عرض مشاركة واحدة
  #17  
قديم 07-10-2010, 12:17 AM
 
الفصل العاشر
وصلت منى إلى شقة صفوان وهي غاضبة مضطربة، فضغطت على زر الجرس في عصبية ثم انهالت على الباب بقرع عنيف ....
وانتظرت الرد بفارغ الصبر، لكن أحداً لم يفتح، فعاودت القرع وقد اجتاحت أعصابها شحنات هائلة من الثورة... وتفاقم غضبها حيال الباب الموصد بوجهها فهدرت في أعماقها أصوات غاضبة تهتف وتصيح:
((افتح.. افتح يا ***.. افتح لأريك من هي ((منى))... افتح لأريك كيف تتحول الظبية الوداعة إلى لبوة مفترسة.. افتح لألقنك درساً في الوفاء.. أتخدعني بعد كل هذا الحبّ.. أتخونني بعد كل هذا الإخلاص.. أتضحك على يا صفوان..افتح يا سافل.. افتح يا حقير.. افتح.. لماذا لا يفتح؟!.. إن أنوار الغرفة المطلة على الشارع مضاءة فأين ذهب هذا الوغد؟..))
وأدنت منى أذنها من الباب فتناهى إلى سمعها صوت بعيد ((لموسيقا)) تعرفها جيداً، فانتابها تيار جديد من الغضب والتهبت ثورتها العارمة وازداد قرعها للباب حدة وعنفاً...
((هذا السافل.. لا بّد وأنّه مشغول بجلسة معربدة.. أنني أعرفه.. لا يريق له سماع هذه ((الموسيقا)) إلا في المناسبات الداعرة.. افتح يا سافل.. يا قذر.. افتح لأريك غضبة المقهورين.. هذا الباب.. إنه بوابة الجحيم التي دلفت منها إلى العذاب!!.. إنّه النفق المظلم الذي نقلني من حياة الفضيلة إلى وحل الخطيئة ودنيا الضياع.. إنّه جسر الشيطان.. ترى من هي ضحيتك الجديدة؟!..لا بدّ أنها ميادة.. أجل إنها ميادة.. ومن غيرها ((حبيبة القلب وبلسم الحياة)) كما يسميها هذا المخادع الجبان؟!)) وتناولت ((منى)) الرسالة التي اكتشفتها اليوم صدفة في ((الكتاب)) الذي استعارته من صفوان ففضتها في مرارة وجعلت تعيد قراءتها في سخرية صامتة:
((حبيبتي ميادة.. يا فتاة الأحلام الوردية.. يا حبيبة القلب وبلسم الحياة.. إن حياتي بدونك جحيم وعذاب.. لماذا هذه القسوة عليّ وأنت الوديعة الرقيقة؟.. ولماذا هذا الجفاف وأنت اللطيفة الحنونة؟.. متى سترفعين أيتها الحبيبة سياط الصدّ والهجران عن قلبي الحزين ؟..متى سيصدر قلبك الكبير العفو عنّي؟.. أخبرتك ألف مرة بأنك الوحيدة في حياتي،وأنك الحب الأول والأخير.. قلت لك مراراً إن هؤلاء الفتيات اللواتي تسمعين بهن من بنات الجامعة ما هنّ إلا صديقات فحسب..
زميلات دراسة لا بد أن تنشأ بيني وبينهنَّ علاقات عفوية بحكم الدوام الجامعي الطويل.. علاقات بريئة لا تحمل أي معنى آخر.. فإلى متى تتركين الشك يفرق بيننا ويفسد سعادتنا؟..
حبيبتي ميادة.. أيها الخصم والحكم.. يا أحلى خصم وأرقّ حكم.. أرجوك أن تفهميني.. أيها القاضي الحبيب الذي كلما ازداد علي ّقسوة ازدادت له حباً.. أيها القاضي الجميل الرقيق.. افتح لي قلبك مرّة واحدة وامنحني فرصة للدفاع.. فرصة واحدة وستعلم بعدها أنني بريء من كلّ ما توهمك به الغيرة.. إني بريء يا حبيبي فلا تسجنيني وراء قضبان الحرمان)).
ويبلغ الاشمئزاز بمنى منتهاه فتطوي أصابعها على الرسالة في غيظ وتبصق في احتقار ثم تنهال على الباب بكلتا يديها وقد حرق أعصابها الانتظار المّر وراء بوابة الخطايا والآثام.. ((افتح أيها الوغد الغادر السافل.. علاقات عفوية بريئة أليس كذالك؟.. أيها الماكر الماجن الغارق في الوحل من رأسه حتى قدميه!. لن يفتح.. إني أعرف.. هذا الوغد.. رغبته القذرة أهمّ عنده من كلّ شيء.. عندما تسيطر عليه ينسى نفسه ويذهل عن كلّ ما حوله.. ليتني أصغيت لنصائحك يا سامية.. ليتني لم أثق بهذا الحيوان.. ماذا ينفع الندم..آه....)).
وتتراخى يدها على الباب في يأس فيعتري طرقاتها ضعف متدرج وشعرت بقواها تخور فاستندت على الباب في تهالك وانهيار وأصغت إلى صوت يعلو في داخلها وسط عواصف الغضب ليذكرها بالطريقة التي اعتزمت معاملة صفوان بها عندما اصطدمت بحقيقته المفجعة:
-((ليس من الحكمة أن تواجهيه بالحقيقة.. إن المواجهة ستؤزم العلاقة بينك وبينه.. ستجعله ضعيفاً مكشوفاً أمامك، وهو لا يحب أن يظهر ضعفه ويرفض أن يعترف به، لذلك فإن محاصرته بالحقيقة ستدفعه للمكابرة والعناد.. سيعترف اعتراف المتحدي..سيصفعك ببجاحته ووقاحته وإصراره على الخيانة.. سيقول بأنك أنت التي استسلمت له، وسينفي عنه أي مسؤولية عما حدث.. إن مواجهته تعني القطيعة.. تعني نسف آخر جسر يربطك به تستطيعين من خلاله التأثير عليه.. ليس من الحكمة أن تواجهيه بالحقيقة فما زال هناك بقية من رجاء.. أوهميه بأنك مازلت واثقة به.. أشعريه بحرارة حبك وحنانك وعمق إخلاصك..حاولي دائماً أن تديري رأسه إليك..عساه يفيء إليك..عساه يبصر الفرق بينك وبين الأخريات.. أنت بحاجة إليه يا منى فلا تتسرعي.. لا تتسرعي فقد تستطيعين استنقاذ ما قد ضاع...))
وكبحت منى تيارات الثورة والغضب التي تعصف بها، استسلمت لصوت العقل فاسترخت بكامل جسدها على الباب وأجهشت بالبكاء..
ونما إلى سمعها صوت أقدام ترقى في الدرج،فلملمت نفسها المنهارة ومسحت دموعها بظاهر كفها ومضت تجرّ خيبتها وأحزانها..
وعندما خرجت من باب العمارة خطر لها أن تراقب الشقة لترى من هي ((ميادة)) هذه الفتاة الجديدة التي اقتحمت حياة صفوان ونافستها على قلبه، فراحت تذرع الشارع جيئة وذهاباً متظاهرة برؤية واجهات المحلات الأنيقة المجاورة لشقة صفوان..
مضت ساعة..وساعتان.. وهي ترابط قرب الشقة غير عابئة بالأنظار المتطفلة التي ترتاب في وجودها يعتريها فضول جارف لمعرفة هذه الفتاة التي انتزعت منها صفوان، لكنّ أحدا لم يظهر وملّت الانتظار وكادت أن تمضي،بيد أن حركة الأنوار في الشقة استوقفتها فانتظرت خروج((ميادة)) لكنها فوجئت بخروج فتاة أخرى تعرفها جيداً.. إنها ((رشا)).. ((رشا)) زميلتها في الكلية.. وانتبهت منى إلى صفوان وهو يلوح(( لرشا)) بيده من وراء زجاج النافذة مودعا ًفهالها أن تكتشف خيانتين في يوم واحد.
ولمحت تلك الابتسامة الخبيثة التي ردت بها ((رشا)) على وداع صفوان فشعرت بالغيرة تمزق فؤادها، وثارت في أعماقها من جديد عواصف عاتية من الغضب.

* * *





الفصل الحادي عشر
قال سعد وهو يقود عصاماً عبر حديقة بيته الجميلة:
- أهلاً بك يا عصام.. لقد أعددت لك جلسة شاعرية هادئة لن تنساها أبداً.. جلسة حالمة بين الورود والأزهار التي تحبّها وتعشقها .
قال عصام وهو يستنشق نفساً عميقاً قد أفعم بشذا الياسمين:
- الله.. ما هذه الروائح العطرة التي تنعش القلوب والأرواح.. وهذه النسمات الندية.. إنها تملأ نفسي سروراً وانشراحاً، إن حديقتكم تزداد سحراً وجمالاً مع الأيام..
- هذا حق، فأختي طالبة في كلية الزراعة وهي تتخذ من الحديقة حقلاً لعلومها وتجاربها، لاسيما وأنها مهتمة بنباتات الزينة وتطمح للاختصاص فيها.. دعنا نجلس في ظلال شجرة الصنوبر، فقد رتبت تحتها الكراسي... هي ليست كراسي.. إنها جذوع أشجار ضخمة، قطعت وصممت للجلوس.. تفضل هنا إذا سمحت.. قال عصام وهو يتحسس أحد هذه المقاعد الطريفة:
- إنها مقاعد بديعة فعلاً!.
ثم أضاف وهو يجلس عليها في سرور:
- ما أجمل الجلوس في أحضان الطبيعة، لا سيما في صحبة الأصدقاء.
علق سعد وهو يجلس قبالته:
- نحن أكثر من أصدقاء يا عصام.. نحن أخوة..
- لكم يسعدني أن تكون علاقتنا بمثل هذا الصفاء، على فكرة.. ما تعريفك لعلاقة الأخوة؟
أجاب سعد وهو يفرك إبهامه بسبابته وكأنه يتحسس شيئاً رقيقاً:
- الأخوة هي انسجام وتآلف بين الأرواح المتحابة حتى تغدو روحاً واحدة تسري في أجساد المتآخين وتجعل منهم جسداً واحداً له قلب واحد وفكر واحد وشعور واحد.. إنها إحساس عميق بالتلاحم والاندماج والإيثار الرفيع.
- ((تعريف جميل حقاً، لكن.. هل تتصور أن تقوم أخوة بين الأصدقاء دون حدوث مشاكل أو أخطاء؟.. أعتقد أن هذا غير ممكن!..)).
- (( اعتقادك في محله، فالبعض يتصور الأخوة تصوراً مثالياً بعيداً عن الواقع، وينسى أنًّ الأخوة إنًّما هي علاقة بين بشر.. بشر لهم أخطاؤهم ونقاط ضعفهم وأمزجتهم المختلفة وطرقهم المتباينة في الحياة.. الأخوة الحقيقة ليست هي الأخوة المجردة من الأخطاء، بل هي الأخوة المجردة من الأنانية والكبر والحقد والحسد.. الأخوة القائمة على التفاهم والتسامح.. القائمة على الرضوخ للحق والتراجع عن الخطأ.. القائمة على الرفق بأخطاء الآخرين والتماس الأعذار لهفواتهم والثقة بنواياهم ومن منّا لا يخطىء!؟
قال عصام:
- في أحاديثك يا سعد أجد متعة كبيرة.. إنك تتقن عرض الحقائق!.. هل تذكر ذاك الحديث؟
- في حديقة الجامعة؟
- هو ذاك. لقد أحدث في نفسي شوقاً كبيراً عارماً لفهم الإسلام والتعمق في أفكاره ومبادئه، فما كان مني إلا أن ذهبت في ذلك اليوم إلى مكتبة ((دار المعرفة)) واشتريت مجموعة من الكتب الإسلامية القيمة، وقد قرأت منها حتى الآن أربعة، ولولا مشاغلي لأتيت عليها جميعاً.. لا أكتمك يا سعد.. لقد شعرت بجهلي وتقصيري نحو عقيدتي وقد عزمت على التوبة.
قال سعد في فرح غامر:
-كلنا مقصرون. ولن نتجاوز التقصير إلاّ بالمزيد من الوعي والعمل، إني أهنئك يا عصام على هذا الشعور فهو دليل على إيمانك العميق.
وانتبه سعد إلي والدته وهي تشير له من النافذة فغاب برهة ثم عاد يحمل عصير البرتقال وقال وهو يقدم كأساً مثلجة منه إلى عصام:
- تجاوبك الرائع يا عصام مع أفكاري يملأني غبطة وسعادة.. كم هو جميل أن تجد من يفهمك ويلتقي معك في تصورك للحياة.. هنا تكمن السعادة الحقيقية.
- لو أن كل الناس بإيجابيتك وإصغائك لصوت الحق لقطعنا رحلة التغيير المنشود في سنوات.
صمت عصام ملياً وهو يتفكر ثم تساءل قائلاً:
- سعد.. ألا ترى معي أن عملية التغيير هذه عملية صعبة؟!.
أرسل سعد تنهيدة عميقة وقال:
- هي صعبة فعلاً.. وقد تبدو مستحيلة عندما يري المرء العقبات الكؤود التي تعترض طريق العودة إلى الإسلام، لكني أعتقد أن المستقبل لهذا الدين...
- كيف؟.. ما الذي يدفعك لهذا الاعتقاد؟
- ((سأقول لك: لقد جربت البشرية كل المذاهب والفلسفات فلم تجنِِ منها إلاّ التمزق والضياع. لقد أخفقت كل الأنظمة الأرضية في تأمين السعادة الحقيقية للإنسان.. في أيجاد التصور الذي ينسجم مع إنسانيته بجوانبها المختلفة.. التصور المتوازن الذي يشبع جسم الإنسان وعقله وروحه.
لقد استطاعت حضارة اليوم أن تشبع جسد الإنسان وأن تقدم له كل ما يحتاجه من وسائل المتعة والراحة، واستطاعت أن تشبع عقله بالتقدم العلمي المذهل الذي أوصله إلى القمر، وحلّ له الكثير من أسرار الكون وألغاز الحياة. لكن روحه بقيت خاوية عطشى يعذبها الظمأ إلى القيم العليا، ويقلقل كيانها الضياع، فلا هي تدري لماذا وجدت ولا إلى أين تسير؟.، تجهل غاية وجودها ومعناه.. ويلف مصيرها الغموض)).
وافقه عصام رأيه قائلاً:
- هذا حق. إن انتشار الشذوذ والجريمة، وشيوع الأمراض العصبية والنفسية وارتفاع معدلات الانتحار دليل واضح على ما تقول .
قال سعد وهو يخض كأس العصير ليزداد برودة:
- لعلك قرأت أن أعلى نسبة للانتحار في العالم توجد في الدول (( الاسكندنافية)) التي تعتبر من أرقى دول العالم، حيث يبلغ فيها دخل الفرد أعلى مستوى.. ومنذ أيام سمعت من ((الراديو)) لدى متابعتي لأحد البرامج الثقافية خبراً طريفاً يدلك إلى أي مدى استبد الشقاء بإنسان قرننا هذا!..
- ما هو؟..
- لقد قامت في بريطانيا جمعية تضم المؤمنين بفكرة الانتحار وأطلقت على نفسها اسم ((جمعية الموت من أجل الرحمة)) كما أصدرت مرشداً خاصاً بأعضائها، سمته ((المرشد الخاص للتحرير الذاتي ))وفيه تشرخ الجمعية طرق الانتحار بدون ألم، وقد قدم للكاتب الكتاب الإِنجليزي المعروف ((آرثر كسلر)) ثم انتحر بالطريقة المعتمدة لدى الجمعية، كما انتحر كثيرون من أعضاء الجمعية الذين بلغ عددهم عشرة آلاف منتم في غضون أشهر.....
قال عصام وابتسامة داهشة تحف بكلماته:
- لقد أصبح للانتحار عندهم فلسفة ودعاة!..
- إنًّها حقائق تستحق التأمل.. إنها صدى ليأس الإنسان وفشله وضياعه..
تساءل عصام في حيرة:
- لكن كيف نقنع البشرية بالإسلام كبديل ؟
أجاب سعد:
- لن تؤمن البشرية بالإسلام كبديل فيما لو عرضناه عليها في قوالب نظرية وفكرية بحتة.. لقد ملّت النظريات والأفكار، وأصبحت تنظر إليها في شك وحذر بعد أن فقدت ثقتها بجدارتها في عالم الواقع وبعد أن حصدت منها الفشل المرير، البشرية اليوم تبحث عن مثل حي متحرك، وتتطلع إلى تجربة ناجحة تحظى بأيمانها وثقتها، وتجد فيها الإخلاص...
- ولكن، ألم يكن الإسلام تجربة ناجحة في التاريخ؟..
- ((لقد كان، ليس تجربة ناجحة فحسب، بل وفريدة في نجاحها. لكن الإنسانية اليوم تشك في تكرار هذا التجربة، بعد التطور المذهل الذي طرأ على حياة الناس في العصر الحاضر. وعلى المسلمين أن يبددوا شكوكها بصناعة التجربة من جديد، وإخراجها عصرية ناجحة.. وبذالك تتحقق القفزة الحاسمة إلى الحياة الإِسلامية المنشودة..)).
- لكن.. ألا تشك معي يا سعد في قدرة المجتمعات الإسلامية على تقديم الصورة الصحيحة الناصعة للإسلام؟..
- ((أنا متأكد من أنها لن تستطيع، لأن الإِسلام الحق قد انحسر من حياتنا منذ زمن، وذوت شعلته اللاهبة التي كانت تبعث فيها الحياة، وتنير لها دروب الحرية والتطور والحضارة.. الإسلام اليوم في أذهان المسلمين أجزاء ناقصة مبتورة.. وأفكار مشوهة مغلوطة وصور ساذجة بسيطة.. ومظاهر فارغة منفردة. ليس للمسلمين اليوم من إسلامهم إلا الاسم والعنوان.. تحمله أمة متخلفة ممزقة مقهورة.. المسلمون اليوم يا صديقي يسيئون للإسلام وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً!!))
تمتم عصام بعد أن تناول رشفة من عصيره:
- تبدو متشائماً إلى أبعد الحدود!!
- أبداً، فأنا شديد التفاؤل. إن بذور الخير موجودة رغم ما تراه.. إ ني أراهن على هذا.. فقط تحتاج لمن يصل إليها بوعي وروية، فينزع عنها قشرت التبلد، وينفض عنها غبار الضياع، ثم يغرسها في القلوب من جديد.
- الحل؟..
- الحل يكمن في مجموعة من الناس تؤمن بالإسلام بشموله وعمقه ونصاعته وتفهم العصر بظروفه ومعطياته.. بسلبياته وإيجابياته، وتعيش الإسلام في حياتها العصرية الواقعية، فترسم بسلوكها الوضعي وتعاملها النظيف، وتحركها الإيجابي المفيد في المجتمع صورة الإسلام الصافي الأصيل كما أنزل الله.
ثم تبني هذه المجموعة المؤمنة جسور المحبة والتفاهم مع الآخرين، وتنقل إليهم على متنها تصوراتها وأفكارها في حكمة وهدوء، فتأخذهم باللين وترحم ضعفهم وحداثة عهدهم بالإسلام، وتشجعهم على الارتقاء فلا تحملهم ملا يطيقون، وتستمر في رعايتهم وتستمر في رعايتهم وتشجيعهم حتى يصبحون مسلمين صادقين.. الإسلام اليوم قضيتهم الأولى، ومنهجهم الوحيد في الحياة، ومع الأيام ستزداد بقعة النور حتى تبدد الظلام.. وسينمو المجتمع الوليد حتى يشب على أنقاض المجتمع القديم المتهافت الذي نخره سوس الضياع والانحراف والطغيان.
همس عصام:
- لكنّ هذا طريق طويل!!.
وأطول مما قد نتصور، لكنه الطريق.. الطريق الصحيح الذي مرت به التجربة الإسلامية الأولى فوصلت إلى ذروة النجاح.. الطريق الذي يرسمه المنطق وتؤيده التجارب الفاشلة التي سلكت غيره فأخفقت...
- على هذا فقد نغادر الحياة دون أن نحقق واقعنا في التغيير الإسلامي المنشود!..
- قد يتحقق وقد لا يتحقق، المهم أن نضئ على دربه المشاعل الهادية، وأن نضع في بنيانه بضع لبنات لتأتي الأجيال القادمة فتكمل البنيان..
- إذن فقد تستغرق رحلة التغيير أجيالاً طويلة.
- المهم أن نبدأ...
- والبداية؟.. ما البداية؟
صمت سعد ملياً ثم قال:
- البداية تنطلق من أنفسنا. ما لم يقم الإسلام في نفوسنا فلن يقوم في الأرض.
- ثم؟
- ثم علينا أن نتعاون ونتكامل ونتكافل حتى تنمو الجهود المخلصة وتتجمع في تيار واحد..تيار قوى فعال.. يطوي حياة الفساد والضياع والتخلف التي نحياها، ويبعث في ظلمة عصرنا الرديء تباشير فجر مشرق جديد.
أطرق عصام مفكراً وأخذته سَنة من الشرود ثم همس:
- سعد.. إن كلامك هذا ينقلني إلى عوالم جديدة كانت محجوبة عني. لا أكتمك ، فأنا الآن إنسان جديد..صاحب قضية في الحياة.. قضية مقدسة سوف تلون تفكري وطموحي وتوجه خطاي إلى المستقبل...
- يسرّني أن أسمع هذا.. عصام.. أنت دليل جديد على ثقتي ببذور الخير التي ينطوي عليها مجتمعنا.. مجتمعنا يا عزيزي يزخر بالنفوس النقية المؤمنة، لكنها حائرة ضائعة لا تجد من يأخذ بيدها إلى شاطىء الحقيقة وبَّر الأَمان. لنتعاون معاً على إيصال الحقيقة إلى عشاقها... لنبدأ رحلة التغيير في دأب وأناة ولنتعاهد على ذلك.
- إني أعاهدك على ذلك، وبعد التخرج سنتفرغ لإِنجاز الكثير....
وران صمت قصير ما لبث أن قطعه عصام:
- سعد.. لماذا لم تطرح علي أفكارك هذه قبل الآن، بالرغم من أن علاقتنا قد توطدت منذ سنوات؟!..
ابتسم سعد وأجاب:
- سأقول لك.. أنا أكره الاندفاع، ولا أميل إلى التسرع، كان لا بد من التمهيد الهادئ.. لا بد من بناء جسور المودة والصراحة والتفاهم بيننا، حتى يتم عبرها تبادل الأفكار والآراء في يسر وتقبل وقناعة...
- لكم يروقني هذا الأسلوب الحكيم.
- الدعوة يا صديقي فنّ.. عليك حتى تتقنها أن تفهم النفوس وتدرك طبائعها.. أن تختار اللحظة المناسبة التي تلقي فيها فكرتك.. أن تختار المكان المناسب.. أن لا تثقل عليها.. فللنفس طاقة محدودة للاستقبال إذا ما نفذت حلّ مكانها الضجر والملل وسقطت الكلمات على أرض عقيمة لا تنبت إلا الرفض والضيق، لذا لا بد من التدرج، فالقناعة لا تتولد من كثافة الأفكار بل من وضوحها وترابطها، ومع ذلك فليست كل النفوس مهيأة لاستقبال الحقيقة إلاّ أن تكون نفوساً إيجابية طيبة.
ثم أردف سعد وهو مطرق:
- عصام.. هناك أمر هام.
- تفضل.. قل ما عندك.
- هل نتكلم بصراحة؟
- الصراحة مذهبي...
- إن الالتزام بالإسلام يتطلب خطوات عملية.. خطوات سريعة حاسمة.
قاطعه عصام:
- إني أفهم ما ترمي إليه.. لكم يعذبني تقصيري.
- الندم شرط من شروط التوبة الصادقة، لكنه ينبغي أن لا يتحول إلى عقدة الذنب.. فالله تواب رحيم
- أستغفر الله وأتوب إليه.. سعد.. هل أجد عندك كتاباً مفصلا عن كيفية الصلاة؟
ذهب سعد ليحضر الكتاب، بينما شغل عصام بالمناظر الخلابة التي تحيط به من كل جانب وقد بهره هذا اللقاء الساحر بين الليل الهادئ والطبيعة الخلابة، وشدته الورود من حوله فقام يتجول بينها متأملاً ألوانها الزاهية مستنشقاً عبيرها المنتشر عبر الهواء الرطب، ومع النسمات العليلة تحركت خواطره الدفينة وحفت به الأطياف تحاوره وتناجيه، واستأثر به طيف سامية فتساءل في نفسه عن موقفها من تحوله الجديد وما إن عاد سعد حتى سأله وهو يتناول منه كتاب الصلاة:
- سعد.. ما هي نظرة الإسلام للحب؟
أجاب سعد وهو لا يخفي دهشته من هذا السؤال المفاجئ:
- الحب؟.. الحب عاطفة إنسانية نبيلة أودعها الله في قلب الرجل والمرأة ليكون الشرارة المقدسة التي تولد الحياة وتضمن استمرارها على الأرض.
- بعضهم يدّعي بأنه حرام!.
- الحب في حدّ ذاته ليس حراماً.. لكن الإسلام يرفض أن يكون الحب ذريعة للانحراف والفساد ووسيلة لتحقيق مآرب رخيصة، فباسم الحب ترتكب الآن أرذل الجرائم وتخدع نفوس طاهرة بريئة خفقت في فؤادها تلك العاطفة الفطرية النبيلة، فاستغلها آخرون من أصحاب الأهواء المريضة وقادوها إلى مواطن الرذيلة والفساد وجردوها من أخلاقها وعفتها وحطموا سمعتها ومستقبلها لعلك تذكر حديثنا حول ((منى وصفوان))..
- أجل أذكر.. وماذا يفعل المسلم إذا خفقت في نفسه هذه العاطفة نحو فتاة ما؟
- يسلك الطريق الطاهر النظيف ويتجنب الطرق الملتوية الآثمة، فيخطبها من أهلها بعد أن يدرس الموضوع من كل جوانبه ويتأكد من ملاءمة هذه الفتاة لحياته وطبعه وتفكيره، فإن وافقت الفتاة كان الالتقاء الحلال بينهما في ظلال الحب والتفاهم وإن رفضت لسبب أو لآخر فعليه أن يحترم رغبتها ويصون سمعتها وينسحب من طريقها حتى لا يكون سبباً في تعاسة إنسانة بريئة لم يقع اختيارها عليه.
قال عصام وهو يرمي بنظراته إلى الأفق البعيد:
- الإسلام منهج رائع حقاً...
ضحك سعد وقال مداعباً:
- عصام.. أرجو أن نسمع عما قريب أخبارك السعيدة...
* * *
بعد سهرة ثرية بالأحاديث والأفكار، ودع عصام سعداً ومضى.. كان القمر يتألق في كبد السماء الصافية بدراً منيراً ويلقي بأشعته الفضية على أشجار الطريق، فتضئ خضرتها الداكنة وتخلع عليها فتنة تسر الناظر وتشد العابر ليقضي الليل في ظلالها المزدانة ببقع النور المتسلل عبر الأغصان. وبهرته روعة المساء، وأغراه جمال الطريق بالمسير، فأطلق العنان لقدميه، فراحت تذرع الطريق بخطاً بطيئة كان وقعها يتردد إيقاعاً رتيباً يقطع الصمت الذي يلف الشارع الهادئ.
هذا الصمت الشامل.. لكم يثير في نفسه الشجن!.. إنه يستجيش المشاعر، ويستدعي الخواطر فتتزاحم في وجدانه.
إنه اليوم على أعتاب تحول جديد وحياة جديدة، فقد استيقظ في أعماقه إيمان عارم يلح عليه بالتغيير ويدفعه للعمل وينعطف به إلى عالم متميز.. وتحلق روحه مع الله.. فتشعر بين يديه بتقصيرها، وتدرك حقيقتها، وتتذكر مهمتها، وتعاهده على الالتزام بمنهجه الذي ارتضى.. ويتذكر عصام تصوراته السابقة عن الإسلام والتي تسربت إلى نفسه من البيئة المحيطة الجاهلة بأصول الإسلام ومبادئه العظيمة والتي ألصقت بالإسلام الكثير من عاداتها المنحرفة وتقاليدها الممجوجة وجهلها المريع.. يتذكر عصام كل ذلك، فيؤلمه ذلك التيه الذي كان ضارباً فيه.
لقد وجد الآن تفسيراً شافياً لهذا الفهم الخاطئ الذي تحمله الأجيال الجديدة للإسلام والنفور الذي تبديه نحوه أحياناً.. إنه يكمن في أنها تلقت أفكارها وتصوراتها من البيئة، بدل أن تتلقاها من النبع الصافي الأصيل.
ليس من المعقول أن تؤمن هذه الأجيال بإسلام مشوه مشوب بمفاهيم وعادات وتقاليد خاطئة متخلفة، وهي التي تفتح وعيها على حضارة العلم والاختراع وتشبع بمنهج البحث العلمي القائم على العقل والمنطق. لكم تؤلمه هذه الهوَّة السحيقة التي تفصل بين الإسلام الحق والمسلمين المتخلفين عنه فهماً واقعاً وسلوكاً!.
ويزيده الواقع المؤلم اندفاعاً وحماساً، فيمنو شعوره بالندم ويحس بسياطه وهي تلهب ضميره التائب فتنتفض عنه الأدران والخطايا ويصغي لحديث نفسه اللوامة وهي تحاسبه وتعاتبه.. ((كيف ستقف أمام الله يوم القيامة.. يوم يسألك: أعطيتك الصحة فلأي شئ استعملتها؟ وأعطيتك العقل فكيف استخدمته؟ وأعطيتك العمر فكيف قضيته؟ أعطيتك وأعطيتك فماذا قدمت؟ حقاً ماذا قدمت حتى الآن؟))..
وفاضت نفسه بالتأثر والانفعال، وانطلقت من جفونه دموع التوبة صادقة حرّى، فشعر ببرد السلام يمس شغاف قلبه، ويسكب في روعه الأمان، وتراءت له من بين الدموع مئذنة بعيدة تتلألأ بالأنوار، فهفت نفسه إلى الصلاة وآلمه أنه لم يدخل المسجد منذ أمد بعيد وتمتم في خشوع:
- (( اللهم إني أتوب إليك من كل ذنب مضى وأسألك القبول.. اللهم إني قادم إليك فاغفر لي وارحمني واجعلني من الصالحين.. اللهم إني قد عزمت على التوبة فبارك خطواتي، وأعنِّي على مشقات الطريق)).
* * *
عندما اقترب عصام من البيت لاح له شبح أمه وقد وقفت تنتظر قدومه على الشرفة، متكئة بكلتا يديها على جدارها وهي تحتضن وجهها الحزين بين كفيها، وما إن رأته حتى دبت الحركة في شبحها الذي كان جامداً تحت وطأة الهم والقلق.
وأدرك عصام ما عانته أمه بسببه من اضطراب وانزعاج، فحث خطاه ومضى يرقى السلم بسرعة وما إن وصل إلى الدور الثالث حتى وجدها تنتظر لدى الباب فابتدرته بالسؤال معاتبة:
- لماذا تأخرت حتى الآن؟ لقد شغلتني عليك يا بني.
قال عصام وهو يعتذر لها ويطيب خاطرها:
- اعذريني يا أماه.. لقد امتدت بنا السهرة ثم آثرت القدوم سيراً على الأقدام فتأخرت..
- ما كان ينبغي أن تتركني هكذا.. كدت أجن من الخوف والقلق..
قال لها عصام بعد أن دلفا إلى الداخل:
أماه أنت دائماً هكذا.. تستسلمين للقلق بلا مبرر وتندلع في نفسك المخاوف لأدنى سبب..
قالت الأم باسمة وقد هدأ روعها:
- ماذا أفعل؟!.. إنه قلب الأم..
- قلب الأم هذا يحيرني.. لا يقنعه منطق، ولا يكبح اضطرابه كابحّ...
ضحكت الأم وقالت:
- لا تقل لي بأنك غاضب.. إني أعرفك.. ما كان ليغضبك مني شئ.. هل أعد لك العشاء؟
- لا شهية لي للطعام.
- بل سأعده لك.. يجب أن تتعشى.
* * *
كان عصام يتناول عشاءه في صمت.. شارد اللب.. ساهم النظرة.. مشغول الوجدان بهذا الانقلاب الجديد الذي أزمع على تحقيقه في حياته، ولم يخف هذا الذي يعتمل في صدره عن والدته التي كانت ترقبه بفراسة الأم، وقد أحست بما يعانيه من هم وتفكير، وزاد من قلقها عليه تلك الأنداء من الدمع التي كانت تلوح في عينيه الساهمتين بين الحين والآخر فسألته في إشفاق:
- عصام.. ما الذي يشغل فكرك يا بني.. تبدو مهموماً شارد البال..
- أماه.. لقد قررت أن أصلي.
- الحمدلله.. هذه بشارة خير، ولكن ما الذي أهمك هكذا.. وهذه الدموع التي تلوح في عينيك؟.. أخبرني ما الأمر؟
- لا شئ.. كل ما في الأمر أني نادم على تقصيري وأرجو من الله أن يقبل توبتي.
هتفت الأم وهي تنظر إليه بدهشة واستغراب:
- التوبة؟.. التوبة من ماذا؟.. إنك لم تفعل في حياتك ناقصة أو رذيلة.. أنت ولدي وأنا أعرف الناس بك...
قال عصام واللقمة جامدة حبيسة في فمه:
- إنها التوبة من التقصير والإهمال، والندم على الأيام الماضية التي قضيتها بعيداً عن الله كان ينبغي أن تنبهيني يا أماه...
قالت الأم وهي تصب لابنها كوبا من الشاي:
- لا عليك يا بني.. إن الله تواب رحيم، ثم إنك ما زلت شاباً وأمامك متسع من الوقت لتصلي وتصوم وتحج...
قاطعها عصام موضحاً:
من قال بأنك هناك متسعاً.. ليس هناك أي متسع، فالموت يتربص بنا، والله سوف يحاسبنا على الدقائق والثواني كيف قضيناها؟..
- الموت؟!.. ما الذي يجعلك تفكر فيه الآن؟
- الموت حق يا أماه.
هتفت الأم في ضيق تريد إنهاء الحديث:
- حسناً.. حسناً.. تناول الشاي فقد كان أن يبرد.
* * *
أنهى عصام طعام ثم مضى فاغتسل وتوضأ وعاد إلى الصالة فاستقبلته أمه بنظرات ملؤها الود والإكبار.. إنه في نظرها ملاك كريم يدب على الأرض.. كتلة من الطهر والنقاء.. شعلة من الأمل الواعد تتألق في دنياها المظلمة لتنير لها الدروب إلى مستقبل باسم سعيد.. إنه روحها التي تخفق في صدرها، وفؤادها الذي ينبض بالحياة.
قام عصام يؤدي صلاة العشاء، ثم جلس يدعو الله في خشوع ضارع عميق، وبعد أن أنهى دعاءه اتجه إلى المصحف المعلق في صدر الصالة، فتناوله في لهفة، ثم نفض عنه الغبار في حياء، وحرره من بيته المخملي الأخضر، وفتحه في رفق وأراد أن يقرأ، لكنه انتبه إلى أمه وهي ترقبه في سرور باسم فلمح في عينيها الحب والحنان، وأراد أن يزيد سعادتها فقال لهم وهو يبتسم في حبور:
- أماه.. نسيت أن أقول لك شيئاً مهماً.
- يبدو أن هذه الليلة مليئة بالمفاجآت.. ماذا تريد أن تقول؟...
- أرجو أن تستعدي لتخطبي لي سامية.. هذا قراري الأخير.
* * *
__________________
اذا كان لابد لك ان تموت ارجوك ان تسأل اذا كان بالامكان ان تأخذ معك صديق