الفصل السادس
إن فرحة عصام اليوم بلا حدود.. فها هي الأقدار تبتسم له وتدفعه إلى آماله دفعاً.. إنه يحس الآن بالحياة من حوله حلوة نضرة لأنه صاحب هدف كبير بات يعرف الطريق إليه...
وكلما تذكر وعد الدكتور إياد له بتأمين قبوله في أمريكا، وفي الفرع الذي يصبو إليه، غمرته السعادة، وتملَّكله السرور، وطغى عليه الإبتسام...
وفي غمرة الأحاسيس المتدفقة بالبهجة والفرح كان طيف سامية لا يفارقه.. فقد أضحت روحه التي يحيا بها، وقلبه الذي يخفق بين جوانحه.. لقد شعر اليوم أنها قريبة منه أكثر من أي وقت مضى، وفهم من كلماتها ونظراتها ومشاعرها نحوه، وتأكد من ميلها إليه.
ولاح إليه المنزل من بعيد فأوسع الخطوَ إليه.. يحدوه الشوق لأن يبث أفراحه الجديدة إلى أمه الحنون.. ووصل إلى البيت فقرع الجرس كعادته ليشعر أمه بقدومه، ثم أدار المفتاح في القفل ودلف إلى الداخل وهو ينادي في لهفةٍ عارمة:
-((ماما)) .. ((ماما)).. أين أنت يا ((ماما))؟
وأجابه صوت عميق من وراء الجدران:
- أنا هنا في المطبخ.. ماذا هناك؟..
ألقى عصام كتبه على طاولة الصالون، واتجه إلى المطبخ في خفة ومرح، وما إن رآها حتى هتف:
- ((ماما)).. أنا فرحان.. أنا سعيد.. لو تعلمين كم أنا سعيد...
تساءلت الأم في دهشة وابتسام:
- أسعد الله أيامك كلها، ولكن أخبرني ما الذي حدث؟
- ماذا أخبرك يا أماه؟.. عما قريب ستتحقق كل أحلامي وآمالي. إن الأفراح تأتي على ما يبدو دفعة واحدة.
- ما الذي تتحدث عنه بالله عليك؟.. أشركني في فرحتك؟
- أماه... أنا جائع... جائع جداً.. أريد أن آكل.. أن أستمتع بطعامك الطيب اللذيد.. على فكرة.. ماذا طبخت لنا اليوم؟
- أكلة لذيذة ستأكل أصابعك بعدها.. إنَّها ملفوف ورق العنب التي تحبها جداً.
- ((ممم)).. شئ لذيذ حقاً.. هيا نحضر الطعام معاً، ثم أقص عليك ما جرى..
كانت الأم تسكب الطعام في الصحاف في خفة وسرور مبعثه هذا التغير الطارئ الذي بدا فيه ابنها فرحاً سعيداً بينما كان عصام ينقل تلك الصحائف إلى طاولة الطعام في همة ونشاط. وما هي إلا دقائق قليلة حتى التأم شملهما حول المائدة وشرعا في تناول الغداء...
قال عصام وهو يلتهم إصبعاً من أصابع الملفوف الطازج:
- أماه.. تعرفين مدى حبي للطب، وطموحي للإختصاص في أحد فروعه، وبالتحديد مرض السرطان...
صاحت الأم في فزع وقد تقلصت ملامحها:
- أعوذ بالله... لعنه الله ولعن سيرته!!!.
ضحك عصام وقال:
- ((ماما)).. السرطان لا يذهب باللعنات، ولو كان الأمر كذلك لنذرت عمري في لعنه.. لا بد من العمل.. من البحث والتجريب.. إنه داء فتاك يحير العلماء.. ويحتاج لمن يسبر أسراره ويكتشف علاجه الشافي.
- لعنه الله ألف مرة.. واللّه كلما ذكر اسمه المشؤوم أمامي شعرت بالقشعريرة تسري في جسدي.
قال عصام وهو يتحول إلى الجد:
- لعنه الله مليون مرة.. المهم في الحديث أنّ الدكتور إياد.. لقد حدثتك عنه مراراً...
- أجل أذكره، إنك تحبه كثيرا على ما يبدو...
- هذا صحيح.. إنّه إنسان نادر.. تصوري أنه تطوع لدعم أي طالب يريد أن يختص في هذا المرض ويتعمق في أبحاثه، فما كان مني إلا أن ذهبت إليه اليوم، وقلت له أنني أتطلع للإختصاص في هذا المجال وأنني مندفع جداً لهذا الأمر فتجاوب معي إلى أبعد الحدود، ووعدني أن يرمن لي القبول في إحدى جامعات أمريكا.. إنه على صداقة حميمة برئيس الجمعية الأمريكية للسرطان ووعدني أن يحدثه عن تفوقي وطموحي.
توقفت الأم عن الأكل ثم قالت والهمّ يلوح في نظراتها:
- فكرة السفر هذه كم أكرهها!.. ألا يكفيك أن تتخرج وتفتح لك عيادة جيدة في مكان مرموق؟.. اسمع مني يا بني.. سوف أبيع قطعة من أرضنا التي في الريف وأفتح لك أفضل عيادة في البلد، وأحدثَها.
- قال عصام وهو يصب كأساً من الماء:
- سامحك الله يا أمي!. هذا الكلام كان على أيامكم، أما اليوم فإن الطبّ بلا اختصاص لم يعد عليه ذلك الإقبال، لأن علومه توسعت كثيراً، والإختصاص يؤمن للطبيب خبرة عالية وشهرة فائقة ودخل ممتاز.. ثم إنني أطمح إلى أكثر من العيادة والشهرة والمال.. أتمنى لو أصبح عالماً في الطب يا أماه، أم أنك لا تريدين لابنك أن يصبح عالماً مشهوراً؟
قالت الأم وهي تشير إلى نفسها متسائلة:
- أنا؟.. إنني أتمنى أن تصبح أفضل طبيب في الدنيا، ولكني أكره أن تبتعد عني.
- ولماذا أبتعد عنك؟ سآخذك معي..
- إلى أمريكا؟!..
- وإلى آخر الدنيا...
ضحكت الأم وقالت وهي تلملم حبات من الرز كانت منثورة على المائدة:
- لا أدري ماذا أفعل بلسانك.. دائماً تغلبني بمنطقك الجميل.
- كلامك يشجعني لأن أطرح عليك فكرة جديدة اقترحها عليَّ الدكتور إياد.
- ما هي هذه الفكرة؟
- انتهى عصام من طعامه فحمد الله، ثم قال:
- إن تعاوني مع الدكتور إياد سيشغل جزءاً كبيرا جداً من وقتي، فبالإضافة إلى الوقت الذي يستهلكه مني التحضير لامتحانات التخرج، سأضطر إلى ملازمة الدكتور إياد في عيادته لمشاهدة حالات السرطان المختلفة والتمرس في طرق تشخصيها وعلاجها، عدا الوقت الذي سأقضيه في مطالعة المراجع الأجنبية والمجلات الطبية، ولا تنسي الدوام في الكلية...
وكيف ستوفق بين كل هذه الأمور؟ على هذا لن تجد وقتاً حتى لتأكل؟!.
لا تخافي عليّ يا أماه،سأنظم وقتي تنظيماً دقيقاً، واقتراح الدكتور إياد سوف يساعدني كثيراً، فقد عرض عليّ بعد أن حدثته عن أوضاعنا وحياتنا الخاصة أن أنتقل أنا وأنت لنقيم في شقة ضمن عمارته التي تضم منزله وعيادته، وذلك حتى يتسنى لنا استغلال الوقت وتنظيمه بما يناسب ظروفي وظروفه ويحقق طموحي في أفضل صورة ممكنة.
- ضربت الأم صدرها في جزع وهتفت كالملسوعة:
- ماذا؟.. نترك بيتنا؟!.. نترك هذا البيت العامر بالذكريات؟؟!...
ثم أردفت وقد تهدج صوتها ولمعت عيناها بالدموع:
- أنترك البيت الذي عشت فيه أحلى ايام عمري مع أبيك؟.. أأنرك الحديقة التي غرس أشجارها بيديه الطاهرتين؟...
إنه ليصعب عليّ أن أفارق هذا البيت العزيز على نفسي فلا تحرجني يا بني.. بالله عليك؟
خفق قلب عصام إكباراً لهذا الوفاء وقال وقد أحسّ بغصة في حلقة:
- لم أكن أتصور أنك تتعلقين بهذا البيت إلى هذا الحد!.
ثم قال بعد أن مالت نفسه إلى الهدوء:
- أماه.. إنني أكنّ في نفسي المشاعر ذاتها، ولكن يجب أن لا تكبلنا الذكريات فالحياة تمضي بسرعة عجيبة، وإن لم نواكب حركتها ركلتنا إلى عالم النسيان.
- فلتواكبها في هذا البيت وتريحني.
- لكن الدكتور إياد مصر على الفكرة، وإذا لم توافقي فسيتدخل بنفسه ليرجوك أن تسمحي بذلك.. هكذا قال لي فلا تحرجيني معه.
قالت الأم وقد حارت في أمرها:
- لقد أوقعني في حيرة شديدة، فلست بقادرة على ترك البيت ، ولا أرضى أن أكون عقبة في طريق مستقبلك، ثم لا يمكن أن أسكن في بيت دون أن يكون ملكي أو أدفع أجره ، هذا أمر لا أتنازل عنه بحال ...
- لقد وضحت للدكتور إياد ووعدني بتسوية الأمور المادية بما يناسب الضروف، المهم عندي أن تقتنعي بأن هذا الحال سيساعدني على تحقيق المستقبل الذي أبغيه... أرجوك...
قالت الأم وقد بدأت تستسلم لإرادته:
- أنت الرجل هنا فقرر ما شئت...
- ما كنت لأقرر أمراً ما لم يكن ممهوراً برضائك، وإذا كنت أنا الرجل في هذا البيت فأنت أمه الغالية التي لن أخالف لها في النهاية أمراً أو رغبة.
- الله يرضى عليك...
- هذه الكلمة تسحرني ... هه، ماذا قلت؟
- ماذا أقول؟.. لقد حاصرتني بأسلوبك العذب الجميل... مثل كلمة مرة.
- ما ذنبي إذا كنت تملكين قلباً كبيراً يتسع لكل مشاكلي، ويستجيب لكل رغباتي... هل أفهم أنك موافقة؟
قالت الأم وقد أسقط في يدها:
- موافقة، ولكن... ماذا سنفعل بهذا البيت؟
- فكّر عصام ملياً ثم قال:
- سنتركه إلى حين.. ثم نعود إليه ما دام يهمك إلى هذا الحد. أماه.. لن أحرمك من موطن ذكرياتك الغالية.. أعدك بأنني سوف أستقر معك بعد أن أعود من دراستي في الخارج وسترين فيه أحفادك الذين سيملؤونه عليك أنساً وسعادة...
ضحكت الأم وقالت:
- على رسلك يا عصام.. لا تسرف يا بني في الوعود، فلا تعرف ماذا سيحمل لنا الغد. المهم أني واثقة بتصرفاتك ورجاحة عقلك، فافعل ما بدا لك.. الآن، وفي المستقبل.
- سأكون عند حسن ظنك بي.. إن شاء الله.
- إن شاء الله.. سأحضر الشاي..
* * *
استرخى عصام على كرسيه بانتظار الشاي. بيد أن ذكرى والده حطت فجأة في ساحة خواطره فعصفت بكل سعادته:
- (( رحمك الله يا والدي.. ماذا لو كنت معنا الآن؟..
كنت أود لو رافقتني في رحلة الحياة، لأنعم بقربك الحبيب وأستظل بعطفك وحنانك.. أستمد منك التشجيع.. وأستلهم من تجاربك الثرية خطواتي إلى المستقبل... ))
وانتبه عصام على خطوات أمه حين عادت، فأرسل ابتسامة عريضة أخفى تحتها ملامح الحزن التي كانت تغضن وجهه ثم قال وهو يتناول فنجانه:
- أماه.. هناك.. هناك سرّ أود أن أبوح به إليك.
- سر؟!.. عساه خيراً...
قال عصام بنبرة هامسة:
- لقد وجدتها.
- من ؟
- بنت الحلال...
هتفت الأم في لهفة:
- بنت الحلال؟.. أصحيح ما تقول؟ لعلك تمزح!.
ثم تابعت وهي تجلس قربه في فرح عارم:
- قل لي من هي؟ خبرني بالله عليك.. ما أوصافها؟ وكيف تعرفت عليها؟ من هم أهلها؟ هل هي جميلة؟؟ ما لك صامت لا تتكلم؟!...
ضحك عصام من أعماقه واستغرق في الضحك حتى دب الألم في خاصرته بينما تابعت الأم في توسل باسم:
- هيا خبرني أرجوك، فقلبي يشتاق إلى هذه اللحظة منذ أمد بعيد.
قال عصام وهو يحاول أن يتمالك نفسه:
- رويدك يا أماه... رويدك..
- هيا تكلم؟ فأنا في لهفة لمعرفتها، هيا ...
- لقد أغرقتني بأسئلتك، فلم أعد أدري على أيها أجيب، ولكنّ الأهم من كل ذلك أنها دخلت قلبي منذ زمن، فارتاحت لها نفسي، واقتنعت بها شريكة حياتي.
لكزته الأم في صدره وهمست في عتاب:
- أيها الماكر!.. منذ متى تكتم أسرارك عني؟! يبدو أن بنت الحلال هذه قد خطفتك مني دون أن أشعر.
- ((ماما أنت الأصل)).. ((أنت الكل بالكل)).. تأكدي أن قلبي يتسع لكما معاً دون أن تزاحم إحداكن الأخرى.. بل إن لك فيه المكانة الأكبر والأقدس...
- كل الشباب يقولون هذا قبل الزواج، ثم لا يلبثون أن يتغيروا!.
- إلا أنا.. صدقيني يا أماه...
- لنرَ.. والآن حدثني عنها لأختبر ذوقك؟
- إنها سامية بنت الدكتور إياد.
- بنت الدكتور إياد!!.. الآن فهمت سر هذا الحب الذي تكنه لهذا الدكتور، وسر ذلك الشرود الذي يغشاك بعد أن تحدثني عنه.. يا لسذاجتي وغبائي!!... كيف لم أفطن لهذا؟!..
ابتسم عصام ولم ينبس فألحت الأم من جديد:
- لم تصفها لي بعد؟...
- أهم صفاتها أخلاقها... حشمتها... تربيتها... وعيها...
- أريد شكلها.. كيف شكلها؟
- إنها بيضاء البشرة.. شقراء الشعر.. هيفاء القد.. متناسقطة التقاطيع.. عيناها عسليتان واسعتان تطل منهما براءة وادعة كبراءة الأطفال، وفي وجهها الأبيض المورد صفاء ساحر يأسر القلوب، لكن هدوءها الوادع يا أمّاه أجمل ما فيها.. لكأنها ملاك في صورة أنثى من البشر!..
ابتسمت الأم وهي تصغي لابنها يتحدث بلغة العاشقين فقالت تستفزّه:
- لقد علمت منك ذات مرّة أنها في صفك بالكلية.. هذا يعني أنها في مثل سنّك.. إنها كبيرة بالنسبة لك يا بني، فالنساء يهرمن قبل الرجال...
هتف عصام محتجاً:
- ((ماما)).. إنك تطلبين الكمال، الفتاة تعجبني وأنا مرتاح إليها كل الإرتياح، وسوف تشاركيني رأيي عندما ترينها!..
ضحكت الأم وقالت وهي ترنو إليه في حنان:
- إنك تدافع عنها بحماس!..
ثم تابعت في مرح وهي تربت على كتفه في ود رفيق:
- لا عليك يا بني... الأمهات كلهن هكذا... يردن لأبنائهن أجمل الفتيات وأكملهن، هل أخطبها لك؟
- ليس الآن.. انتظري حتى أسوي أموري مع الدكتور إياد.
- إذن لتسوها بسرعة، حتى أمسي قريبة من ((كنتي)).
رفع عصام حاجبية في دهشة وقال:
- لو كنت أعلم أن موضوع الخطبة يستولي على اهتمامك بهذا القدر لكنت حدثتك به قبل أن أطرح عليك اقتراح الدكتور إياد، ولوفرت على نفسي عناء إقناعك به.
ضحكت الأم قليلاً، ثم ما لبثت أن مالت إلى الهدواء وقد اجتاحها حزن جارف بعد أن حرك موضوع زواج عصام جذور ذاكرتها، ونكأ جرحا قديماً يأبى أن يندمل فأرسلت تنهيدة عميقة وشت بما يعتمل في أغوارها وقالت في هدوء حزين:
- (( كنت أتمنى لو كان أبوك ما زال على قيد الحياة.. إذن لكانت فرحتي بلا حدود...)).
أحس عصام بما تكابده أمه من أحاسيس الحسرة والمرارة فاقترب منها مواسياً وطبع على جبينها قبلة حانية، ثم همس بنبرات متوسلة:
- ((ماما)).. أرجوك ألاّ تسرفي في تذكر الماضي... إنك ترهقين نفسك بالأحزان.. ابتسمي.. ابتسمي أرجوك...
رفعت الأم إلى ابنها نظرات مثقلة بالهم والأسى، وقد بانت في عينها كآبة عميقة. حاولت أن تبتسم، لكنها راحت في بكاء شديد...
* * *
__________________ اذا كان لابد لك ان تموت ارجوك ان تسأل اذا كان بالامكان ان تأخذ معك صديق |