رواية دموع على سفوح المجد الفصل الرابع الليل ساج.. والهدوء يرمي بثقله على كل شئ، لا يقطعه إلا حفيف أوراق الشجر اليابسة، تحركها نسائم الخريف التي بدأت تتسلل إلى غرفة عصام، وقد فتح نافذتها، ليطرد رائحة المواد الكيماوية التي تراكمت في جوها، والتي كان يستعملها في تلوين بعض المحضرات الطبية حتى يتمكن من تمييز معالمها التشريحية الدقيقة تحت المجهر. وجذبته رائحة الخريف، فتقدم من النافذة وراح يتأمل منظر الحديقة الكئيب، وقد تعرت أشجارها إلا شجرة من الورد ظلّت محتفظة بخضرتها الزاهية تتيه ببضع براعم جميلة قد انتصبت في خيلاء تتحدى البرد والريح، وتعطر الجو بأريجها الطيب... وأغراه قربها بقطف أحد براعمها، فتطاول بجسمه، ومدّه إلى أقصى ما يستطيع، فالتقطت أنامله ساق البرعم، فعالجه محاولا قطفه، فانفصل عن أمه بصعوبة، بعد أن أدمت إحدى أشواكه إبهامه الأيمن. ارتد عصام إلى الخلف، وراح يستنشق راحة البرعم الزكية.. لكم يفتنه منظر الورد.. إنه يبعث في نفسه سعادة غامرة ويحرك في صدره أشواقاً لا يدري كنهها.. أحياناً يحس وكأن الوجود قد طوي في يمينه، لكن هذه اللحظات الجميلة سرعان ما تتسرب من نفسه، لتلح عليه همومه الكبرى. وندت عن الجرح ومضة ألم خفيفة، فنظر إلى قطرة الدم التي تجمدت على فوهته، وقد مرّ بخاطره شريط سريع تخيل فيه كل التفاعلات الحيوية التي حدثت داخل هذه القطرة الصغيرة من الدم حتى تخثرت لتشكل سدادة دموية تمنع استمرار النزيف. - ((سبحان الله))... قالها عصام وهو يتجه إلى صيدليته ليعالج جرحه الصغير، ثم مضى إلى الغرفة المجاورة فصب كأساً من الماء وغرس فيه ساق البرعم، ووضعه على منضدته، ثم استرخى على كرسيه وراح يتأمل برعم الورد الذي تألق مزهوا بين أكداس من الكتب والأوراق. وبعد لحظات من التأمل تناول عصام كراسة أنيقة تضم محاضرات الدكتور إياد، ليراجع محاضرة اليوم قبل أن ينام. لقد كانت محاضرة ممتعة حقاً، وأمتع ما فيها كلام الدكتور الذي في نفسه ينابيع الطموح، وفتح أمامه آفاقاً جديدة بلور من خلالها تطلعاته إلى المستقبل. إن الاهتمام بمرض السرطان يسيطر عليه... هذا المرض اللغز الذي يتحدى فضوله، ويدفعه لمنازلته بكل ما أوتي من علم وعزم وتصميم. لقد استقرت في فكره قناعة ثابتة بأن طريقه إلى مجده الذي يحلم به، لا بد أن يمر على أشلاء هذا المرض الفتّاك!. إن كلمات الدكتور إياد لا تزال تدوي في أعماقه... - ((حقاً لماذا لا يفكر شبابنا وأطباؤنا أن يشاركوا في صنع حضارة اليوم بدلاً من استيرادها من الشرق والغرب. صحيح أنه يجب علينا تقبل كل جديد مفيد، لأن المعرفة ليست مقيدة بجنس أو قوم أو مذهب ولأنها تراث إنساني لكل البشر، لكننا في الوقت نفسه يجب ألا نلغي عقولنا ونجمدها ليفكر لنا الآخرون..)). إن عصاماً يشعر الآن بأن اكتشاف علاج هذا المرض العضال بات أمانة في عنقه حملته إياها البشرية بأكملها: (( - آه.. المشهد المأساوي الباكي يتكرر كل يوم.. مريض مصاب بالسرطان.. والسرطان ينمو ويكبر.. الآلام تشتد، والحياة تذوي في جسد المريض المسكين رويداً رويداً.. أما أعين أهله وأحبائه وأطبائه الذين لا يملكون له أكثر من المهدئات والمسكنات، وكلمات التبرير والمواساة التي تنضح بالعجز عن الإنقاذ.. كلمة هذه لكم أكرهها على الرغم من أنها أوضح من كل الحقائق التي توصل إليها الطب الحديث لكنها أقسى الحقائق على الإطلاق!.. يجب أن نحاول.. لا بد من المحاولة حتى تتم السيطرة على هذا الداء))... وأفاق عصام من خواطره مستجيباً لشحنة من النشاط التي دبت في عروقه فراح يقرأ المحاضرة بإمعان.. وانتبه على طرق خفيف على الباب: - أمّاه!.. أما زلت ساهرة بعد؟!.. ثم ابتسم لأمه، التي أطلت بوجهها السمح وسمتها الهادئ، وهي تحمل فنجان الشاي وقد تصاعد منه بخار كثيف استثار شهيته. قال عصام وهو يتناول فنجانه: - أماه أنت دائماً تزعجين نفسك من أجلي. شكراً لك يا أحلى أم في الدنيا.. ما أريد إلا راحتك ورضاك.. هتفت الأم وهي ترفع إلى السماء كفَّين ضارعين: - الله يرضى عليك يا ابني عدد أوراق الشجر وحبات المطر... - ما أحلاه من دعاء.. سترين مني إن شاء الله كل ما يسرك... - إن سروري لا يتم إلا بسرورك، وشئ آخر ستكتمل به فرحتي.. هتف عصام وكأنه يجيب على ((حزُّورة)) طريفة: - لقد حزرت.. التخرُّج؟... أليس كذلك؟.. قالت الأم وهي تلملم الكتب التي كانت مبعثرة فوق السرير: - لستَ بالذي يحلم بالتخرج يا بني، فهو شئ مضمون إن شاء الله وما هي الَّا أشهر حتى تدخل تزف إليَّ البشرى بتخرجك، لكن ما أقصده هو بنت الحلال، هل فهمت الآن؟.. (( بنت الحلال.. آه.. لقد وضعت يدك على الجرح يا ماما!!)). بذلك حدّث عصام نفسه بعد أن هزت أمه بكلماته أدق وتر في وجدانه ليعزف لحن الحرمان، وقفز إلى خياله طيف ((سامية)) فاضطرب فؤاده.. لكم تشده هذه الفتاة إليها بجمالها الوادع وشخصيتها القوية، وهي فوق ذلك ابنة الأستاذ الذي يحبه ويحترمه، ولا بد أن البنت قد ورثت عن أبيها الكثير من طباعه وأخلاقه النبيلة، غير أن ((سامية)) كانت قد دخلت قلبه منذ زمن بعيد.. حدث ذلك حين سمع طرفاً من حديثها مع صديقتها ((منى)) بعد إحدى الجلسات، فبعد أن خرج الطلبة من الجلسة العملية، اضطر عصام للعودة، ليتفقد قلمه، فاسترعى انتباهه حديث يدور بين فتاتين ولم تكن كلتاهما قد شعرتا بدخوله لوجود حواجز من الزجاج الأبيض الشفاف تفصل بين المناضد التي تُجرى عليها التجارب. وبعد أن يئس عصام من العثور على قلمه الضاع همّ بالخروج إلاَّ أن طرافة الحديث استوقفته، فأصاخ السمح بانتباه شديد... كانت سامية تقول لصديقتها ((منى)) في حزم أوحى له بقوة شخصيتها: - منى.. هل تريدين رأيي؟.. إن صفوان هذا يخدعك.. إن يستغل براءتك وطيبة قلبك ليغرر بك.. إنه يلعب بعواطفك يا عزيزتي، وستجدين أن كلماته زيف وعواطفه سراب في صحراء من الغش والنفاق.. قالت ((منى)) تدافع عن ((صفوان)) الذي استحوذ على قلبها وعقلها: - سامية.. إنّك تظلمينه بهذا الكلا.. - أبداً لست بالتي تظلم الآخرين. - لكنك تبالغين... - بل هي الحقيقة بمرارتها أضعها بين يديك ما أريد بها إلا النصيحة أبذلها لك كصديقة... - لكني أحبه... - وما قيمة الحب إذا لم يوجهه العقل ويكبح جماحه؟!... - وأثق به... - ما الذي أوحى لك بهذه الثقة؟!.. - كلماته... نظراته... كل شئ ... كل شئ... قالت سامية وقد نفذ صبرها: - منى؟ هل أنت إلى هذا الحد من السذاجة بحيث تثقين بشاب لا تعرفين عنه أكثر من اسمه ولون بدلته و ((موديل)) سيارته... هل تصدقين؟.. لقد سمعت عنه كل ما يعيب.. فكيف ترضين بالذهاب إلى ((شقة)) شاب تدور حول سلوكه الشبهات بحجة الدراسة والمذاكرة؟ أجابت ((منى)) متهربة: - الجو في بيتنا لا يساعدني على الدراسة. - تعالي فذاكري عندي.. سأفتح لك بيتي وقلبي.. - لكني وعدته.. - اعتذري له.. - سيؤلمه اعتذاري.. قالت سامية في ثقة وهي تضغط على مخارج الحروف: - بل سيتضاهر بالتألم لاعتذارك إمعاناً في استدراجك. - هذا رأيك.. - لقد جردك هذا الفتى من إرادتك!.. - أنا واثقة بنفسي. - أنت واثقة بعواطفك وأهوائك.. أما نفسك فسوف تخونك تحت إغراء الخلوة حيث تستيقظ الغرائز ويعربد الشيطان.. - أنا أقوى من الشيطان.. قالت سامية وقد أحس عصام أنها تتأهب للفراق: - أتمنى ذلك من كل قلبي، ولكني أخشى أن يهزأ بمشاعرك ويستغل عواطفك ليحقق عن طريقها مآرب مريضة تسئ لسمعتك وتهدد مستقبلك.. وثمة حقيقة أخرى أود أن ألفت انتباهك إليها.. سألت ((منى)) في فتور ساخر: - وهي ؟.. - هي أن والده من الأغنياء أصحاب النفوذ في البلد، وسوف يخرج ابنه من أي ورطة كانت كما تخرج الشعرة من العجين إن لم يكن من أجل ابنه فمن أجل سمعته ومركزه. لقد حذرتك يا عزيزتي فاحترسي من عواطفك أن تقودك إلى ما لا تحمد عقباه.. والآن وداعا... عندما خرجت سامية رآها عصام فطبعت صورتها في قلبه.. لقد أعجب بمنطقها الواعي، وأخلاقها الرفيعه، وحرصها على الآخرين، ولما رآها ازداد إعجابه بهذه الفتاة التي جمعت في شخصيتها الكثير من الصفات الرائعة العظيمة.. وألح عليه الفضول فسأل عنها –ولم يكن يعرفها آنذاك- فأجيب: (( أن هذه الفتاة تدعى ((سامية إياد عزت)) وهي ابنة الدكتور ((إياد عزت)) رئيس قسم ((التشريح المرضي)) في الكلية وعندما تعرف على الدكتور ((إياد)) من خلال محاضراته الشيقة وأحاديثه العميقة أعجب بشخصيته الفذة، ورأى فيه مثالاً يحتذى، فاندفع للاهتمام بسامية أكثر، والتفكير بها كزوجة وشريكة حياة. إن حبه الطاهر ينمو ويكبر مع الأيام، لكنه يكتمه عن الآخرين لأنه يؤمن بأن المكان الطبيعي لهذه العاطفة الفطرية النبيلة لا يكون إلا في ظلال الزواج وهو لا يفكر بالإقدام على هذه الخطوة قبل التخرج، وتندّ عن القلب آهات فيخفيها عن أمه، وهي المسكينة التي قسم لها القدر من الهموم ما يكفيها منذ أن فجعت بزوجها الفقيد. وأيقظ عصاماً من شروده صوت كتاب سقط على الأرض من بين مجموعة الكتب، كانت تحملها أمه لتعيدها إلى مكانها في المكتبة.. - أماه.. أرجوك لا تتعبي نفسك بترتيب المكتبة، بودي لو تنامين. قالت الأم مازحة وهي ترمي ابنها بنظرات تصنعت فيها العتاب: - هل مللت مني؟ هتف عصام وقد تملكه شعور بالذنب: - معاذ الله.. ما أريد إلا راحتك، فأنت لا تفترين عن الحركة طوال النهار. - هل سمعت بإنسان ينام وعيناه ساهرتان؟!.. أنت عيناي اللتان أبصر بهما فلا أستطيع النوم حتى أطمئن عليك، ولن أترك هذه العادى حتى أزفك إلى عروسك. قال عصام وهو يستسلم أمام عناد أمه: - من أجل عينيك يا ((ماما)) سأترك كل شئ بين يديّ لأنام. - خذ راحتك يا بني، وأنهِ عملك كما تراه مناسباً ريثما أغسل بعض الأواني ثم أنام. تصبح على خير.. - وأنت من أهله. عندما نام عصام كان طيف أمه وطيف سامية آخر ما ودع من أطياف الحياة. * * * الفصل الخامس عندما وصل عصام إلى مكتب الدكتور إياد في الطابق الثالث من مبنى كلية الطب، توقف لحظة ريثما تأكد من سلامة هندامه، ثم طرق الباب طرقاً خفيفاً، وقف ينتظر الإذن بالدخول.. وأطل من وراء الباب وجه جميل اضطرب له فؤاده، وأطاح بهدوئه فراحت الكلمات تتلعثم على شفتيه: - ((صـ .. صباح الخير)).. الدكتور إياد موجود؟.. لم تكن سامية أكثر تماسكا، فقد احمرت وجنتاها، ورمشت عيناها، وقالت هي تغض طرفها في حياء: - (( صباح النور )) .. لحضات ويأتي ... - أعتقد أن لديه ساعة فراغ... - هذا صحيح.. إنه على وشك الوصول. - حسناً.. سأعود بعد دقائق. واستدار عصام يريد أن يمضي لكنه رأى الدكتور إياد قادماً فتوقف بانتظاره.. ومضت لحضات قليلة ريثما وصل الدكتور إلى مكتبه قاطعاً الممر الطويل، فصافح عصاماً بحرارة ثم قال مرحباً وهو يجلس وراء مكتبه: - أهلا بك يا بني.. خطوة عزيزة... قال عصام وهو يتقدم بخطىً أثقلها الإحترام: - أرجو أن يكون لديكَ متسع من الوقت للحديث.. - الوقت جدّ مناسب.. فلدي الآن ساعة من الفراغ. - من حسن حظي أن لا أجد لديك مشاغل أخرى... قال الدكتور إياد وهو يشير إلى عصام وسامية بالجلوس: - ((في الحقيقة يا عصام المشاغل لا تنتهي.. فالواجبات أكثر من الأوقات كما يقولون، لكن هناك أولويات.. أريد أن أقول لك شيئاً: أنا ضد هذه الهوة التي تفصل بين الطالب والأستاذ في بلادنا، فالأستاذ - في رأيي – يجب أن يكون أكثر من مدرس لاختصاص ما.. يجب أن يكون أباً لطلابه، وصديقاً وتلميذاً في بعض الأحيان)). رفع عصام حاجبيه دهشة، فسارع الدكتور إياد إلى تبديد دهشته: - (( لا تستغرب كلامي.. هذا ليس تواضعاً، ولكنه حقيقة.. أنا مثلاً أخصائي في ((علم التشريح المرضي)) ولكنك –أنت أو غيرك- أعلم مني في مجالات أخرى خارج اختصاصي. وعليّ أن أتقبل منك معارفك بنفسيه التلميذ الذي يطلب العلم ويسعى إليه.. إننا –في الحقيقة- جميعاً تلاميذ نغرف من بحر المعرفة الزاخر الذي لا ينتهي، وسنظل عطشى مهما ابتغينا الإرتواء، ومهما أوغلنا فيه فسنجد أنفسنا ما زلنا على الشطآن.. ثم قال وهو يهز رأسه في أسف: - يؤسفني أن لا يوجد في بلادنا ذلك التفاعل الاجتماعي والثقافي بين الطالب والأستاذ.. الجامعة يا عصام مؤسسة علمية وثقافية وسياسية في آن واحد.. مؤسسة خطيرة، لها دورها الكبير، وأثرها الفاعل في المجتمع.. وعن طريقها تتقدم الأمة ويقوم بناؤها الحضاري المنشود، لكنك في جامعاتنا تقرأ معالم تخلفنا البغيض. إننا لا ننظر إلى الجامعة أكثر من أنها مرحلة زمنية.. مرحلة ما بعد الشهادة الثانوية وما قبل العمل والاستقرار. للأسف الشديد نحن نشكون من عقد كثيرة تحبط كل محاولات النهوض، لا تؤاخذني يا بني إذا أطلت.. - أبداً.. أبداً.. بودّي لو أسمع المزيد... - إنها همومنا اليومية التي لا مناص لنا من تداولها، والطب علّمنا أن العلاج الصحيح يجب أن يسبقه تشخيص دقيق، لذلك فأنا أحاول دائماً أن أشخص أمراضنا الإجتماعية. والآن ماذا وراءك يا عصام.. كنت أتوقع مجيئك. أجاب عصام وهو يرنو إلى أستاذه بعينين تشعّان حباً وإعجاباً: - أستاذ.. لا أدري ماذا أقول لك، ولا من أين أبدأ.. إنني في صراحة شديدة معجب بآرائك ومواقفك، وكلما استمعت إلى محاضراتك أو جلست إليك، تحركت في أعماقي طاقة هائلة من الهمة والتحفز والنشاط والطموح لا أعرف كيف أوجهها!. لقد كانت محاضراتك الماضيةمحل تفكير عميق مني، وكان لمبادرتك الكريمة بتبني الطاقات العلمية أكبر الأثر في نفسي، وها أناذا أطلب أبوتك العلمية، راجيا منك أن تصنعني كما تريد، فإني نذرت نفسي للطب، وبالتحديد لمشكلة السرطان. اهتز الدكتور إياد لكلمات عصام ورأى فيه بارقة أمل تبشر بولادة فجر جديد.. فجر عظيم لطالما انتظره وحلم به.. - لو كان شبابنا كلهم من هذا الطراز، إذا لطوينا حياة التخلف والتمزق والانهيار التي نحياها، وحرقنا المراحل في طريقنا إلى المستقبل الذي نتطلق إليه واستعدنا مكانتنا المرموقة تحت الشمس، ولكن .. آه ... فكر الدكتور إياد في هذا وقد شبك يديه تحت ذقنه وعيناه تسبحان في تأمل عميق... أما عصام فقد كانت يده المبسوطة على المنضدة تعاني من اضطراب حركة أصابعها وكأنها تداري بذلك ارتباكه بينما راحت اليد الثانية تشد على حافة الكرسي الجلدية، وقد رطبتها بالعرق من فرط الإنفعال. وكانت سامية تتأمل هذا المنظر المؤثر بإكبار، وترمق عصاماً بإعجاب.. هذا هو الشاب الذي تحلم به.. هذا هو فارس أحلامها المنشود.. لقد تهاوت أمامه الآن أسوار الحيرة والتردد التي كانت قائمة في قلبها إزاءه ليقتحمه فيحتله إلى الأبد... قال الدكتور إياد بنبرات قوية معبرة بعد أن مضت لحضات من الصمت الحافل بالانفعال: - اسمع يا بني.. قد لا أتقن صناعة الرجال، لكنّي أملك أن أضع قدميك على أول الطريق، وأوجه خطاك نحو القمة .. سأعطيك أول الخيط، وسأدعمك بكل ما أستطيع لتصنع نفسك بنفسك.. بالعزيمة والتصميم.. بالصبر والتعب.. بالعمل المضني الدؤوب... ثم بعد صمت قصير: - هل لي أن أعرف نبذة عن وضعك الاجتماعي؟.. إذا سمحت طبعا؟.. أجاب عصام وقد فاجأه السؤال: - بكل سرور، ولكن اسمح لي أن أوضح لك بأنني إنما أريد الدعم العلمي والأدبي فحسب، أما المادة فهي متوفرة والحمدلله... قال الدكتور إياد وهو يحرك يده حركة من يطلب التريث: - لحظة من فضلك.. لنكن صرحاء.. إن الطريق الذي سوف تسلكه طريق صعب طويل يحتاج لكل شئ. ونحن جميعاً إنما نعمل لغاية عظيمة تتطلب منّا أن نتجاوز الكثير من اعتباراتنا الشخصية حتى نحققها على الوجه المطلوب. وأنا عندما سألتك عن وضعك الاجتماعي لم أقصد الوضع المادي فحسب، بل طلبت بصورة عامة تشمل كل شئ في حياتك الاجتماعية يمكنك أن تصارحني به. لننسَ أنني أستاذك في الجامعة... اعتبرني بمثابة والدك إذا سمحت؟ وشعرت سامية بأن وجودها قد يربكه فنهضت وقالت: - ((بابا)) هل تسمح لي بالإنصراف؟ لكن عصاماً قال بلهجة دلت على تمسكه ببقائها: - لعلك تريدين الإنصراف لأجلي.. أرجو أن تجلسي إن كان الأمر كذلك.. استسلمت سامية لإرادة عصام وقد نفذت كلماته إلى أعماقها، ففهمت مراده بحاسة الأنثى.. إنه يريدها بقربه.. يريدها أن تسمع كلامه... أن تعرف عنه كل شئ.. وجلست دون أن تنبس، وعلى شفتيها ابتسامة امتنان. قال الدكتور إياد: - اجلسي يا سامية.. إن عصاماً لديه من الجرأة الأدبية ما يجعله يقول ما يريد دون حرج. لقد سبرت أغواره منذ زمن. قال عصام: - أشكرك على هذه الثقة. في الحقيقة أنا أعيش وحيداً مع والدتي في بيت نملكه ... مات أبي منذ فترة طويلة.. كان تاجراً ميسوراً، وقد ترك لنا بعض الأموال والعقارات التي ما زلنا نعيش منها حتى الآن، دون أن نحتاج أحداً.. لي أخت متزوجة وهي تقيم مع زوجها الذي يعمل في السعودية.. ولي أيضاً عم مغترب في الأرجنتين منذ زمن بعيد.. هذا كل شئ.. وقف الدكتور إياد، وراح يذرع المكتب جيئة وذهاباً، وهو غارق في التفكير، أما سامية فقد فهمت الآن مصدر الحزن الصامت الذي يوشح دائماً وجه عصام ويطل من نظراته.. لقد عانى بلا شك من الحرمان إلى حنان أبيه، وتفتح وعيه على مأساة باكية تسربت كآبتها إلى طبعه وترسبت في وجدانه. وراحت تسترق إليه نظرات تنطق بالرثاء... توقف الدكتور إياد فجأة وقال: - دعنا نشرح الأمر كما يلي.. لديك منهاجك الدراسي الواسع، لا سيما وأنت الآن على أبواب التخرج، ولديك اهتمامك بالخاص بأبحاث السرطان، والذي يتطلب منك رؤية الحالات السرطانية المختلفة، ودراسة تشريحها المرضي، وملاحقة كل جديد يصدر في المجلات الطبية حول هذا المرض. وهذا يتطلب منك أن تكون قريبا من عيادتي ومختبر أبحاتي لأطلعك باستمرار على الحالات التي تأتيني. وبذلك تتعمق خبرتك بهذا المرض، فإذا ما ذهبت للإختصاص برعت فيه. وتفوقت على زملائك ونلت أعلى الشهادات وحزت على إعجاب أساتذتك وتقديرهم.. بالمناسبة أنا أعرف عدداً من العلماء المهتمين بأبحاث السرطان في أمريكا بصفتي زميلاً في (( الجمعية الأمريكية للسرطان)) بما فيهم الدكتور ((فرانكلين جاكسون)) رئيس الجمعية وأنا على صلة مستمرة به، حيث نتبادل الآراء حول آخر ما يجدُّ من أبحاث ونظريات ومعالجات لهذا المرض، وسوف أحدثه عن طموحك، وأطلب منه أن يتدخل من أجل قبولك في إحدى الجامعات الأمريكية، وهو لن يتأخر، لاسيما عندما يرى وثيقة درجاتك المشرفة والتي ستتوجها هذا العام بتخرج متفوق إن شاء الله.. بالمناسبة.. حاول أن تحضر لي صورة وثائق تخرجك بمجرد صدورها حتى أتمكن من إرسالها إلى أمريكا في أقرب وقت.. - قال عصام والفرحة تغمره: - دكتور.. لا أدري كيف أشكرك على هذا الاهتمام.. إن اندفاعي للتعاون معك يزداد يوماً بعد يوم!. قال الدكتور إياد وهو يرمق عصاماً في عتاب: - إنما أقوم بواجبي يا بني، أم أن الواجب أمسى في نظرك تطوعاً نبيلاً يستوجب الشكر والثناء؟ قال عصام وهو يداري ارتباكه أمام عتاب أستاذه الرفيق: - إذا لم يشكرك لساني فيشكرك قلبي.. إن لم يكن لأنك تقوم بواجبك فلأنك تعلمني ما هو الواجب. ابتسمت سامية لهذا الرّد اللبق بينما سأله الدكتور إياد: - كيف لغتك الإنكليزية؟ - جيدة والحمدلله.. إنني أقرأ المراجع المكتوبة بالإنجليزية بطلاقة. - حسن جداً.. فلتكثر من ذلك حتى توفر على نفسك سنة اللغة التي يحتاجها الطلبة عادة لتقوية لغتهم وهذه مكتبتي تحت تصرفك لك أن تستعير منها المرجع الذي تريد. - شكرا لك، ولكن.. كيف سنتعاون؟.. أقصد كيف سيكون برنامجنا معاً؟.. قطّب الدكتور إياد وجهه مفكراً ثم همس بنبرة حائرة/ - في الحقيقة هذا ما أفكر فيه.. - أنا مستعد للتوفيق بين دراستي وتعاوني معك مهما كانت أعباؤه، وما هي إلا أشهر وتمضي.. سأتحمل تبعها وأمري إلى الله. قال الدكتور إياد في حماس وقد أضاء وجهه بابتسـامة مشرقة: - في الحقيقة لديّ فكرة.. فكرة علمية جداً.. تحلّ لنا الكثير من المشاكل وتوفر لنا المزيد من الوقت مما يساعدك على إنجاز مشروعك بنجاح.. لكنها فكرة غريبة بعض الشئ وقد تتشنج إزاءها!... - أقبلها مهما كانت. - لا تتسرع... اسمعها ثم اعطني رأيك بصراحة.. لعلك لا تعلم أني أملك عمارة كبيرة مؤلفة من ثلاثة طوابق وكل طابق مؤلف من شقتين، خصصت الطابق الأرضي للعيادة والمختبر، وأشغل أنا وأسرتي الطابق الثاني بشقتيه، بينما الطابق الثالث فارغ، ولا أنوي استعماله أو تأجيره حالياً، فما رأيك لو انتقلت أنت والوالدة إلى إحدى الشقتين الخاليتين، وبذلك نستطيع تنسيق أوقاتنا بما يناسب ظروفك ويحقق طموحك.. فما رأيك؟ استغرب عصام لهذا العرض، وأدهشه هذا التحمس من الدكتور إياد، واهتزت نفسه لهذه الأريحية، فأطل التردد من عينيه، وقال: - لقد فاجأتني بهذا العرض، ولا أدري ماذا أقول؟ - ألم أقل لك لا تتسرع بالجواب.. فكر بالموضوع مع الوالدة. - بالنسبة لي لا توجد مشكلة، فأنا مستعد لكل ما يخدم مشروعنا، ولكن الوالدة قد تمانع في ذلك، كما أنني أريد أن أعرف طريقة السكن عندك. هل هو سكن بالأجرة؟.. أم أنك ستبيعنا البيت؟.. ثم لا بد من دراسة ظروفنا المادية على أساس هذه الطريقة!.. قال الدكتور إياد وهو يبتسم في هدوء: - سامحك الله يا بني.. اعتبرها ضيافة، أم أنك لا ترغب في جواري؟ - معاذ الله، ولكن الوالدة حساسة جداً في مثل هذه القضايا.. إنني أعرفها جيداً. أرسل الدكتور إياد تنهيدةً وقال: - بالنسبة للقضايا المادية سنسويها كما ترتاح أنت ووالدتك، أم بالنسبة لموقف والدتك، فمهما كان صعباً فلن يصعب على ابنها الغالي.. أنا أب يا عصام وزوجتي أم، وأعرف ضعف الأم أمام رغبات أبنائها، لا سيما أمثالك.. هذه سامية أمامك، اسألها كيف تقنع أمها بما لا تريد... ابتسمت سامية ولاذت بالصمت، بينما قال عصام: - أعدك بأني سأدرس معها الفكرة، وأحاول إقناعها.. - وإن لم تقتنع فسأتدخل شخصياً لتحقيق ذلك. والآن أرجو أن تسمح لي فقد اقترب وقت المحاضرة ولا بد من التحضير لها. قالت سامية وهي تهم بالنهوض/ - أترى يا عصام إن والدي يهتم بك أكثر من اهتمامه بابنته. تساءل عصام متجاوبا مع دعابتها: - لعلها الغيرة؟!. - بل هي الغبطة با بني. هكذا قال الدكتور إياد وهو يضحك ضحكته المميزة، وقد أضمر في نفسه شيئاً!. * * * انتها الفصل الخامس .... واتمنى تستمتعون ....
بدي ردودكم
__________________ اذا كان لابد لك ان تموت ارجوك ان تسأل اذا كان بالامكان ان تأخذ معك صديق
التعديل الأخير تم بواسطة فراشة مضيئة ; 07-09-2010 الساعة 04:53 PM
سبب آخر: اكمال الفصل و تحسين العنوان
|