الموضوع: ونطق الصمت
عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 07-07-2010, 03:17 PM
 
3 (ونطق الصمت) - الحلقة الثالثة
في صباح اليوم التالي أحسست بتحسن جزئي، عزوته حينها إلى مفعول الأدوية التي بدأت في تناولها، غير أنه ومع انتصاف النهار عاد صوتي إلى تذبذبه وخفوته، تذكرت حينها مقولة شهيرة لأخي، فعندما لم يشفى من زكامه بعد يوم واحد، عاد إلى طبيبه حاملاً أدويته، وقال له: ” اسمح لي يا دكتور .. ولكنك لا تفقه شيئًا، فأدويتك لم تفد معي”، ابتسمت في سري، فلست متعجلاً كأخي،فكل دواء لابد أن يأخذ دورته ليؤدي دوره جيدًا، مرت عليّ ثلاثة أيام وصوتي على عهده، في الصباح أشعر بتحسن طفيف، وبعد انقضاء جزء من النهار يعود إلى حالته، وفي المساء يزداد سوءًا، كنت في البداية أحاول أن أبعث بداخلي الطمأنينة بشأن مدى التحسن الذي أشعر به، غير أن عزوفي عن الجلوس مع الناس، و المعاناة الشديدة التي أجدها في الحديث عبر هاتفي المحمول طيلة تلك الأيام، جعلت تلك الطمأنينة تتبخر، ويحل مكانها قلق بشأن ما يجري ويحدث لي.

عندما عدت إلى عملي يوم السبت، لم يقدر زملائي على التفاهم معي، ولم أستطع تأدية عملي على الوجه المطلوب، خصوصًا وأن جزءًا كبيرًا منه قائم على الاتصالات الهاتفية، والتنسيق بين قطاعات مختلفة، صوتي وحديثي عنصر أساسي فيها. في ذلك اليوم لم أستطع أن أعمل شيئًا، هاتفي حولته إلى أحد الزملاء، وأصبحت أتعامل فقط على ما يريد إلي عبر البريد الإلكتروني، وعندما أصل إلى مرحلة يتطلب فيها أن أجري اتصالاً أحيله إلى موظف آخر ليقوم بالمهمة عني، لم استطع أن أتحمل أن ألقي بأعباء عملي على الآخرين، وخصوصًا أن كل منهم مثقل بأعبائه هو الآخر، فأجريت اتصالاً وحيدًا ذلك اليوم، بالكاد استطعت أن أتحدث مع من كان على الطرف الآخر، الذي عانى الأمرين ليعرف ما أريد، وبعد أن أنهيت الاتصال الذي كان مع مركز النخبة الطبي، لأحجز فيه موعدًا عاجلاً مع الدكتور ياسر، خرجت متوجهًا إلى المركز الطبي، وكل زملائي في العمل يشيعوني بنظرات ملؤها الشفقة … والرحمة!

في الطريق، كنت أهون الأمر على نفسي، وأن المسألة لا تعدو كون المرض تأخر شفاءه، أو أن الدواء لم يكن ذا فائدة كبيرة، وأن الطبيب قادر على معرفة ذلك، وبإذن الله سيكتب لي الشفاء العاجل، فالأنفلونزا تحتاج إلى وقت لكي تزول آثارها، فهي مع الأدوية تستمر أسبوعًا، وبدونها تتلاشى بعد سبعة أيام!

في غرفة الفحص، أجلسني الطبيب على كرسي الفحص، وهو يقول:” لا بأس عليك يا محمد، كلها شدة وتزول”، طلب مني أن أفتح فمي وبدأ في إدخال منظار ليكشف على حلقي، أحسست بمجرى الهواء ينسد، ولم أعد قادرًا على التنفس، وشعرت بمعدتي تتقلب، والطبيب يطلب مني التحدث بحروف معينة من الأبجدية، وهو يصبرني قائلاً: “لحظات وأنتهي” كنت ممسك بكلتا يداي على مسندي المقعد، أشد عليهما، معللاً نفسي بالصبر، إلى أن سحب منظاره من حلقي، كان هذا هو المنظار الأول … وللأسف لم يكن الأخير! طلب مني الدكتور ياسر النهوض من على المقعد الذي كرهته، وكرهت ملمسه، ورائحته. وعلى طاولة الطبيب جلسنا سويًا، وأمارات الجد ترتسم على محياه، التقط منديلاً ومسحه به وجهه ونظر مباشرة إلى عينيّ، وقال بصوت مملوء حزمًا، وكأنما يزف إلي خبر موتي : ” محمد .. سأكون صريحًا معك، ما تعاني منه ليس أعراض برد وزكام، بل هو يتعداه إلى أكبر من ذلك” توقف ليلتقط أنفاسه قبل أن يلقي إلي بالخبر المفجع، “بصراحة، لم أستطع أن أتبين ما مشكلتك بالضبط .. لكن يبدو لي أن لديك مشكلة في حبالك الصوتية، لا أستطيع أن اجزم بذلك، ولكني سأحيلك إلى دكتور آخر، ولكنه وللأسف يعمل فقط في مستشفى حكومي، سأحاول أن أدخلك هناك بالسرعة المطلوبة” قال هذا وجذب ورقة بجانبه وبدأ يخط كلمات فيها، وقال لي:”اذهب إلى (مستشفى الملك عبدالعزيز الجامعي)، سأحاول أن أدخلك على الدكتور (حمد)، فبحسب خبرتي التي تمتد إلى سنوات طويلة، لن تجد من هو أفضل منه في هذا المجال” واقتطع الورقة، ونظر إلى ساعته وهو يقول:”إذا ذهبت الآن، ستتمكن من فتح الملف وإنهاء إجراءات الدخول قبل انتهاء دوامهم هناك”.
خرجت من مركز النخبة، وفي يدي ورقتين الأولى موجهة إلى مدير العيادات الخارجية، وفي الأخرى إجازة طبية أخرى، ولمدة ثلاثة أيام!

.
.
.
للحديث بقية