4 (ونطق الصمت) - الحلقة الرابعة
مرة أخرى ينتهي بي المطاف في سيارتي، متوجهًا إلى مستشفى آخر، لم أكن أدري في تلك اللحظة ما مرضي، مما أتاح الفرصة للقلق أن يعتمل بداخلي، ويهز أركاني، وتغمر الهواجس السوداوية رأسي، خصوصًا وأن طبيبًا بارعًا أعلن عجزه عن معرفة ما بي. أوقفت سيارتي غير بعيد عن المستشفى، نزلت حاملاً أوراقي، كان المؤذن حينها ينادي إلى صلاة الظهر، توجهت إلى المسجد، وبعد تأدية الصلاة جلست وحيدًا، رفعت يداي إلى خالقي أدعوه وأرجوه أن يمنَّ عليَّ بالشفاء، توجهت بعدها إلى مكتب مدير العيادات، وأبرزت الورقة التي زودني بها الدكتور ياسر، الذي اتضح لي أنه سبق وأن عمل لديهم، حاول المدير أن يتعذر عن قبولها، بحجة أنها قادمة من مركز طبي غير حكومي، وعندما حاولت الكلام موضحًا له حالتي، كانت طريقتي في الكلام هي أبلغ دليل على مقدار سوء حالتي، شعرت به يبتلع ريقه، ويحمد ربه على نعمة الصوت، بدا ذلك جليًا في طريقة تحسسه لحلقه وهو يعيد النظر إلى الورقة،
فقال لي:”ستحتاج إلى أن تفتح ملفًا لدينا قبل أن ترى الطبيب، أرجو أن تذهب إلى مكتب الاستقبال وتسلمه هذه الأوراق” خرجت من مكتبه متوجهًا نحو المكتب المعني، وبعد أن أنهيت الإجراءات المطلوبة، استلمت بطاقتي البلاستيكية، وعدت إليه محملاً بأمل الدخول على الطبيب في أسرع وقت ممكن، أخذ بطاقتي وطلب مني الجلوس، وبدأ في يداعب أزرار لوحة مفاتيح الجهاز الذي أمامه، وسرعان ما بدأت الطابعة في إصدار أصوات كانت محببة لدي حينها، وانتزع منها الورقة بسرعة، وكأنما يخشى أن يرى أحدًا الموعد المكتوب بها، وطواها بعناية، وهو يقول:”هذا أقرب موعد ممكن أن أعطيه لأي مريض، خصوصًا للطبيب مثل الدكتور حمد” وأعطاها لي، وهو يقول” أمنياتي لك بالشفاء يا محمد”.
دسست الورقة في جيبي بعناية، وعندما خرجت من مكتبه لم أنتظر إلى أن أصل إلى سيارتي، واخرجت ورقة الموعد ونظرت إليها بلهفة، كان الموعد يوم الأحد .. واليوم هو السبت، ولكنه لم يكن غدًا، فلقد كان الأحد الذي بعده، أي بعد ثمانية أيام!
لم أكن يومًا كثير التطلب والتذمر، ولكن ثمانية أيام، ولحالة كحالتي جعلني أرثي وأشفق على نفسي أكثر وأكثر، عدت إلى سيارتي، وانتهى بي المطاف متوجهًا نحو منزلنا. ولمّا دخلت المنزل استقبلتني والدتي بلهفة باسمة، وهي ترجو أن يكون ما بي قد تلاشى أو خف على أقل تقدير، غير أن سوداوية نظراتي اصطدمت بنظراتها المؤملة، وعندما قرأت فيها الأنباء المزعجة تلاشت بسمتها الرائعة، وحل مكانها قلق وتوجس، وبعد أن أخبرتها الخبر عم الحزن تعابير وجهها، لم أتحمل نظراتها الحزينة، قبلت ما بين عينيها، وصعدت إلى غرفتي، أجر معي أطياف حزني، وأحمل بداخلي آلامي وحدي.
مضت أيام الإجازة التي أعطاها لي الدكتور ياسر ببطء شديد، فكم كانت تلك الأيام ثقيلة، فصوتي مازال في غيبوبة، لا يكاد يفيق منها، ساءت حالتي النفسية كثيرًا، وبدأت أفضل الوحدة مجبرًا، وازدادت حصص القراءة لدي، وتعطلت العديد من مشاريعي، فلقد كنت حينها استعد لدخول امتحان التوفل، وكنت ملتحقًا بدورة للإعداد له، بدأت في التغيب عنها، وعندما أحضر أطلب من المدرس إعفائي من التحدث في القاعة، وكثيرًا ما كان ينسى ذلك ويقحمني في الحديث معهم، وعندما ابدأ في الحديث بصوت مترهل، يقاطعني أحدهم طالبًا أن أرفع صوتي! وعندها يدخل المدرس ويعتذر لأجلي!
بدأت شخصيتي الاجتماعية المرحة في التراجع، وبدأت تبرز على السطح شخصية أخرى، متوحدة، لا تطيق الجلوس مع الناس، لم أعد أجد للفكاهة طعمًا، ولا الجلوس مع عائلتي وأصدقائي ممتعًا، وكنت أتحين الفرص لأهرب إلى غرفتي وحيدًا، ألجأ إلى الانترنت، أو إلى أقرب كتاب يقع في يدي، حتى عندما أجلس مع الناس كنت أجد نفسي أميل إلى التأمل أكثر، تعودت أن أنصت إلى الآخرين حتى النهاية .. أو حتى أن يملو من الحديث .. فلم يكن لي خيار آخر حينها، هكذا مر عليَّ ذلك الأسبوع، وحيدًا، متأملاً … صامتًا.
.
.
.
مرة أخرى … للحديث بقية!