عرض مشاركة واحدة
  #15  
قديم 07-10-2010, 12:10 AM
 


الفصل السابع
دفاتر ((محاضرات)) عصام مشهورة في كلية الطبّ شهرة عصام نفسه، ويعتمدها طلاب صفّه كما يعتمدون كتب أساتذتهم المقررة، ويتمنون أن يحصلوا عليها أو على صورة عنها ليدرسوا محاضراتهم منها، ذلك أنَّ عصاماً كان يعتني بدفاتره اعتناءً فائقاً، وينتهج في

إعدادها منهجاً ذكياُ بارعاً، فهو ينقل المحاضرات
من أفواه الأساتذة المحاضرين فلا تفوته
فكرة أو ملاحظة مهما كانت بسيطة إلاّ دونها،
ثم يمضي إلى بيته فيقرأ المحاضرة إياها في الكتاب المقرر،
ثم يراجع موضوعاتها في المراجع الطبية الموسعة، ثم يصيغ المحاضرة من جديد بأسلوبه الأدبي القوي المتميز،
فينسق بين أفكار الأستاذ المحاضر ومعلومات الكتاب المقرر ومعارف المرجع المناسب، ويرتهبا بشكل واضح مترابط ويدعمها بالرسوم الملونة المعبرة، ويخرجها إخراجاً أنيقاً جذاباً...
وبالرغم من اعتزاز عصام بمحاضراته تلك وحرصه البالغ عليها،
فإنه لم يحدث يوماً أن امتنع عن إعارتها لطالب من زملائه أيّاً كان... فكان الطلبة يستعيرون منه ((المحاضرات)) فينسخونها أو يصورونها ثم يعيدونها إليه شاكرين...
وكان صفوان -كغيره من الطلبة- يعرف قيمة ((محاضرات)) عصام ويدرك فائدتها ويتمنى أن يحصل عليها لافتقاره إلى محاضرات وافية بسبب بطء نقله للمحاضرات من أفواه المحاضرين وانشغاله بالثرثرة والشغب أثناء المحاضرات،
لكنه بالرغم من حاجته إلى محاضرات عصام وميله لاستعارتها فإنه لم يلجأ يوماً إلى طلبها من عصام مباشرة،
يمنعه كبر واستعلاء واعتزاز مفرط بالذات يأبى عليه أن يطلب شيئاً من إنسان يكرهه ويحسده على التفوق والشهرة والاحترام الذي يتمتع به في أوساط الكلية، لذلك فقد كان يلجأ إلى ((مجدي)) الذي تربطه علاقة مزدوجة مع الطرفين، فيحرجه بأسلوبه الماكر السمج، ويكرهه على إعارته ((محاضرات)) عصام كلما استعارها مجدي من عصام، وكان عصام يعرف أسلوب صفوان هذا فلا يأبه له، فما يهمه بالمقام الأول أن تعود إليه محاضراته سليمة ليدرس فيها ويحافظ عليها.
وذات يوم استعار صفوان ((محاضرات)) عصام من مجدي ومضى بها إلى شقته بصحبة شلته العابثة التي تلتف حوله، وما إن وصلوا إلى الشقة حتى ألقوا كتبهم ودفاترهم ونثروها في كل مكان، ثم هرعوا إلى الثلاجة فأخرجوا منها زجاجات ((الويسكي)) وجلسوا يحتسونه وسط جو صاخب هازل تتعالى فيه الضحكات المجلجلة وتشيع فيه الدعابات السخيفة وتسود فيه الكلمات والعبارات البذيئة وتتخلله النوادر القذرة.. ودارت بينهم الكؤوس تلو الكؤوس فدارت معها الرؤوس وغادرت عقولهم دائرة الوعي إلى عالم الوهم واللامعقول، وهاموا بخواطرهم المخمورة في دنيا مزيفة فشعروا أنهم في عالم خاص يملكونه وحدهم ويتربعون على عرشة بلا منازع فلا ينافسهم عليه أحد.. واستبدت الخمرة بعقولهم فربط أحدهم حول خصره منديلاً، وأخذ يرقص في خلاعة الراقصات بينما التف الجميع من حوله يغنون ويصفقون ويضحكون..
وحانت من صفوان التفاتة إلى دفتر محاضرات عصام الذي استعاره من مجدي فقرأ عليه اسم عصام فذكره عقله الباطن بحقده على هذا الخصم اللدود الذي يكرهه فتناول الدفتر في اشمئزاز ونظر إليه في بلاهة وقلّبه في قرف، ثم رفعه في مشقة وقال والكلمات تترنج على شفتيه:
- هل تعلمون لمن.. هذا الدفتر؟
فأجابه أكثر من صوت:
- إنه لك.
فضحك صفوان طويلا ثم قال:
- لا .. إنها للسيد عصام.. إنها للسيد ((كومبيوتر))..قال كمبيوتر قال...
انفجر الجميع ضاحكين بينما تابع صفوانوهو يحك رأسه بيد ثقيلة وأصابع ضعيفة تميل نحو الإسترخاء:
- لماذا لا يسكر عصام مثلنا؟..
أجابه أحدهم وهو مستلق على الأرض
- لأنَّه.. لأنِّه أهبل...
ضحك الكل في صفاقة بينما أردف صفوان ورأسه يترنح على إيقاع كلماته:
- حسنا.. ما رأيكم لو.. جعلته يسكر معنا؟!..
تعالت الأصوات من حوله:
- وكيف؟.. كيف ذلك؟..
أجاب صفوان وهو يتناول زجاجة ((الويسكي)
- بسيطة.. هذا دفتر عصام، وهذه زجاجة ((الويسكي))...
ثم أردف وهو يريق الزجاجة على الدفتر:
- وهكذا سوف يسكر عصام...
وتعالت الصيحات والضحكات بينما انساح السائل الأصفر الكريه فوق الدفتر الأنيق، فابتلت أوراقه وماعت حروفه وتداخلت الألوان على أوراقه النظيفة وأصيب الدفتر بالتلف والفساد، وحمله صفوان برؤوس أصابعه وهو مستغرق في الضحك ثم ألقاه وراء ظهره وكأنّه يرمي شيئاً وسخاً يخشى أن يلوثه، ثم تابع سهرته الصاخبة مع أصدقائه..
وفي اليوم التالي استيقظ صفوان وقد عاوده وعيه فرأى دفتر عصام ملقى على الأرض وقد أتلفه البلل وأفسد محتواه فحركته بقدمه باحتقار ورفع كتفيه في لا مبالاة غير مكترث بما حدث وعندما جاءت الخادمة التي تنظف له الشقة كل يوم وترتبها، سألته عن قيمة هذا الدفتر الملقي على الأرض وماذا تفعل به، فضحك في شماتة وأوصاها أن ترميه في سلة المهملات.
وذهب صفوان إلى الكلية فاستقبله مجدي بالسؤال:
- أين دفتر المحاضرات يا صفوان.. إن عصاماً يسأل عنه!.. ابتسم صفوان ابتسامة باهتة وقال في برود:
- لقد ضاع.
- ضاع؟.. كيف ضاع؟..
- ضاع والسلام..
- صفوان لعلك تمزح!..
- أنا لا أمزح.. هذه هي الحقيقة.
فقال مجدي غاضباً وهو يشعر بالإحراج الشديد؟
- والآن!.. ماذا سأقول لعصام؟
- قل له إنَّه ضاع..
هتف مجدي محتداً:
- بهذه البساطة!.. يا لبرودة أعصابك يا أخي.. اسمع.. أنا لا أتحمل مسؤولية ما حدث فلا تحرجني مع عصام.
قال صفوان في سخرية وحنق:
- حسناً.. حسناً.. أنا سأخبره بذلك؟
ومضى الاثنان إلى عصام فاستقبلهما بالبشاشة والترحيب فقال له صفوان في تعالٍ ساخر:
- عصام.. لقد استعربت دفتر محاضراتك من مجدي وقد ضاع مني فلا أدري أين ذهب؟
ثم تابع متضاحكاً وقال كالهازئ:
- بسيطة.. أنت طالب مجدّ ولا تحتاج إلى دفتر.. لا بد أنك تحفظ المحاضرات عن ظهر قلب.. أليس كذلك؟
- لم ينزعج عصام لفقدان دفتره العزيز على نفسه بقدر ما ساءته تلك اللهجة الوقحة المتكبرة التي خاطبه بها صفوان، لكنه تمالك أعصابه وكظم غيظه وقال في ابتسام:
- وماذا في ذلك؟ المهم أن تكون قد استفدت منه.
- ((مرسي)).. ((مرسي)) يا عزيزي.. إن معلوماته رائعة..
قال عصام وهو يرميه بنظرة ذات معنى:
- على أية حال إن احتجت لدفاتري فلا تتأخر.. إنها جاهزة في كل وقت.
ومضى عصام وهو يخفي تحت هدوئه الذي صفع به صفوان ثورةً وألماً أراد أن يعلمه بكبتهما درساً في المعاملة والسلوك سرعان ما وجد طريقه إلى نفس صفوان بالرغم من كل سدود الحقد والحسد والكراهية التي تقوم فيها إزاء عصام، لكنه قال لمجدي متظاهراً بالسخرية حتى لا يعترف بإعجابه بهذا التسامح الذي أبداه عصام:
- إن صاحبك هذا أبله!.. أقسم أنَّه أبله!!
رمقه مجدي بنظرات ثائرة مستاءة وراودته نفسه أن يلكمه، لكنه تمالك أعصابه وألجم قبضته المكورة في غيظ ومضى غاضباً وقد شاع في صدره إحساس من يشعر بميل جارف إلى الإقياء...
* * *



الفصل الثامن
وصل عصام إلى عيادة الدكتور إياد وطلب من الممرضة أن تخبر الدكتور بحضوره حسب موعد كان قد تم الإتفاق عليه بالهاتف فطلبت منه الإنتظار قليلا ريثما تخبر الدكتور بوصوله..
وجلس عصام إلى إحدى ((الكنبات)) الفاخرة المبثوثة في غرفة الإنتظار، فشعر بجسده يغوص في فرشها الوثير، فاسترخى عليه في راحة لذيذة وأرسل نظراته المستطلعة تجوب أثاث العيادة الفخم بإعجاب. وعلى إحدى الطاولات الصغيرة لاحظ مجموعة من المجلات، فمال قليلا ليتناول إحداها، لكنه أحجم عندما رأى الممرضة قادمة بالجواب، وقد تبعها مريض أنتهى لتوه من مقابلة الطبيب، وهو يستند على كتف مرافق له من شدة الإعياء.
ودعته الممرضة للدخول.. فتقدم من الباب الذي كان منفرجاً قليلاً فبدا له الدكتور إياد منهمكا بتدوين شيئ ما وقد جلس وراء مكتبه الأنيق، فنقر على الباب بظهر سبابته ثم دخل وسلم عليه فهب الدكتور إياد لاستقباله وصافحه في ود مرحباً بقدومه ودعاه للجلوس، ثم ما لبث أن عاد إلى عمله بعد أن طلب منه أن يمهله ريثما ينتهي من تدوين بعض الملاحظات في ملف المريض الذي خرج، فأجابه إلى طلبه وجلس ينتظر وقد هامت نظراته في أرجاء العيادة من جديد، فلفتت انتباهه لوحة كبيرة كتب على قماشيه المخملي الأحمر بخط ذهبي لامع آية قرانية تقول:
((وإذا مرضت فهو يشفين)).
وحول الآية شاهد عصام مجموعة من الشهادات العالمية وقد حفت بها كحناحين، فأخذت عيناه تلتهمان ما كتب على الشهادات المعلقة بفضول جارب..
- ((هذه شهادة (البكالوريوس)،.. وهذه شهادة (الماجستير).. وهذه شهادة (الدكتوراة)... وهذه... آه...
هذا هو (البورد) الذي حصل عليه.. يا للروعة.. وتلك.. تلك هي شهادة زمالة.. صحيح.. إنه زميل في الجمعية الأمريكية للسرطان.. وتلك الصورة.. لا بد أنها صورة تذكارية لمراحل دراسته المختلفة.. أما تلك الصورة القديمة التي بدا فيها الطلبة بلباسهم القديم الذي انقرضت (موضته) اليوم فهي لا بد وأنها تضم خريجي دفعته الذين حازو على (البكالوريوس).. آه.. يا لهذا الأستاذ الكبير.. تراني متى سأصبح مثله؟!
قال الدكتور إياد وهو منهمك بإعداد الملف:
- هذا المريض المسكين الذي خرج منذ قليل..
- ما قصته؟
- مصاب بسرطان الرئة.. لا أعتقد أنه سيعيش كثيراً رغم اكتشافي المبكر للمرض!.
- لا شك بأنه مدخن.
- هو كذلك.. إنه مدمن على التدخين.
- عجيب أن لا يعتبر الناس بأمثاله.. يحرقون أموالهم وأرواحهم بأيديهم..
- ماذا تفعل؟.. هذا زمن المفارقات.. يبيعون السجائر بالملايين ويروجون لها بكل وسائل الدعاية وفنونها، ثم تقرأ على أغلفة علب السجائر تحذيرا يقول: ((الدخان سبب رئيسي لسرطان الرئة وأمراض القلب والشرايين فاجتنبوه)).
- شر البلية ما يضحك.
- ليتها بلية واحدة.. إنها بلايا..
- ما يرعبني أن التدخين استشرى في أوساط المراهقين..
توقف الدكتور إياد من الكتابة وقال:
- ليت الأمر يقف عند التدخين.. اسأل الآن عن المخدرات!.. المخدرات بدأت تتسرب إلى مجتمعنا وتهدد شبابنا.
- إنها ضريبة التلخف..
- بل هي أمراض الحضارة.. نتلقفها في غباء.. تحملها إلينا الأفلام الماجنة والقصص الرخيصة، وتروج لها نفوس مريضة وعقول هدامة تنفث سمومها هنا وهناك، لتقتل خلايا العافية التي بدأت طلائعها تتشكل في جسم مجتمعنا المريض.
ثم أردف الدكتور وقد ألمت به فكرة طارئة:
- بالمناسبة.. عندي معلومات مثيرة عن صفوان..
- تقصد..
- أجل.. زميلكم ((صفوان)).. جاءني ضابط في الشرطة منذ فترة ليعالج والده عندي.. وبعد أن تعارفنا سألني فيما إذا كنت أعرف طالبا في كلية الطب بإسم ((صفوان الناعم)) فأجبته بأنه طالب عندي ولا يشرفني أن أكون أستاذه، فأيدني في رأيي وروى لي أنهم اكتشفوا بحوزته كمية من المخدرات جلبها معه من ((إيطاليا)) بعد أن قضى فيها إجازة الصيف الماضي وكاد أن يدخل السجن لكن والده سارع لإنقاذه بما يملك من مال ونفوذ وقد أفلح..
هتف عصام في إنكار:
- بهذه البساطة؟!.
ارتسمت على شفتي الدكتور ابتسامة ذات معنى وقال وهو يستأنف الكتابة:
- ما خفي كان أعظم.. لقد بات المال يوجه ضمائر الكثيرين. إنه حديث يطول.. عن إذنك، ها قد أوشكت على النهاية.. سرح عصام بخياله يفكر في أمر صفوان، لكنه لم يستغرب ما سمعه عنه، فشاب في أنانيته وغروره لا شك بأنه عاجز عن كبح أي ميل أو هوىً قد يولد في نفسه مهما كان نوعه، وقد سمع عن المخدرات وما تفعله المخدرات فاستهوته التجربة فمضى فيها دون أن يردعه عقل أو إرادة أو ضمير.
. ولم يجد عصام في اهتمامه حيزا أكبر من هذا يتسع لصفوان فأهمل ذكره،
واستجاب لخواطره التي راودته من جديد، وانطلقت نظراته تستطلع
معالم هذه العيادة الجميلة الأنيقة
، لتقف عن المكتبة الفاخرة التي صنعت من الخشب النفيس، وصممت بذوق وإتقان بديعين، وقد رصفت وراء زجاجها البراق
مجلدات ضخمة تضم أشهر المراجع الطبية العربية والأجنبية.
كما رأى رفاً كاملا من المجلدات الطبية والعالمية، وإلى جانب المكتبة رأى خزانة كبيرة من الزجاج وقد غاصت بالأدوية والعقاقير المختلفة، وحانت منه التفاتة إلى الخلف فرأى سريراً طبياً حديثاً، وإلى جانبه منضدة طويلة احتشدت عليها الأدوات الطبية المختلفة. وبعد أن استرجع نظراته المتأملة أرسل تنهيدة صامتة وغاب في خضم الأحلام الواعدة..
(( عندما سأفتح عيادتي سأستعين
بنموذج هذه العيادة الفخمة مضيفا إليها
أحدث ما جاءت به معارض الأثاث ((والديكور)).. آه.. متى سيأتي ذلك اليوم السعيد؟.. متى ستحين لحضات الحصاد الكبير؟.
ومتى سأقطف الثمار؟.. ثمار التعب المتواصل والإنتظار الطويل!.
بودي لو تدور الأيام بسرعة لأجد نفسي طبيبا كبيرا تقتحم شهرته الآفاق، وتغص عيادته الفخمة بالمرضى القادمين من كل مكان،
يطلبون الشفاء على يديه، ويتحدثون عن نجاحه ومهارته وإخلاصه، ويغبطونه على ما أنعم الله عليه من النعم الكبيرة. ستكون عيادتي وسط المدينة وفي أرقى أحيائها.. ستكون عيادة فخمة مجهزة بأحدث الأجهزة والمعدات،
ولكن.. يا لها من فكرة..
لماذا لا أفتح مستشفى لمعالجة أمراض السرطان..
مستشفى حديث يكون الأول من نوعه في البلاد.. يعمل فيه المتخصصون في هذا المجال.. سأعمل فيه أنا وسامية وسعد وبقية الأصدقاء..
يا لها من فكرة رائعة، ولكن من أين نأتي بالمال..
إنه مشكلة المشاكل.

. ما أروع المال والطموح إذا اجتمعا لا سيما إذا كان الطموح إنسانيا ومفيداً يعود بالخير على جميع الناس.. المال!..
المال!.. من أين نأتي بالمال؟..
لا بأس سيفتح الله عليَّ فأجني ثمار نجاحي، فتدرّ علي عيادتي المرتقبة ثروة كبيرة أبذلها وقودا لحلمي الكبير..
حتى ولو لم تدرّ علي الدخل المأمول..
سأبيع أرضنا التي في الريف، وسأطلب مساهمة الأصدقاء وتعاونهم.. سيكون اتحادنا قوة ترفد أحلامنا وتبعث فيها الحياة و.. لماذا لم أفكر في هذا من قبل؟.. سألجأ إلى عمي المقيم في الأرجنتين وأطلب مساهمته فهو تاجر ناجح تتدفق الأموال بين
يديه، وهو لن يخذلني.. ألم يقل لي في رسالته الأخيرة أنه يعتبرني بمثابة ابنه وأنه مستعد لتلبية كل ما أطلب؟.. وأنا لن أطلب منه طلبا شخصيا.. إنه طلب إنساني من أجل مشروع وطني خيري يعود بالفائدة على كل الناس.. كما أنه سوف ينال نصيبا من الأرباح التي سيعود بها المشروع.. فكرة عظيمة تستحق التفكير وسأبدأ بالإعداد لها من الآن، سأقنع الأصدقاء بالإهتمام بهذا الإختصاص حتى تتوفر لدينا الخبرات الكافية، ولكن.. لماذا أذهب بعيدا.. هذا هو الدكتور إياد.. لا شك بأنه سيرحب بهذه الفكرة ويدعمها إلى أبعد الحدود.. لا شك بأنه فكّر بها من قبل،.. لاسأله.. هذا الرجل العظيم.. إنه مهندس أحلامي وطموحاتي)).
طوى الدكتور إياد الملف، ووضعه جانبا، ثم أعاد القلم إلى حاملة الأقلام، ونزع نظارته وقال وهو يجلو ناظريها:
- أهلا بك يا بني.. ها قد فرغت لك.. ما أخبارك؟
- لقد عرضت الفكرة على الوالدة فوافقت بها بعد حوار طويل. إنها تشعر بالأسف الذي شهد أحلى ذكرياتها مع الوالد رحمه الله.
- رحمه الله.. إنني أفهم موقفها. إنها على ما يبدو امرأة شديدة الوفاء. المهم أنها وافقت..
- ولكن شريطة أن تتقاضى منها أجراً على السكن.
- هل تريدني أن أتقاضى أجرا على ضيافتكم عندي؟.. هذا لا يكون أبدا..
- دكتور إنك بهذا تعقد الأمور..
- لكني أنا الذي دعوتكم للسكن، ولستم أنتم الذين طلبتم ذلك.. فرق كبير يا بني بين الأمرين، كما أن السبب الذي طلبت من أجله انتقالك إلى جانبي سبب قوي تتضاءل أمامه قضايا المادة. لن أعيد ذلك في كل مرة، ثم أن الأمر ليس إحسانا فأنتم على ما فهمت منك في حالة مادية مريحة والحمدلله. لقد قصدت بإقتراحي توفير الوقت والجهد.. إنني من أنصار الحلول الحاسمة.. الحلول العملية التي تتجاوز المجاملات والإعتبارات الشخصية، لا سيما عند توفر الثقة والتعاون والإنسجام.
حار عصام في أمره فكلمات الدكتور إياد منطقية ومقنعة، لكنه يصعب عليه أن يقنع بها أمه التي نمت كبرياؤها مع الأيام، فلم ترضى من أحد شفقة أو مساعدة، حتى كلمات المواساة ترفضها من الناس، وكأنها تريد أن تثبت لهم أنها قوية في غياب زوجها كما كانت في ظلاله، فكيف يقنعها أن تسكن في بيت ليس ملكها دون أن تدفع أجرته؟.. كيف سيتحايل على حساسيتها المفرطة التي تحمِّ كل تصرف أكثر من معناه؟!.
وأحس الدكتور إياد بحيرة عصام فأدرك أنه لن يستطيع أن يستمر مع أمه إلى أبعد مما وصل إليه فقال بعد تفكير وقد وجد حلا:
- إسمع.. لدي فكرة مناسبة.. فكرة ترضي الطرفين.. سأتقاضى أجرا لسكنكم عندي، سآخذ منكم الأجر الذي تؤجر به أي شقة في حجم شقتي ومستواها، ولكن بشرط أن تتقاضي مني أجراً لقاء دوامك في عيادتي.. سأعطيك الراتب الذي يتقاضاه عادة أي طبيب متمرن في المستشفى، هذا كلام نهائي لا رجعة فيه.
- أستاذ إنك تحرجني بهذه العروض، تكفيني الخبرة التي ستقدمها لي أجرا يفوق كل أجر.. يكفيني اهتمامك الأبوي الغامر الذي يزرع في نفسي الثقة ويدفعني قدما إلى الأمام..
- إني أعطيك الخبرة وأمنحك الإهتمام كأستاذ يتوجب عليه ذلك.
- لكنك تفعل أكثر من الواجب؟.
- ((وأنت ستبذل أكثر مما يبذله أي طالب.. سوف تبذل جهداً يستحق المكافأة، لعلك لا تدرك العناء الذي ينتظرك عندما ستعمل معي.. لن أرضى منك أقل من أربع ساعات من العمل المتواصل بالرغم من كل مشاغلك والتزاماتك الأخرى، فلا أقل من أن تأخذ ثمنا لبعض الجهد الذي تقدمه.. صدقني سأعتمد عليك كثيرا في عملي)).
- أرجوك أن تعفيني من هذا الأمر.
- هل تضيفون في شقتي دون أجر؟
- هذا أمر وذاك غيره..
- أبداً، إنها المعاملة بالمثل.
كابد عصام حيرة شديدة لاحت معالمها على وجهه فقال وهو يداري ارتباكه:
- أجد صعوبة في القبول بشروطك.
- هل لديك حل آخر؟
- في الحقيقة لا أدري ماذا أقول؟؟
- لنقل على بركة الله الوقت جداً قصير والفكرة تشكل أنسب صيغة للتعامل بيننا دون حرج.. ماذا قلت؟
تردد عصام قائلا ثم همس بنبرة مستسلمة:
- على بركة الله..
- قال الدكتور إياد محاولا تخفيف وطأة الإرتباك والحياء اللذين سيطرا على عصام:
- ((لا عليك يا بني.. عما قريب بإذن الله ستقدم لي أعظم مكافأة عندما أرى فيك شبابي الغابر الذي طواه المشيب.. عندما كنت في مثل سنك كانت لي طموحاتي الكبيرة وآمالي العريضة، لكني لم أجد من يشجعني ويوظف طاقاتي ويطورها كما أنوي أن أفعل معك من خلال تجربتنا هذه.. عملت جهدي حتى وصلت إلى ما ترى والحمدلله، لكنَّ ما وصلت إليه لا يساوي شيئاً أمام ما كنت أحلم به، لكنك أنت ستصل إلى أبعد مما وصلت إليه أنا. إنِّي واثق من ذلك لأنني سوف أقدم أقدم لك تجرتبي الكاملة,, سأدلك على مواطن الضعف فيها لتتجنبها، وسألفت نظرك إلى معالم النجاح فيها لتتمثلها.. لنسمِّ هذا عملية تواصل بين جيلي وجيلك، فلا بد للأجيال من تبادل التجارب وتناقلها.. هذا أمر مهم لعملية التنمية ولو أن كل جيل مدَّ الذي يليه بمعارفه وخبراته، إذن لقرأنا في حركة أمتنا قصة المد الصاعد نحو العلاء.. عصام.. إنني أبني عليك الآمال.. )).
نقلت كلمات الدكتور إياد عصاماً إلى عالم آخر بعد أن جردته من ارتباكه وخجله فهام في خواطره، وتراءى له المستقبل بكل ما يحمله من ازدهار، وتحركت في أعماقه أشواق غامضة هي أقرب إلى النشوة، وأحس في كيانه نشاطاً يدفعه للعمل والكفاح، وهمّ أن يمضي من لحضته ليقوم بما تمليه عليه طاقته الكامنة التي تحفزت للعمل، لكنه تذكر فكرة المستشفى الذي خالطت خياله منذ قليل فقال:
- دكتور، هل فكرتم بإنشاء مستشفى متخصص بمعالجة السرطان في البلد؟
ابتسم الدكتور وقال:
- لا أكتمك بأني فكرت بهذا الأمر –أنا وبعض أصدقائي- إنها أمنية تداعب خيالنا منذ زمن بعيد ولكن الوقت ما زال مبكراً لتحقيقها، لأن كوادرنا الطبية المهتمة بالسرطان قليلة، كما أن تكاليف هذا المشروع باهضة جداً.. إنها تتطلب إمكانيات هائلة.
- ولكن الدولة لديها إمكانيات تفي بالغرض..
- ((ليس بالضبط.. لقد بحثت الأمر مع وزير الصحة بالذات، فأخبرني بأن ميزانية الدولة في الوقت الحالي لا تسمح بذلك وتكتفي الحكومة في الوقت الحاضر بافتتاح فروع في المستشفيات الكبرى لتشخيص ومعالجة السرطان، لكنها لا تكفي.. إننا فعلا بحاجة إلى مستشفى مجهَّز بأحدث التجهيزات الطبية الشعاعية والنووية والجراحية إضافة إلى مخابر الأبحاث الحديثة والكفاءات الطبية الفنية الماهرة..)).
قال عصام وقد شعر بالأسف:
- الضعف الإقتصادي يقف دائماً عقبة في طريق تطورنا!.
- ماذا تفعل؟.. ومع ذلك ترى مجتمعنا متهافتا على الكماليات ومستهتراً بالأهم.
- شئ مؤسف. الأمر على ما يبدو أصعب مما تخيلت!..
- لا عليك.. لدي إحساس بأن مثل هذا المشروع سيقوم يوماً.. لعله يقوم على أيديكم...
وقطع حديثهما قرع خفيف على الباب وأطلت منه الممرضة قائلة:
- لقد جاء المريض في موعده فهل أدعه ينتظر؟
- ((بل دعيه يدخل. هذا حقه والدكتور عصام سيعذرنا بلا شك)).
قال عصام وهو يهم بالنهوض:
- طبعاً.. طبعاً، أستأذنك الآن بالإنصراف..
- تفضل، ولكن لا تنسَ.. سيبدأ مشروعنا منذ الغد فلتوطن نفسك على دأب طويل. أما بالنسبة لموضوع السكن فالشقة في انتظاركم ولا مناص لك من الموافقة؟..
- إن شاء الله.. والآن وداعاً..
- بل إلى اللقاء...
* * *




__________________
اذا كان لابد لك ان تموت ارجوك ان تسأل اذا كان بالامكان ان تأخذ معك صديق