عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 07-09-2010, 04:45 PM
 
دموع على سفوح المجد


هذه القصة
لوحة حزينة من صميم الحياة ، التقطت أحداثها من بحر النسيان ، فحملتها إلى شطآن الذاكرة ، فجففتها بمدادي وغلفتها بكلماتي ، بعد أن أعدتُ إليها بعض معالمها الضائعة ، وعمقتُ فيها بعض الخطوط والألوان ، ثم وضعتها في متحف الأيام ، عبرة بالغة لمن أراد الإعتبار .
الدكتور عماد زكي
ونشب في أعماقها صراع عنيف بين اليأس والرجاء ، وتراوحت بين التماسك والإنهيار ....
فترددت طويلا ثم بدأت تستسلم للعجز والضعف ، فتناولت زجاجة السم التي أحضرتها خصيصا لهذا الغرض ، ووقفت على الحد الفاص بين الموت والحياة ، تقدم خطوة وتؤخر أخرى ... وازداد الصراع في أغوارها حدة وعنفا ، وأخذت مشاعرها المتباينة تتجاذب زجاجة السم من يدها ، فتشنجت أصابعها على الزجاجة القاتلة وجعلت تترنح على حافة الفناء
.





الـفـصــل الأول

(( يجب أن أطرق أبواب المجد بعزم وإصرار )).
هكذا قال عصام في نفسه، وهو يعبر الشارع إلى الطرف الآخر، في طريقه إلى شركة ((التجهيزات العلمية)) لشراء مجهر ومجموعة من الأدوات المخبرية التي قرر أن يجعلها نواة لمختبر متواضع أزمع على إقامته في غرفة خاصة اختارها لهذا الغرض.
وفي الطريق صادقته مكتبة فخمة تألقت واجهتها المضيئة بمجموعة من الكتب المنوعة وقد رتبت بذوق وإتقان، فوقف يتأمل عناوينها، ثم ما لبث أن دلف إلى داخلها . وراح يتجول في أرجائها ، وقد ملئت رفوفها بآلاف الكتب والمجلدات ، فأعجبته طائفة من الكتب العلمية التي شدته موضوعاتها الشيقة فحملها معه ، كما استهوته طبعة أنيقة (( لدائرة المعارف البريطانية )) فطلب من البائع أن يحضر له نسخة منها ثم دفع ثمن ما اشترى وحمل كتبه ومضى ...
* * *
كان عصام طموحا جدا ، وكان أهلا للطموح ...
فقد وهبه الله ذكاءً متوقدا ، وفضولاً ملحاً ، يبحث عن المجهول ، ويسعى نحو كل جديد ، أضف إلى ذلك إرادة صلبة وهمة عالية ، وعزيمة تهزأ بالصعاب ...
وكثيرا ما عبر أساتذة عصام –خلال تاريخة المدرسي الحافل- عن رأيهم فيه بقولهم ((إنه فلته من فلتات الزمان))حتى أن أستاذين من مدرسي مادة الرياضيات في المدرسة تراهنا ذات يوم على من يسأل عصاماً سؤالاً صعبا يعجز عن الإجابة عليه على أن يكون من ضمن المنهاج المقرر، فكان أن خسرا الرهان وازداد إعجابهما بذكاء عصام وتوفقه غير العادي، لدرجة أن أحدهما كان يستدعيه كلما صادفه طالب كسول من طلاب الشهادة الثانوية يتلكأ في حل التمارين الرياضية التي كان قد تعلم حلها في السنوات السابقة، فيحلها له عصام بسهولة تنم عن تمكنه وثقته بنفسه، فما يكون من ذلك الأستاذ إلا أن يأمر طلابه بالتصفيق ثناء عليه، ثم يتوجه إلى تلميذه المهمل بقوله : ((لعله يكفيك عقاباً أن يحل لك التمرين طالب يصغرك بثلاث سنوات دراسية... يعني مرحلة دراسية كاملة)) ثم يشكر الأستاذ عصاماُ على اجتهاده فيمضي مزهواً بنفسه، فخوراً بسمعته، تياها بما أنجز...
بيد أن تفوق عصام لم يكن يتقصر على مادة ((الرياضيات)) فحسب، بل تعداها إلى كل المواد الدراسية الأخرى، لا سيما مادة ((علم الحياة)) التي كانت تجذبه فيجد فيها متعة كبيرة. وقد دفع اهتمامه الزائد بهذه المادة الأستاذ ((عدنان)) مدرس (علم الحياة) إلى أن يطلق عليه لقب ((الدكتور عصام)) مداعبا ومشجعاً، فجاء هذا اللقب بغتة وذهب مثلا، فما لبث أن لصق باسمه، فكان ينادى به في المدرسة والبيت.
وعندما ظهرت نتائج الشهادة الثانوية، تحول لقب التشجيع والإطراء إلى لقب هو أقرب ما يكون من الحقيقة... فقد كان عصام الثالث على دفعة الشهادة الثانوية لذلك العام، مما أهَّلَه لدخول كلية الطب بجدارة.
وفرحت أم عصام يومها فرحاً عظيماً، عندما زفَّ عصام إليها النبأ، فضمته إلى صدرها في حب وحنان وراحت تلثم وجهه، وهي تهتف من بين الدموع ((مبروك يا حبيبي ... أنا اليوم أسعد أم في الدنيا ... مبروك يا ولدي)). واختلطت في عينيها دموع الفرح الكبير بدموع الحزن القديم على زوجها الفقيد، الذي اختطفته يد المنية قبل أن تقر عيناه بدخوله ابنه كلية الطب كما كان يحلم ويشتاق، إذ توفي قبل سنوات إثر نوبة قلبية مفاجئة.
وانتزعت الذكريات الحزينة الأم من فرحتها العارمة، لتنقلها إلى الوراء... فتمتد بها الذكرى إلى تلك الأمسية الجميلة، حيث كانت مع زوجها الراحل، تضمهما سهرة سمر في حديقة المنزل، بينما كان عصام – وله من العمر يومها ثلاث سنوات – يداعب قطته ((ياسمين)) التي كان يألفها وتألفه... إنها لا تزال تذكر كلمات زوجها الحبيب حينما قال لها ونظراته تعانق وجه ابنه الوسيم :
( - هذا الطفل يا هيفاء يملك ذكاءً عجيباً.. علينا أن نتعني به اعتناءً فائقا، حتى يشب رجلاً عظيماً، ويحمل العبئ عن كاهلنا في مستقبل الأيام.
أجابته يومها وهي تمازحه:
- أتمنى لو يصبح إبني مهندساً كبيراً، ليبني لنا ((فيلا)) جميلة تحف بها الحدائق والأشجار...
فاستجاب الأب لدعابتها وقال بلهجة ضاحكة:
- أنتن النساء دائماً هكذا لا يهمكنَّ إلا المظاهر والقشور، ولا تفكرن إلا بـ (( الفيلا )) الفخمة والثوب الجميل...
ثم اعتدل في جلسته وتابع بنبرات حالمة:
- أريده يا أم عصام أن يصبح طبيباً كبيراً... يساعد الناس ويداوي أمراضهم ويخفف آلامهم، والطبيب يا امرأة... يملك اليوم مكانة إجتماعية مرموقة، ويشير الناس إليه بالبنان، لا سيما إذا كان ناجحاً مشهوراً...
ثم أردف وقد عادت إليه روح الدعابة من جديد:
- ثم لا تنسي يا عزيزتي أن مهنة الطب تدر المال الكثير، وبذلك يحقق لك حلمك فيشتري لك ((الفيلا)) التي تتوقين إليها.
لقد التقطت يومها عصاماً، فضمته إلى صدرها في حنان وقالت وهي تغرقه بالقبلا:
- بل يشتريها لزوجته التي لا بد وأنها ستختطفه مني في يوم من الأيام... ).
وانتبه عصام لشرود أمه، وطالع في وجهها ملامح الحزن والكآبة فأدرك ما تفكر به لأنه كان يعاني من الخواطر ذاتها، لذا فهو يشعر اليوم أن فرحته عرجاء، موشحة بالحزن، منداة بالدموع، لأنه لا يجد أباه بقربه، يشاركه بهجته، ويبارك فوزه الكبير...
ورأى أن من واجبه أن ينتشل أمه من دوامة الذكريات فقال لها مواسياً:
- أماه.. سوف تجدين مني كل ما يرضيك ويقر عينيك، وسوف أنسيك عما قريب كل أحزانك القديمةز
ثم ضمها إليه ليخفي عنها الدموع التي ترقرقت في عينيه أسفاً على أبيه الذي مات عنه وهو ما زال طفلاً، فنشأ يتيماً محروما من حنان الأب وعطفه، وإن كانت أمه قد عوَّضته عنه الكثير.
إنه يشعر أن أمه هي كل شئ في حياته.. إنها الواحة الخضراء التي يلجأ إليها من قيظ الأحزان ليجد عندها الراحة والسلوى والعطف والإهتمام.. إنها المعلم الملهم الذي يتلقى عنه مبادئ الحكمة ودروس الحياة...
لقد لعبت أمه دوراً كبيراً في تكوين شخصيته، فقد ربته على الأخلاق الفاضلة، وغرست في نفسه حب العمل والصبر على التعب، وعوَّدته على احترام الوقت والنظام، ونأت به عن الدلال والميوعة والانحلال ، فنشأ فتى رشيداً... قوي النفس والإرادة... علي الهمة ... طاهر الوجدان... يسعى نحو رجولة مبكرة تبشر بالكثير. لقد كانت أمه دائما وراء تفوقه ونجاحه، تحفه بالدعوات الضارعة، والكلمات المشجعة التي كانت تدفعه قدماً إلى الأمام:
(( - أماه أنت صاحبة الفضل الأول في نجاحي، وإليك سوف أهدي كل منجزاتي)).
قالت الأم وهي تطبع على جبينه قبلة حانية:
- بل هو تعبك واجتهادك يا ولدي ، وقد أثمر الآن...
(( - أدامك الله يا أمي ذخراً لي، ووفقني لإرضائك... )).
* * *
ودخل عصام الجامعة... فاستهوته علوم الطب التي طالما عشقها، واستغرقت وقته وتفكيره وصارت شغله الشاغل ثم بدأت طموحاته تنمو وتتبلور مع الأيام... إنه لا يرضى أن يكون مجرد طالب في كلية الطب، بل لا بد أن يكون الطالب الأول فيها بلا منازع. ثم إنه لن يكتفي بشهادة (( البكالوريوس ))، بل لا بد له من متابعة دراسته العليا في إحدى الاختصاصات الطبية حتى يحوز على أعلى الشهادات والألقاب العلمية.
لقد أزمع أن يسك طريق البحث العلمي حتى يصبح عالماً من علماء الطب البارعين الذين يتحدث العالم عن إنجازاتهم وأبحاثهم...
(( - إن علماء الغرب ليسوا بأذكى منا، فلماذا نحجم عن الغوص في ميادين البحث والإختراع؟.. لا بد أن نقتحم أسوار المجد مهما كانت شاهقة، وأن نقطع الطريق إلى قمته السامقة مهما أدمت أقدمنا الأشواك... )).
وكثيرا ما داعبت خيال عصام تسميات لنضريات أو مكتشفات علمية بأسماء عربية أو باسمه هو بالذات، يتداولها العالم بأسره ويدرسها طلاب الطب في الشرق والغرب ، ويعتمدها علماء الطب وباحثوه.
وعندما كان عصام يعود من رحلة أحلامه إلى دنيا الواقع، يتذكر أنه ما زال على سفوح المجد الذي يحلم به، وأن قمته المنشودة ما زالت بعيدة، وأن الطريق إليه ما زال طويلا...
(( - ما علينا ... إن الطريق مهما كان طويلا، فإنه يبدأ بخطوة.. ))
وقد خطا عصام خطوته الأولى بدخوله كلية الطب، وعما قريب سيحقق الخطوة الثانية، بتخرج متفوق باهر، وبعد ذلك سوف يغذ السير إلى غده الواعد ليحقق المزيد من طموحاته فيمتلك العلم والشهرة والمال، وعندها سوف يسعد أمه الحبيبة وينسيها أيام العذاب والحرمان، ويزرع حياتها بالمسرات والأفراح. وفي كل مرة كان يستيقط فيها عصام من أحلامه كانت تنبثق في أعماقه طاقة هائلة من العزم، فينهمك في دراسته في شغف وانسجام وإلى جانبه دفتر صغير اعتاد أن يدون عليه ملاحظاته وتساؤلاته ليطرحها على أساتذته، ويناقشهم فيها. إنه لا يحب أن تمر على ذهنه فكرة دون أن يسبر أغوارها، لذلك فهو يقرأ دائما السطور ..

وما وراء السطور..
* * *




الـفـصــل الثاني
- (( كلمة أخيرة إذا سمحتم...
السرطان – كما رأينا من خلال المحاضرة – مرض خطير جدا، يقلق الحياة البشرية ويهدد الكثير من أفرادها على اختلاف أعمارهم وأجناسهم، وعلينا أن نعترف جميعاً بأن الطب ما زال عاجزا أمام هذا المرض اللغز الذي يرهب الجميع)).
بهذه الكلمات ختم الدكتور ((إياد عزت)) محاضرته، ولملم أوراقه معلنا بذلك انتهاءها..
وسرت في المدرج ضجة خفيفة، أحدثها الطلبة وهم يغلقون دفاترهم ويجمعون أشياءهم استعداداً للخروج إلا أن صوتاً انبعث من الأمام، أعاد الجميع إلى هدوئهم وصمتهم، واشرأبت الأعناق للتعرف على صاحب الصوت : وهمس طالب يجلس في الخلف:
- إنه ((عصام السعيد)) يسأل...
فأجابه جاره ((صفوان)) وهو شاب اشتهر في الكلية بالعبث واللامبالاة:
- إذا كان عصام هو السائل فعلى الاستراحة السلام.
أعاد الدكتور إياد أوراقه على المنضدة، وقال وهو يذرع منصة الإلقاء بخطىً بطيئة:
(( - زميلكم عصام يسأل عن صحة ما تردد حول اكتشاف معالجات حاسمة للسرطان بالأشعة في الوقت الذي أقول فيه بأن الطب ما زال عاجزاً أمام هذا المرض...
في الحقيقة أيها الأبناء: إن العجز الذي أعنيه ليس بالعجز المطلق، فقد استطاع الطب في حالات قليلة القضاء على السرطان سواء بالمعالجات الشعاعية، أو بالإستئصال الجراحي، أو بالأدوية السامة القاتلة للخلايا السرطانية لكن العام الأهم في شفاء تلك الحالات كان الاكتشاف المبكر للسرطان، بيد أننا إذا أخذنا الحالات السرطانية التي تأخر اكتشافها – وهي الحالات الأكثر مشاهدة– نجد بأن السرطان، قد أنشب فيها مخالبة واندفع بين الخلايا السليمة فخربها، ونما وتطور بشكل سريع فأثر على الوضائف الطبيعية للأعضاء المجاورة، ومهما حاولنا إزالته بالجراحة أو الأشعة أو الدواء، فأنه يعود للإندفاع من جديد، وهذا ما نسميه ((بالسرطان الناكس)).
إن علاج ككل مرض في الطب يعتمد – في المقام الأول- على إزالة السبب الذي أدى إليه. ولما كان السبب الرئيسي المباشر لمرض السرطان ما زال مجهولاً، فإن كل محاولة لعلاجه ستبقى مهددة بالفشل، قاصرة عن إحداث الشفاء المطلوب، لذلك فإنه لا مفر من الاعتراف بأن الطب ما زال عاجزاً عن القضاء على السرطان)).
ثم قال الدكتور إياد وهو يتجه بحديثه إلى عصام:
- هل هذا يكفي يا عصام؟..
لم تشبع هذه الكلمات القليلة فضول عصام التواق للمعرفة، إلا أنه أشفق على زملائه أن يذهب حقهم في الراحة بسببه، فقال بلهجة مؤدبة:
-دكتور... أنا لا أريد أن أطيل على زملائي فهذه الاستراحة من حقهم، فهل لكم أن توجهونا إلى أحدث المراجع الطبية التي توسعت في أبحاث السرطان؟
أعجب الدكتور بلباقة عصام، وقال موجهاً كلامه للجميع:
(( - أنا أشكر عصاماً على اهتمامه العلمي الملفت للنظر، ومراعاته لشعور زملائه وظروفهم، لذلك فإني أترك المجال مفتوحاً لمن أراد الخروج، وسوف أبقى مع من أراد البقاء، وسمحت ظروفه بذلك، من أجل الإجابة عن جميع الأسئلة)).
ومضت فترة من الجلبة والضوضاء، أحدثها خروج عدد من الطلاب الذي ملوا من المحاضرة أو اظطروا للخروج، وآلمت عصاماً كلمات وصلت إلى سمعه وقد صدرت عن ((صفوان)) إذ كان يقول لإحداهن بسخرية واضحة:
(( - لا أشبعه الله أسئلة ومناقشات.. في نهاية كل محاضرة يفتح لنا ملف أسئلته التي لا تنتهي..)).
لكم ينزعج عصام من هذا الشاب المستهتر المغرور الذي يظن الجامعة نادياً للهو والمرح ومرتعا للميوعة والعبث.. إنه يكره فيه تلك الأنانية المفرطة التي تطغى على شخصيته وذلك الاستعلاء الفارغ الذي يطل من عينيه، وتحت مظهره ((الأرستقراطي)) الجذاب كان يملح عصام نفسية دنيئة لا يراها أولئك الذين أعمى بريق المال والثروة أبصارهم، فلم تقوً نظراتهم الكليلة على اختراق القشرة الخادعة إلى الداخل لتسبر الأعماق.
وانتبه عصام من شروده على الدكتور إياد وهو يقول بعد أن هدأ المدرج:
(( - قبل أن أوجهكم إلى الكتب الحديثة التي تتحدث عن السرطان أود أن أخبركم بأني سعيد جداً بهذه المناقشات العلمية التي يضطرنا إليها زميلكم عصام أحيانا، وأنا حقيقة متفائل جدا به وبأمثاله، وأتمنى من كل قلبي أن يكون شبابنا جميعاً بمثل هذا الاهتمام المشرف)).
وندت عن عصام كلمة شكر سريعة، فرد عليها الدكتور ثم أردف قائلاً ويداه تستندان على المنضدة ونظراته تتنقل بين الوجوه:
(( - الطب يا أعزائي ليس مجرد مهنة مرحبة ومركز اجتماعي رفيع... إنه قبل كل شئ رسالة إنسانسية حملناها من أجل سعادة الإنسان وحمايته من الأمراض والآلام...
يجب أن ندرس العلم أيها الأبناء حباً بالعلم وخدمة للإنسان، لا من أجل المادة والشهرة. أنا مؤمن بأن مجتمعنا يملك نخبة فذَّة من النوابغ الذين يؤمنون بالعلم من أجل العلم والإنسان، لكن هذه النخبة تحتاج لمن يكتشفها... لمن يرعاها ويوجه خطاها... لمن يزرع في داخلها الثقة بالنفس، ويوقد في أعماقها جذوة الطموح...)).
ثم بعد صمت قصير:
(( خذوا مثلا قضية السرطان التي كنا بصددها، إننا جميعا نتلهف لأن يجد الطب لها حلاً، وننتظر جميعا – حتى نحن المختصين في هذا المجال – أن يقدم لنا الغرب علاجاً حاسماً لهذا المرض، لكن أحدنا لم يفكر يوماً أن يكون هو المكتشف لذلك العلاج المنشود، أو أن يكون أحد المساهمين في اكتشافه. لماذا؟.. لأننا لا نثق بأنفسنا الثقة الكافية، ولا نملك الطموح إلى ذلك!!)).
وانتبه الدكتور إياد إلى عصام وقد رفع يده طالباً الإذن ليتكلم، فسمح له بإيماءة فقال:
(( - دكتور... بالإضافة لما تفضلتم به من ضرورة توفر الثقة بالنفس والطموح، لا بد أن تتوفر لدينا الإمكانات المادية، فنحن كما تعلم ينقصنا المال و((التكنولوجيا)) المتطورة والضروف المعيشية والاجتماعية التي تسمح للباحث أن يتفرغ لأبحاثه دون أن تستهلكه مشاكله وهمومه الخاصة... )).
علق الدكتور إياد مؤكداً كلامه:
(( - هذا حق... فالمشكلة المادية و((التكنولوجية)) قائمة فعلاً، لكنها ليست مستحيلة الحل. فمعاهد الأبحاث الدولية المهتمة بأبحاث السرطان، تفتح أبوابها لكل باحث بغض النظر عن لونه أو عرقه أو انتمائه، لأن مشكلة السرطان مشكلة إنسانية وليست مشكلة إقليلمة.. إنها تهم البشرية جمعاء)).
رفع ((سعد)) يده مستأذنا الاشتراك بالمناقشة، وهو طالب متفوق يُعرف في الكلية بحث النقاش الجاد والحوار الهادف، فأجابه الدكتور إياد إلى طلبه قائلا:
- تفضل يا ((سعد)).. يسرني أن تشاركنا النقاش...
قال سعاد بنرات قوية وهو يشير بيده إلى شئ ما:
- على الحكومات في بلادنا أن تتبنى المواهب العلمية، وتدعمها بلا حدود بغض النظر عن اتجاهاتها ومذاهبها، وعوضاً عن صف المبالغ الطائل من أجل ترفيه المواطن وتسليته، يجب أن يبذل الجزء الأكبر منها لبنائه وتطوير قدراته ومواهبة.
أكد الدكتور كلامه بلهجة أكثر قوةً وحزماً:
- الحكومات والهيئات العلمية والاجتماعية، والشخصيات المقتدرة الغنية.. كل أولئك يتوجب عليهم ذلك.
ثم ابتسم ابتسامة فيها شئ من الامتعاض، وقال بلهجة آسفة:
- خطأ كبير أن لا نأخذ من حضارة اليوم إلا القشور!!!..
هتف شاب اسمه ((عرفان)) وقد أنساه التفاعل مع النقاش نفسه فلم يطلب الإذن بالكلام:
- والحل؟؟؟...
أجاب الدكتور إياد، وقد تفهم سبب هذا التجاوز لقواعد النقاش التي يصر عليها دائما:
- الحل يا عرفان أن نحاول.. أن نبدأ، والطريق مهما طال يبدأ بخطوة. أنا لا أملك إلا الكلمات، وشئ آخر استطيعه...
وجم الجميع بانتظار ما سيقوله الدكتور إياد الذي تقدم من عصام ووضع يده على كتفه في ود وقال:
أنا مستعد لتقديم الدعم المادي والعلمي والأدبي لكل طالب يريد أن يشق طريق البحث الطبي لا سيما في أبحاث السرطان. عليه فقط أن يعلمني باستعداده لذلك، وأنا سأتصرف...
وضج المدرج بعاصفة من التصفيق الحار، وسرت فيه همسات الإعجاب والتقدير لهذه المبادرة السخية.
كانت كل العيون ترمق الدكتور إياد بحب وإكبار، لأنه يجسد مثالاً وضيئاً لرجال الأمة المؤهلين لصنع غدها المأمول، إلا عينين واسعتين لفتاة جميلة هي ((سامية)) ابنة الدكتور ((إياد)) إذ كانت ترقب عصاماً وقد فهمت مغزى هذه المبادرة التي أعلنها أبوها، فقد حدثها فيما مضى كثيراً عن إعجابه بهذا الشاب الذكي الطموح... أما عصام فقد أدرك من كلام الدكتور إياد ونظراته أنه يقصده بهذا التبني العلمي الكريم، فانفعلت نفسه لهذا الاهتمام ولمعت عيناه بدموع التأثر والوفاء..
لا يدري عصام لماذا تذكر في تلك اللحضات أباه؟!..
لعل الدكتور إياد استطاع أن يحتل في أعماقه مكان والده الراحل!!..
* * *


اتمنى تنبسطون .....




__________________
اذا كان لابد لك ان تموت ارجوك ان تسأل اذا كان بالامكان ان تأخذ معك صديق