه، حيث أصبح له مكانة مهمة وتولى المناصب، وأصبح زعيماً.. وقد يشكل ذلك تفسيراً لحالة الكثير من السياسيين في عالمنا العربي. أما التفسير الآخر فقد قدمته سكينة فؤاد في روايتها الرائعة "ليلة القبض على فاطمة"، حيث تشارك فاطمة وخطيبها العامل الفقير في المقاومة فيسرق أخوها الانتهازي كفاحها، ويقدم نفسه كبطل مغوار، ثم ينجح في الانتخابات ويصبح احد مراكز القوى.. فيقوم بتشريد خطيب فاطمة المكافح الشريف ويدس له المخدرات في كوخه الفقير ليحوله إلى السجن، ثم يحول فاطمة إلى مستشفى الأمراض العقلية. وهذا النموذج الانتهازي نجده واضحاً في كل النظم العربية، ويعتبر دحلان مثالاً حياً لهذا النموذج.. والذين تفاوضوا في أوسلو يشبهون تماماً شقيق فاطمة الانتهازي الذي سرق كفاح أخته، ثم انقلب عليها وقهرها وحولها إلى مستشفى الأمراض العقلية، باعتبارها غير واقعية، وتصر على الزواج من الرجل الفقير الشريف الذي يكافح لتحرير وطنه، ولا تعرف مقتضيات المرحلة، وهي أن هذا الرجل الفقير لم يعد مؤهلاً ليناسب صاحب الجاه والعز والثروة والسلطة، ويمكن أن يتحالف مع الشيطان.
تفسير حضاري
لكن الأدب لم يقدم أيضاً تفسيراً متكاملاً لهذه الظاهرة.. ولكنه يضيف لنا بعض العوامل التي تسهم في زيادة فهمنا، فالذين تفاوضوا في كامب ديفيد لم يتوقعوا أصلاً تحقيق النصر، وأن الذي حقق النصر هم الجنود البواسل الذين ملأ الإيمان بالله قلوبهم، وشحذ عزيمتهم وأضاء بصيرتهم. الذين حققوا النصر هم الجنود الأصلاء الأنقياء أصحاب الشخصية الحضارية، والذين استجمعوا في المعركة كل المميزات التاريخية لهذه الشخصية. لذلك انهزم الجندي الإسرائيلي عندما فوجئ برجال تَجلّى في عيونهم الإصرار على تحقيق النصر أو الفوز بالشهادة، وهذا هو الاختيار الأصيل والتاريخي للأمة، الذي عبر عنه يوماً عمر المختار بقوله: نحن لا نهزم.. ننتصر أو نموت.. والجندي الإسرائيلي لا يستطيع أن يواجه رجالاً من هؤلاء، يكون هدفهم هو أن يستشهدوا فيفوزوا بالجنة، أو أن ينتصروا فيحرروا الأرض والإنسان. أصحاب النصر وصُنّاعُه هم الجنود الذين يعرفون قيمة الأرض.. يحلمون بالحرية، وتتجلى في قلوبهم الشخصية الحضارية للأمة، فتتوهج العقول والسواعد إبداعاً وعملاً وحباً وجهاداً ومقاومة..
أما الانتفاضة الفلسطينية فكان أبطالها هم أطفال فلسطين الذين تجلت في شخصياتهم صفات أجدادهم الذين حرروا فلسطين من الرومان الأجانب الغزاة، بقيادة أبي عبيدة الجراح، وأدركوا أنهم يستطيعون بشخصيتهم الحضارية أن يعيدوا تشكيل الواقع. وأصحاب الإنجازات الحضارية التي تحققت في الانتفاضة الفلسطينية، هم قادة حقيقيون يفهمون الشخصية الحضارية لأمتهم، ويصرون على أن تتحول إلى مقاومة.. وتحرير.. وتجربة كفاح طويلة.. مثل الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي، لذلك فإن الذين تفاوضوا في أوسلو لم يكن لهم فضل في الانتفاضة، ولم يكونوا من قادتها، ولا يفهمون منطلقاتها وأهدافها، لذلك كان هدفهم الوحيد هو الحصول على أبهة السلطة، ورموزها دون جوهرها، وأن يخمدوا الانتفاضة، ويطاردوا قادتها حماية لأمن "إسرائيل".
يوضح لنا هذا التباين أن الذين سيحررون القدس هم أصحاب الشخصية الحضارية الإسلامية، الذين يعتزون بالانتماء لخير أمة أخرجت للناس، ويصرون على بناء المستقبل على أساس التجربة التاريخية الطويلة للأمة. وهؤلاء يدركون أنهم سيفوزون في كل الحالات بالنصر أو الشهادة.. لذلك لا يقهر إرادتهم الحصار مهما طال، وهم يثقون أن نصر الله آت لا محالة.. مهما طال الزمن.. وعلت "إسرائيل".. واستكبرت وامتلكت القنابل النووية.
__________________
رد مع اقتباس