07-10-2010, 12:21 AM
|
|
الفصل الثاني عشر
(( اللهم إن كنت تعلم أن زواجي من سامية خير لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري، فاقدره لي، ويسره لي، وبارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن زواجي منها شر لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري فاصرفه عني، واصرفني عنه، اقدر لي الخير حيث كان، ثم رضّني به.. آمين، والحمد لله رب العالمين)).
لم يخفف هذا الدعاء الضارع
الذي استخار عصام به الله في أمر زواجه من قلقه واضطرابه
أو يحد من خفقان قلبه الشديد،
الذي كان يتلاطم بين ضلوعه، ويرجّ رجاً عنيفا،
فتتسارع نبضاته كلما اقتربت عقارب الساعة من السادسة مساء،
حيث يأزف موعد زيارته وأمه لمنزل الدكتور إياد ليخطب منه ابنته سامية.
إنّه لم يتوقع أن يحدث هذا الأمر في نفسه كل هذا الاضطراب،
فمنذ الصباح الباكر، وهو يكابده بأعصاب مرهفة وخيال شارد
، حتى خطبة الجمعة التي كان يصغي إليه بعمق وتركيز أفلتت من إدراكه،
عندما بدأ الخطيب يتحدث عن واجب الأمة في إحصان شبابها وفتياتها،
وتأمين الضروف الملائمة للالتقاء الحلال بينهم،
ومحاصرة أسباب الغواية والفساد في المجتمع
فانطلق خياله ليحدثه عن سامية، والخطوة الحاسمة المنتظرة،
لتحديد موقعها في حياته ومستقبله،
ولم يستيقظ من شروده إلّا عندما رأى المصلين ينهضون لتأدية الصلاة...
ودخلت الأم على عصام، وقد ارتدت ملابسها وتهيأت للخروج فوجدته يطوي سجادة الصلاة فقالت بنبرات ضاحكة:
- ما هذه الصلاة التي أديتها؟.. ألم نصلِّ المغرب معاً؟
- إنًّها صلاة الاستخارة..
ركعتان يصليهما المرء ثم يدعو الله عقبهما بدعاء
خاص يسأل الله فيه التوفيق والتسديد
بعد أن يعد للأمر عدته ويدرس الخطوات
التي سيقدم عليها بدقة وروية، ثم يمضي لما ينشرح له صدره وترتاح إليه نفسه.
سألته أمه وهي تمازحه:
- وكيف تجد نفسك الآن؟
- أمّاه.. لقد عزمت، وتوكلت على الله، هيا بنا الآن..
* * *
بين الدور الثالث حيث تقيم أم عصام، والدور الثاني حيث تقيم عائلة الدكتور إياد، مسافة قصيرة لا تحتاج لقطعها أكثر من لحضات قليلة، لكن أم عصام قطعت في خيالها خلال هذه اللحضات ربع قرن من الزمان، حافل بالذكريات والأحداث، وكلما هبطت في السلم درجة تراجعت في خضم السنين عاماً أو أكثر.. تذكرت خطبتها وزفافها.. تذكرت حملها وولادتها.. وتذكرت عصاماً من الميلاد حتى الشباب.. تذكرته وليداً يبكي، وتذكرته طفلاً يحبو.. تذكرته صبياً يلعب وتذكرته فتى ينمو، وتذكرته شابا يافعاً يسمو بأخلاقه وذكائه ونبوغه.. وعندما وصلت إلى الدور الثاني كانت نفسها قد تخففت من كل الهموم والأحزان، وتهيأت لتستقبل الفرحة الجديدة بكل ما أوتيت حواسها من إرهاف، وتخيلت ابنها عريساً وسيماً يزف إلى عروسه الجميلة ففاضت نفسها بالبشر والسرور، وطفح قلبها بالسعادة، ورفت على شفتيها ابتسامة طاغية لم تجد لإخفائها سبيلاً.
وتقدم عصام من الباب فقرع الجرس ثم تنحى ليقف خلف أمه.. وفُتح الباب فأطل منه الدكتور إياد وزوجته وقد تأهبا لهذه الزيارة الموعودة، ولسانهما يلهج بكلمات الترحيب الحار، ونظراتهما تشع بالحب والاحترام العميق.
واستقر بهم المجلس.. وتشعبت بهم الأحاديث.. فتبادلوا عبارات المودة وأشادوا بعلاقة الجوار الجديدة التي جمعتهم وشرعوا يتكلمون عن الماضي والحاضر، فذكروا الراحلين ومآثرهم وتحدثوا عن الآباء ونوادرهم ووقفوا طويلا عند حديث الأبناء ومشاكلهم، وكلما أوغلوا في السمر شعروا بالألفة تزداد وتتوطد بينهم. وحانت برهة صمت طارئة فانتهزتها أم عصام قائلة:
- ليتكم تسمحون لي بكلمة...
شعر عصام بأن اللحضات الفاصلة قد أزفت فتعالى وجيب قلبه، وتململ من شدة الارتباك، بينما قال الدكتور إياد وقد لاحظ ارتباكه:
- أنت سيدة المجلس يا أم عصام، فكيف نعطيك الإذن بالحديث؟
- قالت أم عصام وملامحها تنطق بالسرور:
- الله يبارك فيك يا حضرة الدكتور..
ثم تابعت في تدفق وحماس:
- ((تعلمون أنه ليس لي في الدنيا أعز من ولدي عصام، ولن تكتمل سعادتي إلا بتمام سعادته وعما قريب سوف يتخرج –بإذن الله- ولم يبق أمامه إلا الزواج وقد فكرت في الأمر فلم أجد له خيراً من ابنتكم المصونة سامية التي لن أجد فتاة بمثل تربيتها وأخلاقها، لذلك فإني أتشرف بخطبتها بابني لما علمت من ارتياحه لها، وإعجابه بسلوكها المحتشم وخلقها الأصيل.. هذا كل ما عندي، فلا أدري ما هو الرأي عندكم؟..)).
ابتسم الدكتور إياد ابتسامته المألوفة، وقال دون أن يفاجئه الكلام:
- أشكرك بالنيابة عنا جميعاً على مدحك لابنتنا سامية وتربيتها، واعلمي أنها ابنتك كما هي ابنتنا، وإذا أردت رأيي بالموضوع فإني ألخصه لك في كلمة واحدة. إنني أنا الذي أخطب ابنك عصام لابنتي سامية، لأنني أكون بذلك قد توخيت الرجولة والأخلاق والشرف، ولا أطلب لابنتي أكثر من ذلك.
وأردفت زوجة الدكتور إياد: - قد تكون معرفتي بعصام قليلة، لكنني بعد ما سمعته عنه وعن أخلاقه، وبعد أن تعرفت بأختي ((أم عصام)) وخبرت أخلاقها ومعاملتها الكريمة، فإني أتشرف أن يكون الدكتور عصام زوجاً لابنتي أأتمنه عليها.
قال عصام بنبرات مرتجفة خنقها الانفعال:
- أرجو أن أكون عند حسن ظنكم جميعاً.
قالت أم عصام:
- هل نفهم...؟
لكن الدكتور إياد سرعان ما التقط الحديث منها ليزيد موقفه إيضاحاً وتفصيلاً:
- ((أرجو أن يكون الأمر كما يتمنى الجميع، لكن رأينا يبقى ثانويا بالنسبة لرأي الفتاة، فهي صاحبة الشأن في هذا الأمر، وتبقى الكلمة الأخيرة الحاسمة لأنها حرَّة في حياتها وفيمن تختاره شريكاً لها وليس لنا إلا أن ننصحها ونوجهها.. أليس كذلك يا عصام؟.. تبدو خجولاً هذه الليلة!)).
ضحك الجميع لهذه الدعابة بينما أرسل عصام ابتسامة عريضة فضحت ما يجول في داخله من سرور وارتياح لهذا المنحى الذي يسلكه الحديث، وقال وهو يفرك يديه ليداري انفعالاته:
- ((إني أوافقك على ما تقول، فاستشارة الفتاة في أمر الزواج مبدأ أصيل من مبادئ الإسلام)).
وأضافت أم عصام:
- هل نؤجل الموضوع يوماً أو أكثر حتى تعرفوا رأي الفتاة؟
أجاب الدكتور بعد أن تبادل مع زوجته نظرة تفاهم:
- (( لا داعي للتأجيل.. سنسألها عن رأيها الآن، فأنا واثق من قدرة ابنتي على اتخاذ قراراتها بشجاعة ووضوح، وإذا ما أرادت مهلة لتحديد موقفها أمهلناها،.. عن إذنكم... )).
ثم أومأ لزوجته فلحقت به..
كانت غرفة سامية قريبة من الصالة بحيث كانت تستمع لكل ما يقال، ورغم أنّها كانت تتوقع هذا الحدث وتترقبه، إلاّ أنّ الأمر أربكها تماماً، ووضعها فجأة في مواجهة حلم لذيذ. وسرت الفرحة في أوصالها، فاجتاحتها موجة من السعادة والحبور. وأرادت أن تستعلي على مشاعرها المتدفقة لتبدو في تماسك طبيبة رصينة توشك أن تحتل موقعها المميز في المجتمع، لكن الفرحة كانت أقوى منها، فأطلّت من عينيها، ورفرفت فوق شفتيها، وعندما سمعت وقع أقدام أبويها وهي تقترب من حجرتها، حاولت عبثاً إخفاء الفرح والسعادة التي أشرق بها وجهها، لكنها لم تستطع، فتضرجت وجنتاها بحمرة الحياء وخشيت أن تفضح ملامحها مشاعرها، فتناولت كتاباً وتظاهرت بأنها منهمكة في قراءته.. وسمعت طرقاً خفيفاً على الباب فاضطربت له، وماتت الكلمات على شفتيها فلم تنبس. وفتح الباب فخفق قلبها بعنف وانتشرت أمواج الانفعال في أغوارها وراحت تضغط على صدرها فأرسلت تنهيدة لتنفس بها عن جيشان مشاعرها المستبدة العارمة.
أغلقت أمها الباب، وقالت مداعبة:
- لا تقولي بأنك منهمكة في القراءة، لا بد أنك سمعت حديثنا مع عصام وأمه.
لم تجرأ سامية أن ترفع رأسها من شدة الحياء، فلاذت بالصمت والإطراق، وازدادت ابتسامتها اتساعاً: ووجنتاها احمراراً، وأحاسيسها اضطراماً.
قال الأب وقد فهم موقف ابنته الذي خمنه منذ مدة:
- هل أفهم أنك موافقة؟.. فالسكوت علامة الرضا.
أردفت الأم :
- يجب أن تحددي موقفك، فالجماعة بانتظار جوابك.. عصام شاب ممتاز تعرفين عنه أكثر مما أعرف، وأمه سيدة طيبة.. إنكما لائقان ببعضكما فلا داعي للتردد. هل أفهم اعتصامك بالصمت على أنه الجواب؟
صمت الأبوان بانتظار جواب ابنتهما غير أنها داومت الصمت والإطراق وأخذ الحياء منها كل مأخذ فمدّ الأب يده إلى وجهها المورد ورفعه من ذقنها فأمالت رأسها في دلال وأسبلت جفنيها في وداعة، وقد أشرق وجهها بابتسامة تشي بالرضا والقبول، وأذاعت ملامحها الباسمة السعيدة السر المكنون، ونطقت بالقرار.. فامتلأت نفس الدكتور إياد بالغبطة وقال وهو يطبع على جبينها قبلة حانية:
- مبروك يا ابنتي.. مبروك.. وفقك الله وكتب لكما السعادة والهناء.
بينما مالت الأم على ابنتها وراحت تمطرها بالقبلات.
* * *
كان قلب عصام يخفق بشدة رغم أنه كان موقناً بالموافقة، أم الأم فقد كانت تنتظر الجواب على أحر من الجمر، فلقد أحبّت سامية وشعرت نحوها بارتياح عجيب إنها تشفق أن تفلت هذه الفتاة من يدها، لأنها أنسب من رأت لابنها الحبيب الذي باتت تشعر بأحاسيسه وتفكر بعقله وتنطق بلسانه وتنظر إلى الوجود بعينيه، وما إن عاد الدكتور إياد حتى تعلقت العيون بشفتيه الباسمتين أن تنفرج عن القرار الأخير.
- ((مبروك يا بني.. على بركة الله...)).
هكذا هتف الدكتور إياد وهو يتجه إلى عصام.. وتصافح الرجلان، وشد كل منهما على يد الآخر في ود وحرارة وقال عصام بنبرات منفعلة:
- بارك الله فيك يا عماه.. أطمئنك بأني سأضع سامية في عيني هاتين، وسأسعى لإسعادها السعادة التي تليق بها، ليس لأنها ستكون زوجتي الغالية فحسب، ولكن لأنها إبنة الرجل الذي هو في مقام والدي – رحمه الله - .
- رحمهُ الله رحمهُ الله .. أنا واثق من أن سامية قد أحسنت الإختيار.. بارك الله لكما في زواجكما ومد في عمركما حتى تفرحا بأولادكما وأحفادكما يا.. يا صهري العزيز.
ولم تستطع الأم أن تلجم فرحتها فأرسلت لسانها بالزغاريد، وعندما حاولت أن تبارك لابنها خانها لسانها، فهبت دموع الفرح لتكون ابلغ تهنئة في هذه المناسبة السعيدة.
ودخلت زوجة الدكتور إياد والفرحة تطل في عينيها وهتفت في نبرات تضج بالسرور:
- مبروك يا عصام.. لكم يسعدني أن تكون زوجاً لابنتي سامية.
وصاح الدكتور إياد في إنكار تصنع ليداعب القلوب الفرحة:
- ألا تجلسون؟.. لستم أول من خطب وتزوج!!.
ثم وهو يرفع صوته أكثر:
- سامية.. أين الشاي يا سامية؟
وقالت زوجته ترجوه:
- بالله عليك لا تحرجها هكذا..
ثم وهي تتجه بالحديث إلى أم عصام:
- لو ترين وجهها ونحن نسألها عن رأيها.. إنه بحمرة الورد من شدة الحياء..
قالت أم عصام:
- لأنها فتاة أصيلة ومرباة. لو تعلمين كم أحببتها.. لقد دخلت إلى قلبي منذ أن رأيتها أول مرة.
ثم وقد جلست بجانب ابنها الذي كان يعاني من الارتباك والخجل:
- والآن ما رأيكما لو نتحدث عن المهر والذهب وكتب الكتاب وغير ذلك من الأمور؟...
قال الدكتور إياد بعد أن تبادل مع زوجته نظرة فهمت مرماها فوافقته بإيماءة من رأسها:
- ((أرجو أن تسمعا رأيي في هذه الأمور.. أنا لا أحب الوقوف عن المسائل المادية كثيرا، لا سيما مع من أحبهم واحترمهم وأثق بمعاملتهم.. مهر هذه الفتاة خاتم من الذهب، هذا المقدم، أما المتأخر فأترك تقديره لعصام، على أن لا يتجاوز المقدار المتوسط الذي اعتاد عليه الناس في مجتمعنا، وبعد ذلك فإن عصاماً حر فيما يقدمه لبيته وزوجته، أما بالنسبة لكتب الكتاب فأرجو أن يتم في أسرع وقت ممكن، حتى يتاح للعريسين حرية الالتقاء في ظلال الشرع والحلال، أما العرس فيتم حسب اتفاق العروسين.. بقي شئ آخر.. هديتي لابنتي سامية بمناسبة زواجها ستكون الشقة المقابلة للشقة التي تقيمان بها، وسأكتبها باسمها في أقرب وقت.. هذه شروط لا أتنازل عنها بحال.. ثمة رجاء أخير.. أرجو من عصام وسامية أن لا تلهيهما الخطبة والزواج عند دراستهما وطموحاتهما الكبيرة، التي تحتاج إلى جهد كبير، هذا كل ما عندي بصراحة وإصرار)).
رفعت أم عصام حاجبيها دهشة وهمست:
- لكن هذا كثير يا دكتور.. لقد غمرتنا بكرمك.
اعترض الدكتور على كلامها بإشارة من يده وقال:
- أستغفر الله يا أم عصام، هذا ليس كرما.. هذه واقعية، فأنا واثق من زوج ابنتي، ومتأكد من أنه لو كان يملك الملايين لفرشها لسامية، فلماذا أضع له شروطا تحرجه وتكبله؟. إن أخلاقه العالية هي خير ضمان لمستقبل ابنتي، وأمام الثقة والأخلاق تصبح المادة تافهة لا قيمة لها.
كان عصام ينظر إلى الدكتور إياد في إكبار وإعجاب شديدين.. كان يشعر أنه جالس في حضرة عملاق، تحفه هالة من النبل والشهامة، وينبض قلبه بأرفع المشاعر وقال بنبرات تضح رجولة وقوة:
- دكتور إياد.. بعد إذن والدتي، أنا موافق على كل شروطك، وأرجو أن أكون عند حسن ظنك بي، وسوف تخبرك عن وفائي الأيام...
- على بركة الله يا بني.. أتمنى لكما السعادة والهناء والتوفيق.
ودخلت سامية وهي تحمل الشاي، وقد تألقت في ثوبها الأزرق السابغ الجميل، وبدا وجهها الذي توردت وجنتاه كزهرة ساحرة تقطر حسنا وروعة وصفاء، ورفع إليها عصام نظرات تفيض حباً وإعجاباً وخفق قلبه لمرآها الذي حرك عواطفه المكبوتة فراحت تتلاطم في أعماقه تريد أن تنبثق، فأشرق وجهه بابتسامةٍ وضيئة زادته جاذبية ووسامة، وأصاخ إلى صوتها العذب وهو ينسكب في أذنيه هامسا دافئا رقيقا:
- تفضل ...
فشكرها بنبرة هامسة خنقها الانفعال، واشتبكت نظراتهما للحظة، فومضت عيناها ببريق الحب، وأثار الموقف ذكريات الحاضرين، فانفجروا ضاحكين، فبددت الضحكات ارتباك العروسين، وطوحت خجلهما، وحطمت بينهما حواجز التكلف. فهدأ روعهما وانطلقت أساريرهما وسكنت روحاهما، وقد فردت أجنحة الشوق والحنين، فتعانقت في حب وامتزجت في نشوة وحلقت في دنيا فريدة من السعادة والطمأنينة والسلام.
* * * الفصل الثالث عشر
- إني أعترف لك بأنك طاهية ماهرةً يا أم عصام!.. هل تريدون الحق ؟ لقد بدات أحسد أبنتي على ما سوف تستمتع به من طعام حماتها الشهي اللذيذ ...الله أكبر .. هذا عشاء لن أنساه... تنحنحت زوجت الدكتور إياد تنبه زوجها إلي وجودها وقالت بلهجة متوعدة تصنعتها:
_ (( أصبح طعامي الآن لا يعجبك يا دكتور!.. أليس كذالك)) ثم وهي تتجه بالحديث إلي إبنتها:
_ هؤلاء هم الرجال يا ابنتي...دائما ينكرون الجميل وينسون المعروف..طبخة لذيذة صنعتها له حماتك ، أنسته كل ما أقدمه له من الأطباق الفاخرة الشهية.
قال عصام وهو يرمي حماته بنظرة ودودة فيها دعابة وعتاب:
_ سامحك الله يا حماتي .. إني أشم في كلامك لسامية دعوة إلي التمرد ؟؟...أخشى أن المعركة بيننا قد بدأت !
ضحك الجميع في سعادة بينها قالت سامية بلهجة تتراوح بين الجرأة والحياء:
_ اطمئني يا أماه.. إن عصاماً رجل وفيّ لا كسائر الرجال.
هتف عصام بنبرات مرحة:
_ يحيا العدل .. هكذا النساء أو فلا ...
بينما قال الدكتور إياد في إنكار:
_ هكذا إذن.. يعني أنا رجل بلا وفاء .. أو كما قال الأوائل: (ربوا واتعبوا .. ))!.
ضحك الجميع فى مرح،بينما قالت سامية معتذرة:
- سامحك الله يا أبت .. لم أقصد هذا ابداً..
قالت أم عصام وهي فرحة بهدا الجوا العائلي المفعم بالسرور:
- هنيئاً لكل من أكل .. بالصحة والعافية
– إن شاء الله
- والآن ما رايكم بكوب شاي ؟
ولم تنتظر جوابهم فهمت بالنهوض إلا أن سامية سبقتها قائلة:
- بل أنا التي ستصنع الشاي .. استريحي يا أماه..
ابتسم الجميع لهذه المبادرة وقال الدكتور إياد:
- يا لك من كنة وفية يا ابنتي!.
أحرجت كلمات الأب سامية وكادت أن تتعثر في خطواتها ، بيد أن ملا محها كانت تنطق بالرضى والسرور، وأسرعت إلى المطبخ وسط سيل من الضحكات الودودة المشفقة ,وما هي إلا برهة حتى تململ عصام فى مكانه، ثم قام محاولاً الإنسحاب للحاق بسامية ،لكن الدكتور إياد فاجأه مداعباً:
- إلي أين؟
أجاب مرتبكاً:
- ((سوف..سوف أذهب لأساعد سامية فى تحضير الشاي)) ثم أستدرك وهو يمضي :
- أخشى أنها لن تعرف مكان الأكواب...
- يعني لم تصبر على فراقها ....
ضحك عصام وأسرع إلي المطبخ حيث كانت سامية منهمكة في إعداد الشاي، فأطل من الباب ،وقال بصوت هو أقرب للهمس :
- مالي أرى القمر شارداً هذا المساء..
- عصام؟ .. أهلاً...
- بل أهلأ بك في بيتك .
- كيف أنت ؟
- بعدك يعذبني .
ابتسمت سامية ولم تنبس بينما تابع عصام:
- ((حتى أني لم أصبر على فراقك حتى تحضري الشاي)).
ثم تقدم منها في لهفة، وقال وهو يتناول يديها بين راحتيه
- سامية ...
همست وهيا ترقب الباب في حذر :
- أخشى أن يدخل علينا أحد...
- وهل نرتكب حراماً .. أنت زوجتي أمام الله وأمام الناس وما هيا إلا أسابيع قليلة ونتزوج ونستقر في بيت واحد...
- أعرف ولكن ..
- ولكن ماذا؟
- لن ننجو اليوم من ألسنتهم اللاذعة.. لا سيما ((أبي)).
ابتسم عصام وقال:
- لكم تسرني دعابات أبيك .. إنه ينسيني أنه أستاذي في الجامعة،ويشعرني بأبوة غامرة.
قالت سامية كمن تذكرت:
- علمت منه أنكما قد اتفقتما على ترك عملك معه في العيادة حتى تتفرغ للتحضير والاستعداد للتخرج.
- هكذا كانت رغبته ، لكني سوف أعود إلي العمل معه فور انتهاء الامتحانات .
- وكيف دراستك الآن
- الحمد لله ، وأنت؟...
- لقد أنهيت اليوم مقرر ((الجراحة)) وسوف ابدأ غداً بمراجعة مقرر ((الباطنية)) .
- أما أنا فقد راجعت جميع المقررات تقريباً ، وسوف أعيد قرائتها مرة أخرى حتى أتمكن منها تماماً.
- يا لدأبك وجلادتك !.. كيف تصبر على كل هذا؟.. إني أراجع المقررات في مشقة، فتكرار المعلومات يورثني السآمة والملل!.
- لا أنكر أنني أعاني كما تعانين، لكني أجد في التكرار ترسيخاً للمعلومات وتثبيتاً للأفكار، مما يفتح أمامي آفاق جديدة من الفهم والتركيز ..دعينا من حديث الدراسة الآن ...
- عم نتحدث إذاً؟.
- عن القلوب ....
- وماذا نقول ؟
سألها عصام في عتاب رقيق :
- حقاً؟.. أليس عندك شئ تقولينه؟!.
قالت وقد تقصدت أن تخفف النار تحت الإبريق:
- عندي الكثير...
- حدثيني إذاً !.
- لا أتقن التعبير .
- قولي أي شئ.. أي شئ... المهم عندي أن أستمتع بنبراتك الدافئة العذبة وهي تنسكب في سمعي وتملأ مسارب نفسي.
قالت في حياء وهي تتشاغل برصف الأكواب على الصينية :
- كثيراً ما تنهال المعاني على نفسي فتفيض بي المشاعر وتتدفق تريد أن تنبثق وتفصح عن مكنونها ،فأكنوها في أعماقي لأبوح لك بها ، وعندما أراك يثقل الحياء لساني فلا ينطلق بها !
- الحياء مني؟...
ابتسمت وأجابت وكأنها تدافع عن نفسها :
- كلانا على أبواب تجربة جديدة!.
رمقها عصام بنظرة حانية،وقال وهو يتأمل عينيها الجميلتين وقد لاذتا بزاويتي محجريها من فرط الحياء:
- أدرك هذا يا عزيزتي .. يكفيني حديث عينيك فحدثيهما أبلغ وأحلى...لقد باحتا لي بكل ما يخفق به قلبك من مشاعر وعواطف ، وأخبرتني بكل ما يمور في صدرك العامر بالحب والحنان.
سألته في دلال :
- هل تتحدث العيون ؟
- ولحديثهما الساحر همس لذيذ لا يتطرق إليه النسيان .
- ماذا قالت لك؟
- قالت لي الكثير ، لكن اللسان يعجز أن ينطق بلغة العيون ، فحديث العيون لا تتقنه إلا العيون ....
وقطع الحديث عليهما صوت الدكتور إياد وهو ينادي:
- أين الشاي يا أولاد ؟
فضحك عصام وقال:
- لقد بدأ أبوك هجومه.
- الويل لنا من تعليقاته اللاذعة.
- إسمعي ... سنقدم لهم الشاى ونستأذنهم لنجلس وحدنا على الشرفة , فالجو فيها هادئ لطيف.
همست وهي راضية سعيدة :
- ((كما تشاء))
حملت سامية الشاي فقدمته للحاضرين ، ثم مضت مع خطيبها إلي الشرفة الهادئة وكان أول لقاء منفرد بين الحبيبين في ظلال الحلال .. وتوالت بعده اللقاءات السعيدة اللذيذة فشهدت تلك الشرفة أجمل وأروع قصة حب بين قلبين عاشقين جمعت بينها الأقدار........
* * *
__________________ اذا كان لابد لك ان تموت ارجوك ان تسأل اذا كان بالامكان ان تأخذ معك صديق |