عرض مشاركة واحدة
  #16  
قديم 07-10-2010, 12:13 AM
 
الفصل التاسع
في حديقة الجامعة يحلو اللقاء، لا سيما في فصل الربيع الذي يحفها بهالة من الروعة والجمال، تفتن الناظر، وتشده إليها ليستمتع بخضرتها الخلابة، ويغرف من عبقها الفواح فيغسل به روحه المتعبة من أدران الحياة...
وبين أزهارها المتألقة، وفي ظلال أشجارها الباسقة، وعلى بساط سندسي ممتد من الحشائش الخضراء كان الطلبة يتحلقون في مجموعات منسجمة، غارقين في أحاديث شتى.. عن الجامعة.. وعن المستقبل.. وعن الحياة بكل ما فيها، يطرحون المشاكل ويتبادلون الآراء، وتند عنهم الصيحات والضحكات التي تضفي على جو الحديقة حياة فريدة، تبعثها أرواح شابة تخفق بأعذب الأحلام والآمال وهي تتلمس طريقها إلى غدها الواعد ومستقبلها المنشود...
وفي ركن هادئ من أركان الحديقة الفسيحة، كان عصام يجلس على كرسي منعزل، منهمكاً في مطالعة مجلة طبية كان قد استعارها من مكتبة الدكتور إياد، وبين الحين والآخر كان يرمي بنظراته الهادئة إلى خضرة الحديقة الموشاة بالأزهار والرياحين، فتشف روحه وتحلق في عالم من الصفاء المريح، فتقبس منه قبسات لذيذة تغرق كيانه بالسعادة، وتبعث في ذهنه النشاط، فيعود إلى المجلة في شوق، ليلتهم سطورها في شهية للمعرفة لا تقاوم لا يزعجه إلا تلك الهمهمة الغامضة التي تصدر عن أحاديث الطلبة المختلطة القادمة من بعيد، يتخللها فاصل متقطع من وقع الأقدام العابرة، وهي تقطع الطريق إلى غايتها عبر الأرصفة التي تخترق الحديقة الغناء..
وانساب إلى سمعه صوت هادئ يلقي عليه السلام، فرفع إلى صاحب الصوت عينين تشعان وداً واحتراماً، ونهض إليه في لهفة وشوق وهو يمد له يد الترحيب:
- وعليكم السلام.. أهلاً سعد..
قال سعد بعد أن تصافحا بحرارة الأصدقاء وقد احتفظ كل منهما بيد الآخر في كفه وهو يشد عليها في مودة ظاهرة وكأنه لا يريد أن يفارق صاحبه:
- كيف أنت يا عصام؟
- في شوق إليك يا صديقي.. ألا تجلس معي؟
- بودي أن أجلس، لكني أراك مشغولاً.. ما الذي تقرأه؟...
- مجلة طبية صادرة عن الجمعية الأمريكية للسرطان.. اقرأها إن أحببت.
- لا بد وأنها تحوي أبحاثاً قيمة...
- فيها بحث طويل عن التدخين وعلاقته بسرطانات الرئة، اجلس معي فأنا في شوق لأحاديثك الممتعة.
- قلب سعد صفحات المجلة بسرعة وقال وهو يهم بالجلوس:
- لو تعلم كم سررت عندما رأيتك جالساً هنا..
- لم نجلس معاً منذ زمن!.
- لقد أصبحت صيداً ثميناً في هذه الأيام. لم يعد أحد يراك خارج أوقات الدوام.. تأتي مسرعاً وتخرج مسرعاً وكأنك لا تعيش معنا في كلية واحدة!!.
- ماذا أفعل يا صديقي.. الواجبات أكثر من الأوقات كما يقول الدكتور إياد، ولولا هذا التعديل الذي طرأ على برنامج اليوم بتأخير موعد المحاضرة مقدار ساعة لما صادفتني هنا.
هتف سعد كمن تذكر:
- آه .. صحيح ما أخبارك مع الدكتور إياد؟؟
- أخبار طيبة.. علم غزير، وخبرة متنامية، وصحبة كريمة لرجل عظيم وأستاذ جليل، يمدك دوماً بملاحظاته الدقيقة ونصائحه العميقة وتجاربه الثرية..
همس سعد وهو يرمق صديقه في إعجاب:
- عصام.. إنك تدهشني.. كيف تستطيع أن توفق بين دراستك وملازمتك للدكتور إياد وأمورك الأخرى؟
زفر عصام زفرة عميقة وشت بما يعانيه من إجهاد وعناء وقال:
- لا أكتمك يا سعد، إني أعاني من كثافة المشاغل وضيق الوقت وضغط الأعباء، لكن تشجيع الدكتور إياد وإصراري على تحقيق طموحي، هما اللذان يدفعاني للمتابعة ولولاهما لكنت تراجعت منذ زمن.. هل تعلم؟.. لقد خفَّ وزني خلال الأشهر القليلة الماضية سبعة كيلو جرامات.
- وكم تنام في اليوم ؟
- خمس ساعات تقريباً. الوالدة تنهرني، فأمنيها بالمستقبل فترضخ لإرادتي على مضض، علماً بأنَّ سكني الجديد في عمارة الدكتور إياد قد وفّر علي الكثير من الوقت والجهد فهو – كم تعلم – قريب من الجامعة وقريب من عيادة الدكتور إياد في آن واحد..
- وبيتكم القديم.. ماذا فعلتم به؟
- لقد أجرناه لنستفيد من أجرته.. سعد.. لماذا لا تنضم إلينا.. لقد حدثتني كثيراً فيما مضى عن اهتمامك بالسرطان وميلك للاختصاص فيه، كما أن الدكتور إياد سيرحب بانضمامك فهو يمدح دائماً تفوقك وسلوكك الممتاز.
- حقاً؟.. هذه نظرة أعتز بها.. كان بودي الانضمام إليكما لكني بصراحة لا أملك جلدك ودأبك.. سأكتفي بزيادة مطالعاتي حول السرطان ريثما أتخرج ثم..
وقطع حديثهما صوت بعيد يلقي التحية فرد عليه سعد:
- أهلا ((عرفان)).. هلم إلينا..
وأردف عصام:
- تعال إلى هنا يا عرفان، لم نرك منذ زمن..
مضت برهة ريثما انضم اليهما عرفان وقد بدا سعيداً بلقائهما وابتسامته المعهودة تتوج ثغره الضاحك وما إن وصل حتى ارتمى بينهما على الكرسي الخشبي الطويل قائلاً لعصام:
- لتتكلم عن نفسك يا عصام، أنت الذي لم تعد تظهر بيننا. لقد استغرقتك مشاغلك الكثيرة وأبعدتك عنا.. يجب أن تعترف بذلك يا أستاذ...
ثم وهو يلتفت بحديثه إلى سعد:
لقد أصبح الأخ كالبدر.. يظهر كل شهر مرة، وقد لا يظهر...
ثم التفت إلى عصام ثانية وقال:
- أصبحنا لا نراك إلاّ مسرعاً.. تأتي إلى المحاضرات وهي توشك على البداية وما إن تنتهي حتى تطوي كراستك وتمضي.. تصور يا سعد.. ((عصام السعيد)) أصبح يجلس في الصفوف الأخيرة من المدرج، وهو الذي لم يتنازل عن مكانه في الصف الأول منه منذ السنة الأولى. هل تذكر كيف كان يحجز لنا المقاعد الأمامية؟
ثم أردف ضاحكاً:
- كان الطلبة يندهشون لوجودي في الصف الأول وأنا المشهور بالتأخر المزمن عن المحاضرات... (( ها.. ها.. ها)).
ضحك الثلاثة في ود ثم ما لبث عرفان أن استأنف حديثه قائلاً:
- أنت السبب يا عصام فلا تسألن عن قلة رؤيتنا لك.. أنت الذي لم تعد تسعى للقائنا، أما نحن فإننا نلتقي دائماً.. أنا وسعد ومجدي وبهاء وعثمان و.. على فكرة.. نحن مدعوون مساء الثلاثاء القادم على مأدبة عشاء فاخرة عند عثمان، ولن ندعوك طبعا.
تساءل عصام في مرح:
- ولماذا؟
- لأنك يا عزيزي أصبحت تنتمي إلى طبقة جديدة.. طبقة العلماء والباحثين والحفلة معدة لطبقة الطلبة المساكين، فأين نحن منك يا صديقي؟.. أين الثرى من الثريا؟!
ضحك عصام طويلاً ثم قال:
- سامحك الله يا عرفان.. منذ متى لم أضحك هذا الضحك!
- جميل أن تجد وقتاً لتضحك.. بودي لو كان بحوزتي آلة تصوير..
- لماذا؟!..
- لأجمد هذه اللحضات وأحصل على صورة لك وأنت تضحك قبل أن تنقرض الضحكة من على شفتيك.
ثم نهض عرفان وهو يقول:
- ائذنا لي الآن.. لدي ((مشوار)) مهم قبل أن يحين موعد المحاضرة.
هتف عصام في توسل وهو يشده من يده ليجلس :
- ابق معنا يا عرفان.. حديثك يمتعني.. لتؤجل ((مشوارك)) هذا.
صاح عرفان:
- إلا هذا ((المشوار))...
- يبدو أنه على درجة من الأهمية!.
مال عرفان على عصام وهمس:د
- لقد صدقت فأنا على موعد مع القمر.
- القمر؟!..
قال سعد وقد سمع تحاورهما:
- يقصد خطيبته.. إنها طالبة في كلية الآداب، وهو ينتهز الأوقات لرؤيتها...
- حقاً؟.. مبروك.. ألف مبروك يا عرفان.. لماذا لم تخبرني بذلك؟.
- ومتى رأيتك حتى أخبرك؟
- كفاك يا عرفان.. لقد أوغلت في المبالغة!
قال عرفان وقد انحنى فيما يشبه الركوع ويداه تستندان على فخذيه:
- قد أكون مبالغاً، لكن صدقني أنك أصبحت وكأنك تنتمي إلى عالم آخر...
- عالم آخر!..
- أجل... عالم آخر.
ثم قهقه قائلاً وهو يمضي:
- إنه عالم السرطان...
* * *
هبت نسمات الربيع هادئة لطيفة فداعبت الوجوه الشابة وأنعشت النفوس الحالمة، وبعثت في الحديثة حياة جديدة فتمايلت الأشجار الفارعة في جلال، وخطرت الورود والأزهار في دلال تختال بفتنتها الخلابة وترسل بأريجها العطر ليلفت إليها القلوب والأنظار...
قال عصام وهو يرنو إلى زهرة جميلة:
- لشد ما يستهويني منظر الورود والأزهار!
- كلنا ذاك الرجل...
- عندما أنظر إليها تسربلني، طمأنينة غامرة، وتشعر نفسي بالارتواء، وكأنها تغرف من بحر الأمان الخالد.
- نفس الشعور ينبثق في نفسي، لكن ثمة شعور آخر يهزني من الأعماق...
- الشعور بعظمة الله، أليس هذا ما تريد قوله؟
أرسل سعد تنهيدة عميقة وشت بانفعاله وقال وقد لمعت عيناه بأنداء من الدمع:
- هذا ما أردته فعلاً.. عندما أرمق الزهور تحلق روحي في عالم من الصفاء الخالص.. صفاء يقودني إلى خشوع غامر عميق إزاء عظمة الله وقدرته الخالدة..
همس عصام وقد اهتزت نفسه لكلمات سعد المؤمنة الندية:
- إنك شاب شديد الإيمان يا سعد. لكم يسدني حديثك عن الله...
الله... هو الحقيقة التي انحسرت من حياتنا فغابت بغيابها كل القيم النبيلة وأصبحت الحياة أشبه بغابة!..
ثم أردف بنبرة آسفة:
- يا للجحود.. ترى الواحد منا إن قدم له أحد معروفاً أو خدمة شكره عليها وتحين الفرص ليرد له الجميل والله... الله الذي خلقنا في أروع صورة وأبدع تصميم وأنعم علينا بما لا نحصيه من النعم التي نستمتع بها ليل نهار... الله الذي بيده نهايتنا ومصيرنا الأخير، ترانا غافلين عنه.. ناسين لفضله السابغ.. منشغلين عنه بما وهبنا من الطيبات.. نلهث وراء غرائزنا وشهواتنا.. لا نكاد نذكره إلا في الملمات والمناسبات، وإن ذكرناه كان ذكره باهتاً ميتاً.. لا ينبض فيه حس أو تخفق فيه روح، وبعد كل هذا الجحود والنكران يفتح لنا أبواب العودة ليدلفها التائبون الصادقون، فيستقبلهم بحلمه الواسع، ويرحم ضعفهم، ويبدل سيئاتهم حسنات!!!
تسربت كلمات سعد إلى أعماق عصام فمسّت ضميره المرهف فأحس بالندم وقال وهو يكابد شعوراً بالذنب:
- لقد أشعرتني كلماتك بتقصيري وتفاهتي.. إنني قليلاً ما أذكر الله!!.
قال سعد وهو يشد على كتفه في ود:
- إنك تبخس نفسك حقها بهذا الكلام فأنت تنطوي على إيمان عميق ونفس نقية يعكسها سلوكك الرفيع. إن مجرد إحساسك بالتقصير هو نوع من التوبة.. إنه بداية الطريق إلى الله، ولكن.. ينبغي أن لا نكتفي بهذا الشعور، إذاً لتلبد واستحال إلى تبرير للإهمال والتقصير، بدل أن يكون حافزاً للتغيير.
- لا أكتمك يا سعد.. إن نفسي كثيراً ما تهفو إلى التدين، لكن مشاغل الحياة سرعان ما تستغرقني فتذوب عزيمتي في زحمتها، لكني واثق من أني سأتجه إلى الدين يوماً..
- ومتى يكون هذا اليوم؟
باغت السؤال عصاماً فقال وهو يداري عجزه عن الإجابة:
- في الحقيقة لا أدري!!.
- لكن الأمر على درجة من الأهمية، لذا يتوجب التحديد.
- هل تريد مني أن أحدد يوماً في مستقبل مجهول؟
- المستقبل المجهول.. هذا ما رمت الوصول إليه. نحن جميعا نقف على عتبة مستقبل مجهول المعالم نجهل أحواله وأحداثه ونهايته، فلا ندري متى سيسدل الموت ستارته السوداء على حياتنا الزاخرة، ولا ندري متى يأزف الرحيل.. نحن لا نملك إلا للحضات الحاضرة لنقرر فيها، أما الماضي والمستقبل فلا نملك من أمرهما شيئاً.. ذلك أن عجلة الحياة تدور باتجاه واحد، وأنّ الموت لم يحدث أن استأذن أحداً بالقدوم..
تساءل عصام في نبرات حزينة وشت بالضيق:
- الموت؟؟.
¬ - أجل الموت إنه أوضح حقيقة في الوجود، لكنّ الحياة كثيراً ما تخدعنا وتجذبنا إليها فنتوهم أنّا باقون إلى ما لا نهاية!.
- هل تريد الجدّ؟.. إني أخاف الموت وأخشاه!؟
ابتسم سعد وقال:
- من منا لا يخاف الموت.. كلنا نخشاه.. هذه طبيعة الإنسان.. لقد جبل على حب الحياة والنزوع إلى البقاء.
- كثيرا ما فكرت فيه.. آه ما أقساه.. إنّه المطرقة الفضيعة التي ستهوي يوماً على آمالنا وأحلامنا لتعصف بها، وتحيلها إلى سراب.. إنه وحش مخيف.. ينهش الأرواح بأنياب نافذة لا تخطئ.. يختطف من نحب أو لا نحب.. يخلف الضحايا.. ويزرع دنيانا بالأحزان..
- إنه قدرنا الذي لا مفر منه. لعل وفاة والدك رحِمه الله زادت من قتامة تصورك عن الموت؟
- هي عامل بلا شك، ولكن تفكيري بالموت ازداد أيام كنا ندرس مادة التشريح.. عندما كنا نعالج الأجساد الميتة بأيدينا ونعمل فيها المشارط والأدوات، لا شك أن فكرت مثلي.
- هذا صحيح.. لطالما فكرت فيه آنذاك.
- كان الموت يوحي لي بعجز الإنسان وضعفه، فأعظم إنسان وأقوى إنسان وأغنى إنسان يتحول بموته إلى كومة تافهة من العظم واللحم الذي سرعان ما تنبعث منه رائحة النتن، ويعبث فيه الدود.. الموت يا سعد شئ فضيع.. لقد كنت أحس بتفاهة الحياة عندما أرى نهايتها البئيسة.
وآذت سمعهما ضحكات خافتة وهمسات ماجنة، فانتبها إلى مصدرها، ففوجئا بـ ((صفوان)) و ((منى)) وهما مستغرقان في وضع فاضح مريب وقد ظنا أنَّ هذا المكان الهادئ البعيد خال من الطلبة والرقباء وأثار المشهد اشمئزاز ((سعد)) و ((عصام)) فغادرا المكان في ضيق وانزعاج بالغ..
هتف عصام بنبرات ثائرة وهو يلوح بقبضته في الهواء:
- أنا لا أفهم كيف يتجرأ هذان العابثان على حرمة الجامعة!!.. ألا من إدارة حازمة توقف هذه المهازل؟!..


قال سعد وقد تلونت ملاحمه بحمرة الغضب:
- قد تحمي الإدارة الحازمة الجامعة من مظاهر العبث والفجور. لكنَّها لن تستطيع أن تسيطر على تيار الانحلال الجارف الذي يجتاح الوطن، أو توقف التردي والانحدار الذي يقود مجتمعنا إلى الهاوية.. نحن في حاجة ماسة إلى عملية تغيير عميقة داخل المواطن.. إلى إدارة حازمة واعية داخل الإنسان..
نحن في حاجة إلى ضمير.
- وما الحل لأزمة الضمير هذه؟.. يجب أن يكون هناك حل ما يحمي الأمة من الضياع!.
- الحل موجود.. لكنه يحتاج قبل كل شئ إلى إرادة قوية للتغيير.. إرادة تنبثق من قناعة الناسب الأذى والدمار الذي يحمله تيار الميوعة واللامبالاة لمجتمعنا ونهضتنا، وحتى تتولد هذه القناعة نحتاج إلى قراءة واعية عميقة في التجربة الأوروبية والأمريكية التي يحصد الغرب الآن نتائجها المأساوية المريرة بسبب تمرده على الأخلاق والمثل العليا.. الناس في بلادنا مبهورون بالحضارة الغربية ويعتقدون أن التقدم المذهل الذي وصلت إليه أوربا وهو نتيجة لتفلتها من الأخلاق والقيم الإنسانية الفاضلة، بينهما الحقيقة الصارخة التي يقرها كل عقلاء العالم ويتنادون إليها هي أن الإباحية التي تغرق أوربا وأمريكا الآن هي جرثومة الفناء التي تهدد الحضارة الفتية هناك.
قال عصام وهو يجوب أرجاء الحديقة باحثاً عن مكان هادئ يجلسان فيه:
- هذه مهمة وسائل الإعلام.. وسائل الإعلام هي المسئولة عن نقل مساوئ التجربة الغربية وثغراتها إلى الجماهير ومع هذا فإني أعتقد أنه لا مفر من الردع.. من الحزم في مكافحة هذا الوباء..
- الردع حلّ، لكنه آخر الحلول.. علينا قبله بالتربية.. تربية الأجيال على القيم الأخلاقية والحضارية الأصيلة.. تربية مدروسة تسلك أنجح الطرق العلمية والنفسية.. تربية شاملة منسجمة في البيت والمدرسة والمجتمع.. تدعمها حملة اجتماعية منظمة تكرس القيم الأخلاقية والمفاهيم الحضارية البالية عبر وسائل الإعلام المؤثرة من صحافة و ((راديو)) و ((سينما)) و ((تلفزيون)).. ((التلفزيون)) بات الآن أخطر وسيلة إعلامية في حياتنا فهو يعيش مع الناس جزءاً كبيراً من أوقاتهم.
قاطعه عصام بقوله:
- إنه يقاسم الناس ثلث حياتهم الواعية تقريباً..
- الأخطر من ذلك أنه يعيش مع الطفل أكثر من أهله في البيت ومعلميه في المدرسة وهو يجلس أمامه في أقصى حالات الوعي والتركيز، يتلقف كل ما يبثه من أفكار ومفاهيم وهو الصفحة النقية البيضاء الجاهزة للإملاء، فإذا لم يكن ((التلفزيون)) تربوياً هادفاً، كان خرباً هداماً يدمر الأجيال تلو الأجيال..
تساءل عصام:
وماذا بعد التربية؟.. ما الخطوة التي تليها؟..
- لا بد لنا من حل المشاكل الاجتماعية التي مهدت لهذا الفساد.. مجتمعنا ليس شرا محضاً.. ثمة عوامل كثيرة تدفعه إلى أتون الشر.. الفقر مثلا.. الحرمان الفظيع الذي يدفع الكثيرين إلى هاوية الانحراف.. ((منى)) هذه التي رأيتها منذ قليل بهذا الوضع المخجل، ما الذي دفعها لهذا السلوك؟.. إنه الفقر والحرمان.. فتاة ناضجة تفيض أنوثة وجمالاً تتراقص في أعماقها أحلام وأشواق شتى.. فتاة فقيرة لم تذق يوماً طعم الحياة الهانئة السعيدة، تجد فجأة من يعدها بتحقيق كل أحلامها دفعة واحدة مستغلاً اندفاعاتها العاطفية العارمة فتنساق وراءه مبهورة، وتتدرج معه في مجاهل الضياع.. ثم مشاكل وأمراض أخرى تساهم في صنع المأساة.. الجهل.. التخلف.. الرشوة.. ((الواسطة))، لكن التربية الفاسدة تقف دائماً على رأس هذه السلسلة الرهيبة من الأمراض التي تكبل نهضتنا.. والد صفوان مثلاً.. رجل واسع الثراء والنفوذ، ربى ابنه تربية مائعة مدللة.. صفوان هذا لم يسمع من أبيه كلمة (لا) واحدة في حياته.. دائماً يجيبه لكل ما يطلب، ويضع بين يديه الأموال الطائلة ليبعثرها على أهوائه ورغباته، فيزيده المال طغياناً على طغيان.. وكلما تورط ابنه في خطأ أو انحراف سارع أبوه لإنقاذه بما يملك من مال ونفوذ.. أنقذه من تهمة تهريب مخدرات.. أنقذه من تهمة أخلاقية في أحد بيوت الدعارة منذ سنتين، فما تنتظر من شاب هذا شأنه؟
زوى عصام ما بين حاجبيه دهشة وقال:
- وكيف توصلت إلى كل هذه المعلومات؟
- هذه المعلومات ليست سراً.. إنه يتصرف في تبجح ووقاحة.. لعلك فوجئت بها لأنك لا تهتم بهذه الأمور، لكني مهتم بالقضية الاجتماعية وصفوان نموذج من نماذج الانحراف في مجتمعنا يحلو لي أن أراقب تصرفاته وأتتبع أخباره وأحلل سلوكه.
ولاحت لهما خميلة خضراء فلجآ إلى أفيائها، وجلسا على بساط الأرض السندسي الممتد، ثم ما لبث عصام أن قال في محاولة ليصل ما انقطع من حديثهما حول الموت:
- سعد.. بماذا كان الموت يوحي إليك عندما كنت تقوم بتشريح الأجساد في المشرحة؟
أجابه سعد وقد تذكر الحوار الذي كان قبل هذا الحادث العابر:
- عندما كنت أتأمل الأجساد الميتة الممدة أمامي على طاولات التشريح كان تفكيري يمتد إلى ما بعد الموت.. إلى اليوم الآخر. فيبدو لي الموت أنه البداية.. حقيقة أنه نهاية حياتنا على الأرض، لكنه البداية لمرحلة جديدة يتحدد فيها مصيرنا الخالد، تقرره العدالة الإلهية الرحيمة التي لا تظلم أو تتعسف، فتفرز البشر حسب أعمالهم وبواعثهم..
- إنني موقن بذلك، لكن قليلاً ما يراودني التفكير فيه!.
- كلنا نقتنع باليوم الآخر، لكن الكثير من قناعاتنا تظل في أذهاننا فحسب، وكأنها معادلة رياضية مجردة أقنعتنا بها قواعد المنطق، بيد أنها لا تتجاوز العقل في الشعور، لتتحول إلى حس داخلي ننظر من خلاله للحياة لذلك ترانا نقتنع عقلاً بأن الموت ليس هو النهاية، ونشعر حساً بأنه النهاية لكل شئ ونشفق على آمالنا ومنجزاتنا ونخاف عليها على الرغم من أننا أبقى منها...
قال عصام:
- تحليل مقنع ودقيق، ولكن لا يمكن للإنسان إلا أن يحلم ويطمح ويحيا على أمل...
- أنا معك في هذا. فالحياة بلا طموح وأمل تافهة لا معنى لها، لكن النقطة الأهم في آمالنا وأحلامنا ونشاطنا على هذه الأرض هو الغاية التي من أجلها نحيا ونعمل ونحلم.. إنّها الحلقة المفقودة التي نحتاج إليها ليستقيم تصورنا للكون والحياة والإنسان...
- الغاية؟!..
- أجل.. لماذا نعيش؟.. لماذا نحلم؟.. لماذا تعيش أنت مثلاً؟
أجاب عصام بلهجة حائرة وقد باغته السؤال وكأنه يسمعه للوهلة الأولى:
- أنا أحيا.. أحيا من أجل أن أصبح طبيباً ناجحاً مفيداً.. ومن أجل أن أساعد والدتي وأوفر لها حياة سعيدة وعندي طموحات علمية وشخصية لا تخفى عليك و.. وفقط!..
- لكن الموت سوف يطوي معه كل هذه الغايات والآمال...
صدمت هذه الحقيقة عصاماً فوجم ولاذ بالصمت بينما تابع سعد:
- كل هذه الغايات التي طرحتها غايات جزئية.. غايات مرحلة ينبغي أن تكون في إطار غاية أساسية جامعة. لا بد أن يكون لوجودنا الإنساني غاية كبرى توجه نشاطنا وأعمالنا.. غاية شاملة لحياتنا على الأرض وحياتنا فيما بعد الموت.
قال عصام وقد تحمس للنقاش الذي أثار فضوله:
- ما هي غاية وجودنا الإنساني في رأيك أنت؟
- إنها في كلمة واحدة ((العبودية لله)).
- العبودية لله؟! لعلك تريد الصلاة والصيام؟..
ابتسم سعد وقال بنبراته الهادئة الرزينة:
الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات والشعائر ليست هي العبودية التي أعنيها بل هي مظهر من مظاهرها... العبودية في حد ذاتها أكثر من صوم وصلاة... العبودية هي أن نعيش حياتنا كلها لله.
- كيف؟.. كيف يمكن ذلك؟
- بأن نوظف كل ألوان نشاطنا الإنساني وكل أعمالنا وكل طموحاتنا لتحقيق دين الله الذي ارتضاه لنا منهجاً ونظام حياة.
- ولكن هناك أمور لا علاقة للدين بها!!...
هتف سعد في حماس:
- هنا تكمن النقطة الحاسمة في الموضوع.. إنها فهمنا للإسلام... نحن - في الحقيقة - لا نفهم إسلامنا الفهم السليم.
أرجو أن تعذرني بهذا الكلام، فأنا لا أقصد الإساءة أو الادعاء.
قال عصام وهو في شغف لمتابعة الحوار:
- أستمر أرجوك.. إني أفهمك، ثم إني مقر بجهلي حول الكثير من قضايا الدين.
- أنا لا أقصد التفاصيل، فلا يمكن لإنسان مهما أوغل في العلوم والمعارف الإسلامية أن يحيط بكل التفاصيل، ما أريده هو المبادئ.. فهمنا لمبادئ الإسلام.. إدراكنا لروحة وخصائصه العامة بحيث يتكون لدينا حس إسلامي دقيق.. نتحسس به الحقائق.. ونتلمس الصواب.. ونصنع المواقف.. ونرصد الأحداث.. المهم يا عصام أن تستقر في حسنا أبجدية إسلامية واضحة.. تصيغ بأحرفها فهمنا للإسلام. فينطق بها سلوكنا، وتعبر عنها حركتنا في الحياة.. هذا أضعف الإيمان.
قال عصام وقد تصاعد اهتمامه بالحديث:
- ما هي الأبجدية التي كونتها أنت عن الإسلام؟.. أعطني فكرة عنها؟
- سأقول لك.. الإسلام قبل كل شئ منهج رباني صادر عن الله سبحانه، والله الذي خلقنا هو الأعلم بطبيعتنا وتركيبنا الجسدي والفكري والنفسي، لذلك فإن دينه الذي ارتضاه لنا هو الأولى بالإتباع والتطبيق، لأنه منهج صمم للإنسان بيد خالق الإنسان.. هذه نقطة مهمة تقوم عليها أمور كثيرة...
قاطعه عصام قائلا:
- هذه نقطة جوهرية أؤيدك فيها.. فعلى صعيد حياتنا المادية مثلاً، لا يوجد عاقل يرضى أن يتلقى تعليمات آلة أو جهاز ما إلا من المهندس الذي صممه، أو العالم الذي اخترعه، فما بالك بالإنسان.. هذا الكائن المعقد الذي ما زال العلم والطب تائهاً في بحر أسراره وألغازه؟..
سرّ سعد لهذا التفاعل الذي أبداه عصام فعقب على كلامه قائلاً:
- لهذا تُصدر الشركات الصناعية ((كتالوج)) أو دليل استعمال لمنتجاتها يعده المهندسون الذين صمموا أو اخترعوا هذه المنتجات. وما الإسلام إلا دليل لحركة الإنسان السليمة وفق تصميمه وطاقته وطبيعته.وما التخبط والتيه الذي تضرب فيه
البشرية اليوم إلا نتيجة منطقية لاستغنائها عن المنهج الأصيل واستبداله بمناهج مشوهة من صنع الإنسان ووضعه وهو الكائن الضعيف القاصر بقدراته ومعارفه وإزاء هذا الكون الواسع الرحيب..الكائن المرهف الحساس المتأثر بعواطفه وانفعالاته.. الكائن اللغز الذي مازال يجهل نفسه..
سأل عصام وهو يرمق صديقه في إعجاب:
-سعيد ..ما الأمور التي تريد أن تبنيها على هذه النقطة؟
-أمور كثيرة ..منها أن الإسلام منهج متوازن أعطى لكل جانب من الشخصية الإنسانية حقه وأشبع بتوازنه الروح والعقل والجسد.ففيه تروي الروح أشواقها إلي القيم والمثل والأخلاق، وتخفق بأنبل المشاعر والعواطف وأطهرها ،وفيه ينطلق العقل ليقتحم آفاق القلم والبحث والتجريب ويمخر عباب المعرفة، لا يضره إن يلتقطها من أي إناء أو منهل مادامت معرفة إنسانية مفيدة لا تفضي إلي شرّ ، وفيه تجد غرائز الجسد طريقها الطبيعي النظيف للإشباع دون إفراط أو تفريط ،بما لا يتعارض بين حرية الفرد والمجتمع.
- جميل ..
- والإسلام نظام واقعي يدرك واقع الإنسان وطاقته، ويرحم نقاط ضعفه التي جبل عليها فيراعيها ويعذره فيها ، لذالك نراه قد فتح له أبواب التوبة على مصراعيها ولم يحمله
مالا يطيق، كما راعى الإسلام نقاط الضعف في الإنسان فقد شجع فيه نقاط القوة ورباه على البذل والعطاء ، ودفعه إلي الارتقاء وما استطاع الارتقاء .
- وأيضاً... أفكارك تدهشني ...
- وأجمل ما في الإسلام شموله.. فهو منهج حياة كامل يستغرق كل ألوان النشاط الإنساني، فينظمها، ويطلقها ضمن أطر واسعة رحيبة تسمح للناس بممارستها في مرونة عجيبة تتلاءم مع كل مجتمع وعصر دون أن تتجاوز الأصول الثابتة التي قررها الإسلام.
تساءل عصام مفكراً:
- لكن الحياة تتطور باستمرار.، فلماذا تستبعدُ أن يصطدم تطورها المطرد مع الأصول الثابتة التي طرحها الإسلام ؟
- سأقول لك.
- تفضل ..
- لان الإسلام استمد ثبات تلك الأصول من ثبات الخصائص الأساسية للشخصية الإنسانية ، فالعربي الذي كان يطوي الصحراء على جمل ،والأمريكي الذي وطئت أقدامه سطح القمر، يملكان نفس الجهاز الجسدي والفكري والنفسي، وتخفق بين جوانحهما فطرة واحدة. الذي أختلف وتبدل هو الوسائل والظروف والمعارف أما الجوهر الإنساني الذي يتعامل مع المعطيات المتبدلة فهوا ثابت لا يتغير. نعود لحديثنا.. عم كنتُ أتحدث ؟
- عن الشمول في الإسلام.
- أجل.. لقد حول الإسلام حياة الإنسان بتفاصيلها الكبيرة والصغيرة.. بجوانبها المتعددة.. بنشاطاتها المختلفة الغريزية والفكرية والروحية.. الضرورية منها والثانوية.. الفردية منها والجماعية، حولها جميعاً إلى عبادة متصلة بالله، فطعامك عبادة وشرابك عبادة ونزهتك عبادة ونومك عبادة وزواجك عبادة ودراستك عبادة وتخصصك عبادة وعملك عبادة.. حتى التلذذ بالطيبات.. حتى الإبتسامة تبذلها للآخرين عبادة لله تثاب عليها وترفك في ميزان الله درجة.. وحتى تحول كل هذه الأعمال إلى عبادة لله ما عليك إلا أن تنوي بها إرضاء الله، وأن تتجنب كل ما يغضبه، أو يؤذي الآخرين. الإسلام يا عصام منهج حياة متكامل.. إنه دين ودنيا.. سياسة واقتصاد.. فن واجتماع.. حياة طاهرة فريدة لا تدانيها حياة.
- والصلاة والصيام وما إلى ذلك من شعائر؟...
- إنها محطات للتزود بالطاقة، واستذكار للمبادئ، وصقل للنفوس، واعتذار إلى الله عما قد سلف من أخطاء، وعهد متجدد على الصبر والثبات على الدرب الطويل..
أعجب عصام بأفكار سعد أيما إعجاب، فقال وهو هائم مع أفكاره:
- هل تريد الحق؟.. لقد فتحت أمامي آفاقاً جديدة كنت أجهلها تماماً.
أجاب سعد وهو ينظر إلى ساعته:
- كان بودي لو استمرينا بالحديث، لكن موعد المحاضرة قد اقترب، وعلينا أن نمضي لنحجز مكاننا في الصفوف الأولى من المدرج، اسمع.. لماذا لا نلتقي ثانيةً لنتابع الحوار؟..
- سيسعدني ذلك، رغم كل مشاغلي.. سنلتقي السادسة... ما رأيك؟
- إن شاء الله.. هيا بنا...
مضى الصديقان جنباً إلى جنب عبر أرصفة الحديقة الخضراء، يلفهما تأمل صامت عميق... كان سعد فرحاً مسروراً بهذا التجاوب الرائع الذي أبداه عصام.. أما عصام فقد كانت أفكاره تبحر نحو عالم جديد...
* * *
غادر عصام الكلية وفي أعماقه ثمة أسئلة حيارى تبحث عن جواب.. إنه لم يتعود أن يتقبل الأفكار دون أن يخضعها للدرس والتمحيص،فكيف استقرت في ذهنه تلك التصورات الخاطئة عن الإسلام؟..
لماذا لم يحظَ هذا الدين الذي ينتمي إليه باهتمامه وهو الذي لا ينجو من فضوله شئ؟.. كيف تسرب إلى ذهنه أن الإسلام مجرد صوم وصلاة؟.. كيف غابت عنه هذه الآفاق الرحيبة التي نقله إليها صديقه سعد؟.. تساؤلات عاصفة شتى تهز ضميره بقوة فينفض عنه ركام الأوهام والمفاهيم المزيفة الدخيلة، ويتهيأ للانطلاق نحو الحقيقة الخالدة في رحلة بحث طويلة.. لشد ما يعشق الحقيقة ويهواها وفي سبيلها سيقطع كل الدروب وسيجتاز كل صحاري الضياع والغموض ليحط رحاله في واحتها الخضراء ويرتاح في ظلالها الوارفة، ويروي روحه العطشى من مائها الزلال.
وفي الحافلة التي استقلها إلى منزله الجديد في عمارة الدكتور إياد كان عصام يجلس واجماً.. ساهم النظرات.. ذاهلاً عن كل شيء.. إن قضية انتمائه للإسلام والتزامه به لتستولي على تفكيره، فهي قضية لا تقبل التمييع والتأجيل فالموت يأتي بغتة دون سابق علم أو إنذار، والله سوف يسأله عما قدمت يداه على هذه الأرض، فبماذا يجيب؟.
وأفاق من خواطره على بكاء طفل صعدت أمه لتوها إلى الحافلة، فنهض وقدم لها مكانه فشكرته وجلست وهي تهدهد طفلها الذي ما لبث أن هدأ وراح يجول بنظراته بين وجوه الركاب في براءة وقد أفتر ثغره عن ابتسامة مشرقة دفعت عصام للابتسام وبعثت في نفسه السرور.
وفي الطريق مرت الحافلة بمكتبة((دار المعرفة)) التي اعتاد عصام أن يبتاع كتبه منها فخطرت له فكرة طارئة سرعان ما استجاب لها فنزل عند أول محطة توقفت عندها الحافلة وقفل راجعاً باتجاه المكتبة.. وهناك طلب من صاحبها أن يرشده إلى مجموعة من الكتب الإسلامية العصرية التي توضح مبادئ الإسلام وتصوراته عن الوجود والحياة والإنسان، فأجابه إلى طلبه وزوده بمجموعة نفيسة منها فتناولها باهتمام وراح يتأمل عناوينها في شغف وهو في شوق لقراءتها وسبر أفكارها ليشبع أشواقه إلى الحقيقة التي أزمع البحث عنها.
وبعد أن أتم شراء كتبه ودع صاحب المكتبة ومضى.. ولدى الباب ألقى نظره إلى ساعته فوجد عقاربها تقترب من موعد عمله في عيادة الدكتور إياد فغذ السير في الطريق إلى البيت، علّه يستطيع أن يتناول غداءه مع أمه التي لابد وأنها الآن بانتظاره...
- آه.. لكم أتعبتك معي يا أماه... يا لقلبك الكبير الذي ينبض مع أنفاسي ويخفق على إيقاع خطواتي.. ما علينا.. عما قريب ستنتهي رحلة عذابك الطويل، ونحط الرحال في واحة الأمل... عما قريب يا أماه سيبدأ حصاد الأماني، وتتحقق الأحلام.. إيه.. في أعماقي ينابيع من الوفاء تروم الانبثاق، لتروي أيامك القادمة بالسعادة والبشر، وتسربلها بالأفراح..
* *
*
__________________
اذا كان لابد لك ان تموت ارجوك ان تسأل اذا كان بالامكان ان تأخذ معك صديق