عرض مشاركة واحدة
  #24  
قديم 07-10-2010, 07:06 PM
 


الفصل السابع عشر

(( أيها الليل.. أما لك من آخر؟.. وأنت أيتها النجوم؟.. ما لك ثابتة في كبد السماء لا تريمين؟.. ألا تمضين في دروبك الرتيبة فتحملين معك هذا الليل الجاثم الطويل؟.. وأنت أيها النوم؟... ما بالك قد خاصمت أجفاني؟.. إلامَ تتركني نهباً للهواجس، وفريسة للهم والأرق؟.. أين أنت حتى أنسى في أحضانك خيبتي ويأسي؟.. ألا تأتي فتنقذني من آلام الوعي ومرارة الحقيقة؟.. وأنت أيها القمر؟.. آه لو ينطق القمر!.. لكان شاهدا على الضحية والجلاد.. على الظالم والمظلوم.. على الجريمة والمجرم.. الخائن.. ظننته فتى أحلامي.. بذلت له الحب والإخلاص.. منحته الثقة العمياء فاستسلمت لأهوائه ورغباته.. آه.. لكم أشمئز من تلك الأيام الماجنة اللعينة.. باسم الحب جردني من إرادتي.. باسم الحب ميع لي الأخلاق الفاضلة وقيم العفة والشرف.. باسم الحب استدرجني إلى حياته التافهة الحقيرة.. الحب!.. هذه العاطفة النبيلة باتت مشجباً نعلق عليه انحرافاتنا وأهوائنا.. أضحت قناعاً براقاً نخفي تحته بواعثنا الشريرة ودوافعنا المريضة .. الحب!.. عنوان خديعة كبرى عشتها سنوات طويلة وأنا أجري وراء فارس مزيف سرعان ما تعثر جواده الرديء على دروب التجربة المريرة.. باسم الحب أرقت أحلى أيام عمري لأروي بها زهرة سامة كنت أول ضحاياها.. وصدقته، فخلعت على أعتاب حبه كل الأخلاق التي تربيت عليها.. تحايلت على أمي الطيبة، وهزئت بنصائحها وتوجيهاتها، واتهمت أفكارها بالتخلف والرجعية والجمود.. خدعت والدي المسكين الذي يحترق كشمعة لينير لنا بتضحياته درب الحياة الكريمة المستورة، وهو يمضي وراء عربته الخشبية العتيقة، يدفعها عبر الأزقة والحارات.. يبيع عليها الخضار والفواكه.. يخرج منذ الفجر، ويعود عند المساء بعد كدح وجهاد طويل، فيتناول عشاءه وينام ليتزود بقسط من الراحة يعينه على متابعة رحلة الحياة اللاحبة الطويلة، وينام ملء جفنيه وهو مطمئن إلى زوجته وأولاده.. واثق بأننا سنقدر كفاحه وتضحياته فننتظم في حياتنا وسلوكنا وفق ما يحبه ويرضاه.. كان أشد ثقة واطمئنانا إلى سلوكي فخذلته دون أن يدري وخنت الأمانة. ماذا لو عرف الحقيقة؟.. حتماً سينهار.. أي جريمة ارتكبتها بحقه وهو الذي يحبني أكثر من كل أخوتي؟.. دائما يقدم لي كل ما أطلب.. دائما يهتم بي ويشجعني ليراني طبيبة يتباهى بها أمام الناس، فيقولوا ها هو ((أبو الدكتورة)).. ها قد أتى ((أبو الدكتورة)).. اشتروا خضاركم من ((أبي الدكتورة)).. الدكتورة؟.. أي لعنة حلت بهذا القلب؟.. خدّر أمي فرضخت لسلوكي الجديد.. خدّر أبي فأطلق العنان لتصرفاتي ومنحني الحرية دون تحفظ.. خدّر أخي الذي يشعر أمامي دائماً بالنقص وهو الذي أخفق في تحقيق طموحه بدخول كلية الطب.. خدّرهم جميعا فلم يرتابوا للحظة بسلوكي في الجامعة.. أولست ((الدكتورة))؟!.. أولست أعلى منهم علماً وثقافة ومكانة في المجتمع؟.. إذن فكل ما أفعله صواب. هذا اللقب المقيت كم بت أكرهه!.. لقد أورثني التعاسة والشقاء.. ليتني لم أدخل كلية الطب.. على الأقل لما كنت تعرفت بصفوان.. يا للسخرية!!.. صرت ألعن الظروف التي جمعتني به.. يا لها من نهاية تعيسة لقصة حب مزيفة.. حب؟!.. أي حب هذا؟!.. إنه ضياع.. عاطفة متوثبة عطشى تبحث عمن يرويها، فصادفت صفوان ليترعها بسمومه، فماتت بعد تخبط طويل، الإنسانة الوحيدة التي وقفت في وجه تهافتي المجنون على صفوان هي سامية.. هي الوحيدة التي قرعت في أعماقي أجراس الإنذار.. هزتني بعنف.. صدمتني بالحقائق، لكني كنت مندفعة بلا وعي فهزئت بنصائحها وتحذيراتها ووثقت بصفوان.. صفون!.. سرّ مأساتي المدمرة وتعاستي وشقائي.. ضحك علي.. أوهمني بحبه.. خدّرني بكلماته المعسولة...
((لكم أنت جميلة يا منى.. درت باريس من أقصاها إلى أقصاها فلم أرَ فتاة بفتنتك وجمالك!.. شاهدت حسناوات لندن فلم يفعلن في لبي ما فعلته أنت.. ذرعت إيطاليا من الشمال إلى الجنوب فلم تشدني فيها أنثى كما شددتني أنت.. درت وسافرت ورأيت ثم عدت إليك لتلقي روحي مراسيها على شاطئ حبك الكبير)).
الخبيث!.. تصورت نفسي ملكة جمال العالم. شمخت بأنفي إلى السماء.. أغلقت سمعي أمام كل الأصوات إلا صوته.. كانت كلماته تدغدغ أعصابي وترضي عواطفي.. كانت تلين إرادتي لتسلس له القياد.. وانقدت إليه.. مفتونة بشبابه.. مبهورة بثرائه.. مسحورة بلسانه.
((- سوف نتزوج.. سأبني لك ((فيلا)) فخمة.. بل قصر.. قصر كبير يليق بك وبجمالك..
- قلبك الكبير أعظم قصر أهفو إليه.. ما دمت أسكن قلبك فأنا أسعد فتاة في الوجود.
- وسنسافر إلى أوربا لنقضي شهر العسل..
- كم أتمنى أن أرى باريس.. لطالما سمعت عن باريس!.
- سأريك باريس ولندن وروما وبرلين و...
- رويدك.. رويدك.. كل ذلك في شهر؟!..
- في شهر.. في سنة.. المهم أننا معاً.. في أفياء حبنا السعيد.
- لماذا لا نتزوج الآن؟
- نتزوج الآن؟!.. ليس الآن.. ووالدي لن يوافق على زواجي قبل أن أتخرج، ولماذا نستعجل بالزواج؟ ها نحن معاً...
- معاً؟!.. أترضى من حبنا بهذا الفتات؟!.. لقاءات خاطفة، وجلسات قصيرة!!.. هل يرضيك هذا؟!!.
- لا.. لا طبعاً.. لم أقصد.. اسمعي.. لماذا لا تأتين تذاكرين عندي.. عندي شقة فخمة.. تقوم في شارع هادئ، فيها كل أسباب الراحة والهدوء)).
فاجأني بعرضه.. تجربتي معه تتطور بسرعة، فمن نظرات الإعجاب الجريئة، إلى ابتسامات الود والرضى، إلى كلمات المجاملة والغزل المستور التي تمخضت عن صداقة عميقة، سرعان ما تحولت إلى حب جارف سيطرت مشاعره وأحاسيسه على أحاديثنا ولقاءاتنا وسهراتنا الممتعة الجميلة، والآن تطور جديد!.. إنه يدعوني للقاء في شقة خاصة دون رقيب!.. ليتني أصغيت يومها لمخاوفي وهواجسي، لكنه شعر بترددي فلم يترك لي فرصة للتفكير وأخذ يحاصرني بأسلوبه الماكر الخبيث:
((- ((منى)).. يعني لم تجيبي على سؤالي.. أنت لا تثقين بي إذن.. الثقة أول دعائم الحب الصادق.. لقد رسبت في الامتحان يا ((منى)) وها هو حبنا يولد ميتاً فلنواريه النسيان.. لكن لا.. قد تنسينه أنت أما أنا فلن أنساه لأن قصته محفورة في قلبي، ضاربة في أعماقي وسوف أعيش على ذكرياته الحبيبة أبكي نهايته الأليمة)). الماكر!.. أشعرني بالذنب.. أصبحت أسعى إلى رضاه.. طفرت الدموع من عيني.. هتفت في توسل:
((- صفوان.. أرجوك.. ما هذا الكلام؟.. لست بالتي تنسى.. أنت لا تدرك عمق حبي وإخلاصي.. أنا أنسى؟!.. كيف سولت لك نفسك أنت تفكر في هذا؟!..)).
- ما معنى خوفك من زيارتي إذن؟
- صفوان.. أنا لست خائفة منك.. أنا خائفة من المجتمع.. من التقاليد.. من كلام الناس..
- أنت لا تثقين بنفسك إذن.. تضحين بحبنا وسعادتنا من أجل الناس والتقاليد.. التقاليد يا عزيزتي والقيم والأخلاق كذبة كبرى اخترعها الناس وصدقوها.. صنعوا منها سجناً شاهق الأسوار وحبسوا فيه أرواحهم.. أنت لم تري أوروبا يا حبيبتي.. الناس هناك بلا عقد.. بلا تعصب.. بلا قيود.. حرية وانطلاق وسعادة ما بعدها سعادة.. يجب أن نعيش حياتنا يا منى.. قطار العمر يمضي، فلنملأ أيامه بالبهجة والمتعة والفرح.. ليس هناك وقت نضيعه.. لا بد من الجرأة في اقتحام الحياة وانتزاع سعادتنا من براثن الأخلاق والتقاليد، فلنتمرد على الحواجز والقيود.. منى.. عل تأتين لتذاكري عندي؟
- سآتي، ولكن...
- ((منى)).. لا تجرحيني.. ولكن ماذا؟..
- لا أستطيع أن أتأخر.
- لن أؤخرك.. تعالي واذهبي متى شئت، اعتبري الشقة بمثابة بيتك.
- بيتي؟.. متى سيضمنا بيت واحد.. تتفجر في رحابه ينابيع حبنا العظيم لتملأ أيامنا القادمة بالسعادة والهناء.. بيت هادئ جميل لا يعكر صفوه إلا صخب أطفالنا الذين يملأون أرجاءه أنساً وبهجة، ويبعثون فيه حياة جميلة رائعة بصياحهم العذب، وضجيجهم المحبب وعبثهم البرئ. لكم أعشق الأطفال يا صفوان!!؟
- الأطفال؟!.. الأطفال هموم ومتاعب ومسؤوليات ووجع قلب))..
يا للسذاجة.. كيف لم أفطن يومها إلى حقيقة مشاعره وأفكاره؟.. إن تعليقه هذا يعكس تفكيره الشاذ الغريب ونفسيته الأنانية اللامبالية التي لا همّ لها إلا تحقيق الرغبات والأهواء، والتهافت على الملذات.. هل يوجد مخلوق عاقل لا يحب الأطفال؟!.. وعندما سألته عن سرّ موقفه من الأطفال استطاع –كعادته- أن يخرج من دائرة الشك بالكذب والمراوغة تحت ستار الثقة العمياء التي منحته إياها..
((- عجباً!.. ألا تحب الأطفال؟!..
- أنا؟!.. آه.. نعم.. أحب الأطفال.. أحبهم جداً.. لكنك يا عزيزتي دائما تستعجلين الأحداث.. أخبرتك أن والدي لن يوافق على زواجنا قبل التخرج.. ستأتين لعندي غداً أليس كذلك؟..
- سآتي...
- سأنتظرك بعد انتهاء الدوام.. سأنتظرك على أحر من الجمر)).
ما أخطر العواطف إذا اندفعت دون كابح من عقل أو إرادة.. ما أخطر أن يتحطم سد التعقل الذي ينظِّم تدفقها.. إنها تتحوَّل إلى طوفان مدمِّر يخلف وراءه المآسي والكوارث والأحزان.. تتحوَّل إلى جحيم يكوي بلظاه القلوب والأفئدة.. وأنا.. فتاة بسيطة أفتقر إلى الوعي والتجربة.. فتاة طيبة تعودت دائماً أن أنظر إلى الحياة من جانبها المشرق المضيء.. فتاة حالمة طموحة أبحث عن سعادتي تكافئ الحرمان الذي عشته طيلة حياتي.. لكني كنت غبية.. كنت مغرورة بعقلي وذكائي، والذكاء لم يعد يكفي لمواجهة الحياة، فالحياة اليوم تعجُّ بالثعالب والذئاب، وأنا فتاة غضة لا أعرف كيف تنسل الأفاعي أو تتلون الحرباء.. كل الناس عندي صادقون.. كل الرجال عندي طيبون.. تماماً كوالدي الحبيب، لذلك صدقته، وأغلقت مسامعي أمام تحذيرات سامية وهي الصديقة المخلصة التي كنت أسرُّ لها بأدق أسراري وأحترم رأيها ومشاعرها..
لقد وقفت عواطفي الجارفة حاجزاً سميكاً بيني وبينها فلم أعد أسمع إلاّ صوت صفوان، وتصورته يتهمني بضعف الشخصية وعدم الثقة بالنفس، فخشيت أن يفسد ترددي وخوفي الحب القائم بيننا فذهبت إليه وكان ما كان...
أي ضعف اعتراني أمامه.. أي جنون اجتاحني.. أي غباء ركبني حتى منحته مفتاح الحصن الذي أودعت فيه سمعني وشرفي وعفافي.
وابتدأت رحلة الشيطان..
وأوغلت في الأيام والشهور..
وأنا مستسلمة لتأثيره الطاغي، غافلة عن الحقيقة الأليمة، وكلما سألته عن مصير هذه العلاقة الآثمة وعدني بالزواج، دون أن ينسى تحذيري من الحمل، ومن حسن حظي أني طالبة طبّ أدرك ما علي فعله.. كانت كلمات سامية تتردد في خاطري فلا ألقي لها بالاً، ولكنها ما لبثت أن وجدت في نفسي بعد الأصداء عندما بدأ الطلاء الكاذب يذوب والقناع الخادع يسقط وبدأت الحقائق تتكشَّف.. اكتشفت أنني لست الأولى في حياته، وأنني لست الأخيرة.. هناك أخرى وثالثة ورابعة وأخريات.. مجون.. وعبث وخمر ومخدرات.. ألاعيب وخدع ومؤامرات... اكتشفت أني بين أنياب وحش لا قلب له أو ذمة أو ضمير...
وصبرت عليه، فمفتاح الحصن بين يديه.. التمست كل الطرق التي تؤدي إلى رضاه حتى
لا يعصف بسمعتي ومستقبلي، وكلما رأيته يتقرَّب مني كان الأمل ينبثق في أعماقي وأقول: ها قد عاد إلى واحة حبه.. ها قد اقتنع بأني فتاته المميزة بإخلاصها وجمالها وحنانها وذكائها، بيد أن الحقائق البشعة لا تلبث أن تثقل أجنحة الأمل فيهوي إلى قرار سحيق من اليأس ويصدم بقاع صلد من الوقائع والتفاصيل المرة، فيتحطَّم فؤادي ويشتد ألمي ويزداد عذابي.
وتتقلَّب ((مني)) في فراشها، وترسل نظراتها اليائسة الحزينة عبر النافذة، فتجد الليل ما زال حالكاً مقيماً والنجوم ما زالت لم تغادر والقمر ما زال ساطعاً منيراً وكأنه يرقبها في شماتة، فتنتفض في ضيق وتدفن وجهها بين ثنايا وسادتها فتغرقها بالدموع..
(( اشهدي أيتها الوسادة على تعاستي وشقائي بعد أن كنت مسرحاً لأعذب آمالي وأحلاها.. هل تذكرين؟... آه لو تذكرين... كنت آوي إليك كل مساء وقلبي الفرح النشوان يخفق بالحب والسعادة.. كنت أسترجع في أحضانك أحداث اليوم الذي أفل وأستمتع بذكرياته اللذيذة وأحلق في سماء الأحلام. وها أنا اليوم آوي إليك لأفضي بآلامي وأمضغ هزيمتي وأجتر أحزاني.. أي إنسان هذا.. هزأ كبريائي ومرغ سمعتي في التراب.. آخر شئ كنت أتوقعه منه أن يشهر بي على الملأ ويجعلني عرضة لنظرات الشك والريبة وهدفا للألسنة تلوك سمعتي وتفضح غلطتي وتتداول قصتي في كل مكان.. ولماذا؟.. لمجرد انفعال طارئ.. لمجرد أني عاندته في رأيه بسامية.. لقد شعر بأني أتمرد على سيطرته وآرائه، أدرك بأني لم أعد ملكه فانتم لغروره بتلك الكلمة البذيئة الحقيرة.. آه من لؤمك وغدرك يا صفوان.. في آخر يوم من حياة الجامعة ترفع القناع في وقاحة وتكشف عن أنياب الغدر والخيانة.. ولماذا لا.. لقد انتهى دوري.. أخذ مني ما أراد ورماني.. سلّى نفسه بفتاة ساذجة، جميلة، وبعد أن رشف رحيقها ركلها وكأنها شئ تافه لا حس له أو كرامة أو شعور..
لكأن آثام العالم وشروره قد أودعت قلب هذا الإنسان.. إنسان؟.. ومن أين له الإنسانية.. ليسه له منها إلاًّ الجسد الآثم والغرائز المحمومة.. ليس له من الإنسانية إلاَّ نقاط الالتقاء مع الحيوان.. آه ما أقساه.. ليتني لم أذهب إليه.. ليتني لم أسترحمه.. ماذا كنت أنتظر منه؟.. ولكن ماذا عساي أن أفعل؟.. فأنا غريقة أبحث عن قشة الخلاص.. ظننت أن الحب والصداقة قد يشفعان لي عنده فينقذني من محنتي الفظيعة...
- ((أهلاً ((منى)).
- مبروك.
- على ماذا؟.. آه.. ((مرسي)).. مبروك لك أيضاً على التخرُّج.. إنها فرحة حقاً.
- النفوس التعيسة المقهورة لا تتذوَّق الأفراح ولا تحس لها طعماً.
- منى .. تبدين كئيبة هذا اليوم.. عمَّ تتحدثين؟..))
اللئيم.. كأنه لم يفعل شيئاً!!.. تمنيت لو أن في يدي خنجراً لأنقضَّ عليه وأمزقه إرباً.. إرباً.. لكني لم أستطع أن أعلن ثورتي، فمفتاح الحصن بين أنياب الوحش ولا بد من ترويضه ريثما أستردها..
- ((ألا تعلم عمًّ أتحدث؟!..
- منى.. لعلك في ضائقة مالية.. اطلبي ما تريدين.. لا فرق بين الأصدقاء...)).
كدت أنفجر.. إنه يمعن في إهانتي وتجاهل مشاعري، ولكن.. قشة الخلاص.. يجب أن أستخلصها من بين أنيابه..
- ((صفوان.. تعرف أني لا أقصد هذا.. أنا عاتبة عليك..
- عاتبة؟!.. آه، تذكرت.. تقصدين سوء الفهم الذي حصل عندما كنا بانتظار النتائج.. أنا آسف.. مجرد انفعال..
- أيقودك انفعال بسيط لتفضح علاقتنا وتشهر بسمعتي أمام الجميع؟!!
- لا تنسي أنك البادئة.. لقد سفهت رأيي أمام الشلة، وأنت تعرفين أكثر من غيرك أن هذا يثيرني جداً!
- لدرجة أن تشهر بي على هذه الصورة!.
- ما كنت لأرحم من يتحدّاني.. أنت تعرفين هذا، ومع ذلك عاندتني في رأيي فأثرت حفيظتي..
- ((صفوان)).. لننسً الماضي.. لنعد إلى أيامنا الممتعة الجميلة.. لنعد إلى واحة حبنا القديم.. لنحقق ما اتفقنا عليه.. ها قد تخرَّجنا ولم يبقَ أي مبرر لتؤخر زواجنا.
- زواجنا؟!.. أنا لا أنوي الزواج..
- لكنك وعدتني!..
- كثيراً ما يتراجع المرء عن وعوده وقراراته، وقد تراجعت..
- لكنك اغتصبتني..!
- وأنت راضية.
- ما كنت لأرضى لولا إخلاصي لك وثقتي بوعودك.
- ماذا تريدين الآن؟..))
ماذا أريد؟ّ!.. صفعني بسؤاله.. أصبحت عبثاً عليه.. أصبحت عقبة في طريقه.. أصبحت في نظره لا شئ.. ماذا أريد؟.. الحقير!!..
- أردي منك أن تفي بوعودك فتتزوجني وتستر سمعتي وتصون شرفي..
- هذا محال.. اسمعي يا حضرة الدكتورة.. أنا لم أضربك على يدك.. لم أجرك إلى شقتي جراً.. جئت إليَّ بقدميك واستسلمت في بإرادتك، ولست مضطرا لأدفع ثمن رغبتك وسذاجتك وغبائك.
في تلك اللحضات تذكرتً ((سامية)).. دوت كلماتها في أعماقي بقوة.. وبدا لي طيفها المضيء وسط فضاء مظلم..
أذهلني الصدمة.. تقلَّصت ملامحي في ذعر وجحضت عيناي في غضب تريد لو تنقض عليه فتحرقه بنظراتها الثائرة..
هدرت في وجهه: ((صفوان.. أنت وغد.. وغد.. وغد..))..
آه.. ما أقساها من لحضات.. لحضات الصدمة والذهول.. إني لأتذكرها وكأني أعيشها الآن.. لقد انفلت هاربة لا ألوي على شئ.. كانت دموع القهر تنهمر من عيني الذاهلتين بغزارة.. وفي صدري كان يغلي مرجل من الغضب والثورة والغيظ المكتوم.. وتلاحقت أنفاسي متسارعة وبدأت أشعر بالاختناق.. الدنيا لم تعد تسعني.. الدنيا لم تعد لي.. الدنيا ليست للمقهورين والمعذبين.. ملعونة هذه الدنيا.. معلون هذا العالم. ملعونة هذه الحياة.. ماذا بقي لي فيها؟.. فلأغادرها بسرعة، والموت هو السبيل.. إنه أقوى طريقة للرفض.. أعلى صرخة في وجه هذا العالم التافه المجنون.. ولكن لا.. لن أغادر هذا العالم قبل أن أفضح الجريمة والمجرم.. يجب أن يكون لمودتي دوي هائل يهز حياة الطاغية، ويعلن النذير في صفوف الضائعين أمثالي، وينير أمامهم درب الفضيلة والعفاف)).
وتتناول منى ورقة وقلماً وتخط رسالتها الأخيرة على أضواء القمر الوانية بيد مرتعشة، وقلب يائس، وعينين ذارفتين قرحهما البكاء:
((إلى كل فتاة غرر بها.. إلى كل عذراء اغتصبت قهراً أو خداعاً.. إلى كل مظلوم في هذا العالم القذر الملعون، أقد روحي البائسة رفضاً لهذا المجتمع الفاسد المريض، وقبل أن أغادره أريد أن أفضح وألعن سبب بؤسي وشقائي.. الدكتور ((صفوان الناعم)).. هذا الثعبان الماكر الذي لدغني في أعز ما أملك، وحطَّم سمعتي ومستقبلي.. وقبل الرحيل أودُّ أن أعتذر إلى أمي الطيبة ووالدين المسكين اللذين...)).
وتقف منى عند هذه الكلمات...
لقد تذكرت أمها الطيبة ووالدها المسكين، فتذكرت كفاحهما الشاق الطويل من أجلها، وتصورت حجم المأساة الفظيعة التي سيعيشانها بسبب انتحارها، وتخيلت تلك القصص والفضائح التي سينسجها الناس حول هذا الانتحار فهالها ما ستقدم عليه..
ونشب في أعماقها صراع عنيف بين اليأس والرجاء، وتراوحت بين التماسك والانهيار، فترددت طويلاًً ثم بدأت تستسلم للعجز والضعف، فتناولت زجاجة السم التي أحضرتها لهذا الغرض ووقفت على الحدّ الفاصل بين الموت والحياة تقدم خطوة وتؤخر أخرى.. وازداد الصراع في أغوارها حدة وعنفاً، وأخذت مشاعرها المتباينة تتجاذب زجاجة السم من يدها، فتشنجت أصابعها على الزجاجة القاتلة وجعلت تترنَّح على حافة الفناء... وتفاقم الصراع في أعماقها المدلهمة.. فتقدمت من المرآة في رهبة وتأملت ذلك الشحوب الذي عكر ملامحها الكئيبة، وذلك الذعر الذي لاح في عينيها الحمراوين فانتابها خوف وهلع وأخذت ترتعش..
وأصغت لليأس العاصف وهو يدفعها للاستسلام، فحملقت في جنون وقربت الزجاجة من فمها، فعلا وجيب قلبا وتسارعت خفقاته وأخذ يتلاطم في صدرها وكأنه سجين ضمن غرفة مغلقة راح يدق الأبواب والجدران باحثا عن مخرج وقد أحاق به خطر داهم.
وهوت منى إلى الدرك الأسفل من اليأس، فباعدت بين أسنانها المنطبقة بقوة ورعب وحركت فكها المتشنَّج عنوة، وفتحت فمها إلى أقصى ما تستطيع وهمَّت بإفراغ السم القاتل في أحشائها، لكنها توقفت فجأة وهي تصغي لصوت العقل وهو يهيب بها هادراً قوياً أن تحجم، وامتدَّ لها خيط من الأمل فانتشلها من وهدة اليأس فحاول اليأس أن يعيدها إلى أحضانه، لكنها تشبثت بخيط الأمل ورمت بالزجاجة من النافذة وقررت أن تبقى...
وبلغ الإجهاد بها منتهاه، فانهارت على الأرض مهدودة خائرة، وراحت تبكي في مرارة فالحياة التي آثرت أن تعود إليها أقسى ألف مرة من الموت الذي كانت ستقدم عليه.
((يجب أن أبقى.. يجب أن أعيش.. من أجل والدي الطيب.. من أجل أمي المسكينة.. من أجل إخوتي.. سأبقى لهم، فلا داعي لأن أزيد تعاستهم وشقاءهم.. حرام.. حرامٌ علي أن أقتل الفرحة الوليدة في أعماقهم بعد أن انتظروها كل هاتيك السنين.. سأبقى في أذهانهم ((الدكتورة منى)) التي يفخرون بها.. سأطوي صدري على الجراح وسأمضغ مأساتي في صمت.. لا داعي للانتحار فلديَّ ما أقوم به.. ولماذا الانتحار؟.. لقد متَّ منذ زمن ولم يبق مني إلاَّ هذا الجسد.. فلأعتبره آله.. آلة نافعة مفيدة تعود على أسرتي بالمال الذي يوفر لها الحياة الكريمة الرغيدة.. سأعزف عن الزواج.. سألغي في أعماقي غرائز الأنثى، وأشواق الأنثى وسأعمل ليل نهار لأقدم لأبي وأمي أسباب الراحة والسعادة وأوفر لإخوتي حياة أفضل تحميهم من الاندفاع وراء الأحلام الكاذبة التي تعدهم بريِّ حرمانهم كما وعدتني فخذلتني))...
وسرى أذان الفجر فوق أمواج الظلام، فاخترق هدأة الليل ومزق وحشته، وانسابت معانية الخالدة إلى سمع منى فأنصتت إليه في خشوع وكأنها تسمعه لأول مرة.. وذكرت الله فذرفت بين يديه الدموع...
* * *

__________________
اذا كان لابد لك ان تموت ارجوك ان تسأل اذا كان بالامكان ان تأخذ معك صديق