عرض مشاركة واحدة
  #27  
قديم 07-11-2010, 10:01 PM
 
الفصل الحادي والعشرون
نالت المحنة الرهيبة من الدكتور إياد، وشغلته عن عيادته ومرضاه، فتفرغ ليواجه همومه وأحزانه ويقوم بواجبه نحو الأم الملوعة المسكينة التي فقدت ابنها وفلذة كبدها وأملها الوحيد في الحياة، ويقف إلى جانب ابنته الحزينة وقد سلبتها المأساة الأليمة كل مشاعر الأمل والسعادة والفرح التي احتشدت في نفسها لتستقبل مناسبة زفافها إلى الفتى العظيم الذي تولعت به، فجاءت هذه المناسبة دامية كئيبة، مفعمة بالآلام...
واليوم.. قرر الدكتور إياد أن يخرج من عزلته ليواجه الحياة من جديد، وقد تبخَّر منها أحد آماله الكبيرة تحت وهج المأساة الدامية، فمضى إلى عيادته بغير حماس، وراح يهبط في السلم بخطوات متثاقلة، ونفس مهمومة، وذهن مكدود.
ولدى الباب توقف لحظة وقد تهيَّب الدخول.. فالعيادة مزروعة بطيف الفتى الفريد الذي أحبه من أعماقه، فمنحه أبوته، وشعر ببنوته، وحفّه بالرعاية الاهتمام، ووجه خطاه إلى مستقبله الواعد فما لبث العقل العبقري أن تلمَّس دربه في أناة، وانطلق في سلم المجد كالنسيم.. يحقق النجاح إثر النجاح.. وضغط الدكتور إياد على آلامه، فاقتحم تردده، وتخطّى عتبة الباب، فاستقبلته الممرضة بابتسامة مرحِّبة، وشت بالمواساة فألقى عليها تحية السلام...
- وعليكم السلام.. خاتمة الأحزان – إن شاء الله - ...
- بارك الله في عمرك يا ابنتي، وجنبك الرزايا والأحزان...
- كيف والدته الآن؟.. منظرها الكئيب لا يفارقني...
- هي بين الموت والحياة... بين العقل والجنون... تقتات الحزن والأسى، وتروي جراحها بالدموع، أحياناً تبدو شاردة ذاهلة ساهمة وكأنها تمثال من الشمع، وأحيانا تبدو كتلة لاهبة من الأحزان.. لقد هدّها المصاب، وانطفأ في قلبها الأمل، فلم يبقَ لها من الحياة إلا أنفاس وانية تتردد في جسم يسعى نحو الذبول...
- كان الله في عونها.. والدكتورة سامية؟.. ما أخبارها؟...
أجابها وهو يمضي إلى غرفته ساهماً حزيناً:
- أخبار فتاة مسكينة فقدت فتاها عشية زفافها، واكتشفت إن سفينة أحلامها تمضي وسط بحر من الأحزان.
- شئ مؤسف حقاً. يا لقسوة الأقدار!..
قال الدكتور إياد وهو يتهالك على كرسيه في ملل وإرهاق:
- لا.. لا تقولي هذا يا ابنتي، فالأقدار لا ذهب لها فيما حصل، وسواء كان قدرنا سعيداً أم حزيناً فإنما هو حلقة لا بد منها في سلسلة وجودنا الكبير، لو لم يمت عصام اليوم فسيموت غدا أو بعده، ولو لم يمت في حادث سيارة لمات بلا مقدمات توحي لنا بسبب الوفاة.. كلنا سنمضي يا ابنتي، فلنتأهب للرحيل.
- بعد عمر طويل إن شاء الله..
ابتسم الدكتور وهمس في شرود:
- عمر طويل!!.. لكم نضحك على أنفسنا بهذه الكلمات، فالعمر مهما طال، فإنه لقصير.. نحن لم نخلق لهذه الأرض يا ابنتي، بل خلقنا لنمر بها على عجل في طريقنا إلى الحياة الحقيقية... حياة الآخرة، لكن إغراء الدنيا وجاذبيتها القوية تستهوي صغار العقول والنفوس، فيبنون على ظهرها الفاني صرح سعادتهم المزيفة، فيأتي الموت ليعصف به في لحضات، أما أصحاب النفوس الكبيرة والأفق الرحيب فلا يخدعهم وهم الحياة أو يغريهم طول المكوث فيقضون العمر بطوله كالمسافر الذي يمر بغابة ليست مقصده، فيستمتع بمائها وثمرها، ويصمد لوحوشها وذئابها، ويصبر على ظروفها وأشواكها ويتزود منا بما يعينه على متابعة الطريق، ثم يمضي إلى غايته وهو في شوق إلى الوصول...
قال الممرضة وقد بان على وجهها التأثر :
- رحمه الله... لقد أدرك عصام هذا، فتزوَّد بأعظم الزاد، ومضى إلى ربه مؤمناً عابداً تقياً... دكتور تبدو متعباً.. هل أحضر لك فنجاناً من الشاي؟
- لا.. لا أشتهي شيئاً.. كيف تجري أمور العيادة؟
- كما أمرت.. لقد حوَّلت المرضى الذين راجعونا إلى عيادة الدكتور ناجي وأرسلت إليه بملفاتهم الخاصة. هناك مجموعة من الرسائل التي وردت في غيابك، هل أحضرها لك؟
- أحضريها لأراها...
أحضرت الممرضة الرسائل فوضعتها أمام الدكتور إياد وانصرفت في هدوء، فألقى عليها نظرة تنطق بعدم الاكتراث، ثم تناول منها مغلفاً كبيراً كتب عليه ((صوت الجامعة- عدد خاص))، ففضَّ المغلف وأخرج العدد فطالعته صورة الغلاف وقد ظهر فيها عصام وهو يبتسم ابتسامة وادعة تفيض بالأمل والثقة والتفاؤل وقد كتب تحتها بخط أحمر فاقع ((من اغتال هذه الابتسامة؟)).. فرنا إلى صورة الفقيد بعينين دامعتين وقلب مكلوم، ثم أخذ يتصفَّح عناوين العدد في هدوء حزين.. ((كلية الطب تنعي علماً من أعلامها)).. ((الأمل الذي هوى)).. ((عصام.. لا تقل وداعاً، ولكن إلى اللقاء)). ((تأملات على ضفاف الموت)).. ((الدكتور إياد يتحدث عن مآثر الفقيد)).. ((الدكتور إياد يدعو إلى حملة وطنية لمكافحة حوادث الطرق))..
وتوقف الدكتور إياد عند هذا العنوان، فقد تذكر أن مجلة ((المجتمع الجديد)) قد طلبت منه مقالاً حول هذه الدعوة وأبعادها العملية، فأرجأ قراءة العدد حتى يتسنّى له إعداد المقال، ثم ألقى على بقية الرسائل نظرة سريعة فألفى معظمها رسائل مجاملة وتعزية فأجل قراءتها دون أن ينتبه لأهمية إحداها، وتناول ورقة وقلماً وشرع بإعداد المقال..
((عزيزي القارئ:
- إليك أخط هذه الكلمات المخلصة، بمداد من الدمع المدمّى..أخطها من قبل المأساة الدامية التي عشتها منذ أيام.. أخطها إليك بريشة الأسى، وأطياف الضحايا الذين دمرتهم المأساة إياها ترفرف حولي.. تهيب بي أن أفعل شيئا يوقف طوفان الدم الذي يغرض في كل يوم المزيد من القتلى والجرحى.. إليك عزيزي القارئ أبث هذه الكلمات راجياً منك أن تصغي، متوسلاً إليك أن تتفكَّر وتتأمل وتعتبر...
في وطني أيها الإخوة والأخوات وحش مفترس.. وحش كاسر يقف كل يوم وسط الشارع، ويرابط عند مفارق الطرق، ويفغر فاه ليبتلع عددا من المواطنين الأعزاء... وحش رهيب اسمه السرعة المجنونة، وفي بلدي وباء... وباء جارف تنقله جرثومة مستعصية... جرثومة خطيرة باتت تستوطن في نفوس الكثيرين... جرثومة سامة اسمها الفوضى... اسمها اللامبالاة... اسمها الاستهانة بالنظام... اسمها الاستخفاف بالمنطق... اسمها عدم احترام الآخرين.. اسمها ((الأنا)).. ((فالأنا)) أصبحت تتحكم بعقولنا وأعصابنا وتسيطر على أعمالنا وتصرفاتنا، وأصبح لسان حال الواحد منا يقول : ((المهم ما أريده أنا.. المهم ما أفعله أنا، وليذهب العالم من حولي إلى الجحيم...)).
ويستغرق وحش السرعة في طغيانه، ويزداد وباء ((الأنا)) انشاراً، فنقرأ كل يوم عن حادثة جديدة وكارثة جديدة ومأساة جديدة، وما إن تفتح ملفات التحقيق في هذه الحوادث المستمرة المتكررة حتى تتوجه أصابع الاتهام إلى السرعة والأنانية والفوضى، لكن أحداً لم يستطع حتى الآن قمع هذا الثالوث المجرم الذي يروع مجتمعنا...
شئ واحد أيها السادة يمكن له أن يوقف هذه المأساة.. إنه التربية.. التربية الأخلاقية الحضارية التي تضبط تصرفات الإنسان وتزيد من شعور المواطن بالمسؤولية وتحيي عنده الضمير.. وعندما يصحو الضمير في أعماقنا، نتخلص من وحش السرعة الرهيب وينحسر الوباء...
بالأمس أيها الأعزاء حدث حادث فضيع على طريق ((السلام)).. حادث مروع ذهب ضحيته شاب عظيم.. شاب..)).
ويتذكر الدكتور إياد عصاماً فيرتعش القلم في يده وتجتاحه نوبة من الحزن وتتدفق في عينيه الدموع...
وانتظر قليلا ريثما هدأ روعه ثم عاد ليتمَّ مقالته... وقبل أن يبدأ وقع بصره على رسالة معنونة باللغة الإنكليزية، فألقى القلم من يده وتناول الرسالة في عصبية، وفضَّها في ألم وأخذ يقرأ من بين الدموع:
- (( عزيزي الدكتور إياد عزت المحترم:
لقد اطلعت على كشف علامات الدكتور ((عصام السعيد)) وأعجبت بتفوقه ونبوغه أيما إعجاب، وبناءً على ذلك، وعلى ما حدّثتني به عن اهتمامه وتعمقه بأبحاث السرطان، فقد قررت أن أضمه إلى طاقم الأبحاث الذي يعمل معي في المركز ((الفدرالي)) للبحوث السرطانية، وقد اتفقنا هنا في إدارة المركز على تقديم منحة للدكتور عصام تسمح له بالاختصاص على حساب المركز شريط أن يعمل لصالحه مدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد حسب رغبة الدكتور عصام وذلك لقاء راتب شهري يتم تحديده بالاتفاق معه قبل توقيع عقد خاص ينص على بنود الاتفاق، أما بالنسبة للدكتورة سامية، فسوف يتسنَّى لها الاختصاص في نفس الجامعة التي سيتخصص فيها الدكتور عصام على أن يتم الاختصاص على نفقاتها الخاصة. ولعله من دواعي سرورنا جميعا أن تجتمع الطاقات العلمية في الشرق والغرب لإنقاذ البشرية من هذا المرض الرهيب. وفي الختام أرجو أن تقبل مني خالص الحب وفائق الاحترام، وأن تنقل تقديري وتشجيعي للدكتور عصام آملاً أن ألتقي به عما قريب للتعاون معا في إنجاز مهمتنا المقدسة)).
المخلص ((فرانكلين جاكسون))
رئيس الجمعية الأمريكة للسرطان
* * *



الفصل الثاني والعشرون
كلما جلس سعد في حديقة بيته، اجتاحته الذكريات العاصفة، وازدحمت في خاطره المشاعر والصور، وهفت نفسه للبكاء...
ففي ظلالها الوارفة كان آخر العهد بعصام، وبين أزهارها الفواحة توهجت النجوى بأعذب الآمال والأحلام، وفي جوها العبق الخلاّب عاش الصديق الحبيب آخر لحضات الحياة، ولو كان سعد يعلم أنها اللحضات الأخيرة، لأمتع ناظريه برؤياه، وأطرب أذنيه بنجواه، وأترع روحه من رحيق الحب الخالص الذي سما وتألق بين الصديقين، فمزج في نفسيهما وألّف بين قلبيهما ووحَّد منهما الآمال والآلام والدروب...
وفي هذا المساء، كان سعد يشعر بسآمة وضيق، فخرج إلى الحديقة ينشد الراحة والسلوى، وأرسل نظراته المتأملة تجوب أرجاء الحديقة الغناء، فأحسها كئيبة لم تستطع فتنتها الطاغية أن تمحي مسحة الحزن التي لاحت في أشجارها وورودها وأزهارها، وهب النسيم العذب، فراح يهمس له بأحاديث الماضي وذكريات الماضي، فتراجع في خضم الأيام يرقب صورها الحافلة عصاماً وانطلاقته المؤمنة...
واستغرقته الذكرى، فانتزعته من وعيه، وحملته إلى تلك الأيام الآفلة السعيدة، فحلَّقت روحه في سمائها الحبيبة تحاول أن تتشبث بلحظاتها الباهرة علَّها تطفئ لهيب الأحزان المتأججة في قلبه وتسكب روعة السلام، لكن وعيه القاسي سرعان ما جذبه إليه، فارتد خائباً محزناً يكابد الحسرة واللوعة.
واضطرمت في أغواره الأحاسيس، فشاعت كآبتها في صدره تروم لها متنفسا لم تجد غير الدموع.. واشتد عليه وطأة الأحزان فهرع إلى القرآن، وجلس في حجرته يتلو آيات منه.. ينشد بين سطوره الكريمة راحة النفس وهدوء الروح.. يبحث عن حوافز قوية تدفعه قدماً إلى الله.. ويترنَّم بالحقائق الخالدة لتنبت في أعماقه وتزهر وتثمر...
ومس سمعه صوت جرس الباب، فطوى المصحف في هدوء، ووضعه في جلال، ومضى يتبين الطارق.. وفتح الباب في شرود، ففوجئ بالزائر، وهمس في دهشة:
- صفوان؟..
- السلام عليكم.
- وعليكم السلام...
- أخشى أن لا يكون الوقت مناسباً للزيارة!
- أبداً.. أبداً.. تفضل..
وقادة سعد إلى حجرته، والتساؤلات الحائرة تنثال على خاطره.. ((صفوان؟!.. ما الذي جاء به؟!.. أيزورني؟!.. صفوان يزورني؟!.. ما أعجب النفوس!.. أي تحول طرأ عليه؟!.. أي سر يكمن في تصرفاته الأخيرة؟!..)).
قال سعد مرحِّباً بعد أن استقر به المجلس:
- أهلا بك يا أخي.. كم أنا سعيد بهذه الزيارة!!.
تساءل صفوان وهو يبتسم في مرارة:
- أخوك؟!.. أحقاً تعتبرني أخاك!!.
- ( إنما المؤمنون إخوة ).
- أولئك المؤمنون.. أما أنا..
- أنت منهم بإذن الله.
هتف صفوان في إنكار:
- سعد.. لكأنك لا تعرف من أنا.. سأذكرك.. أنا صفوان.. صفوان المستهتر العابث.. صفوان المتكبر المغرور.. صفوان الفاسق الفاسد الذي لم يخطر بباله لون من الانحراف إلاّ مارسه.. هذا هو صفوان الذي تجامله الآن فتخلع عليه صفة الإيمان.
ابتسم سعد في ثقة وقال:
- أنا لا أجاملك، لو سألتني عن أعمالك السيئة لأدنت لك سوءها، لكن ذلك لا ينفي عنك صفة الإيمان.. لعلي أعرف الجانب القاتم في حياتك، لكني لم أعدم التفاؤل يوماً بالجانب المشرق منها.
- أتؤمن بالإنسان ذي وجهين؟..
- بل أؤمن بالإنسان ذي طاقتين متنافستين.. طاقة للخير، وأخرى للشر.. إذا ما نمت إحداها ضمرت الأخرى، ولكنها لا تموت، بل تبقى كامنة متحفزة تنتظر من الأولى لحظة ضعف أو تراجع لتنطلق من جديد، والإرادة هي العنصر المرجّح لكفة هذا الصراع القديم داخل الإنسان.
همس صفوان بلهجة تفيض بالحسرة والندم وقد اغرورقت عيناه بالدموع:
- فكرت في أيامي السالفة فلم أجد فيها عملاً يرضي الله!!.
- ليس المهم ما كان، المهم ما سيكون.
- لكن ما كان كثير.. كثير..
- رحمة الله وسعت كل شئ.
- وما الطريق إليها؟
- أراك قد خطوت فيه خطوات...
- لا أفهمك؟
قال سعد وابتسامته الهادئة لا تزايله:
- الشعور بالذنب والندم عليه نصف الطريق إلى الله.
- والنصف الآخر؟
- أن تعمل بما يرضي الله..
- وكيف أرضي الله؟
- بأن يجدك حيث أمرك، ويفتقدك حيث نهاك.
تساءل صفوان في لهفة:
- ويغفر الله لي كل ما سلف؟؟
- ويبدَّل سيئاتك حسنات إلاَّ..
- إلاَّ ماذا؟!!
- إلاًّ ما كان منها في حق الآخرين، فلا يغفرها حتى يصفح عنها الآخرون.
- الآخرون؟!..
- ((منى)) مثلا!..
- آه... ((منى)) .. المسكينة... ضحكت عليها... أوقعتها في شباكي، وحققت منها مآربي، ثم ركلتها بعيداً، ومرغت سمعتها بالتراب.. ولكن كيف السبيل إلى مغفرتها؟
- بأن تمسح جراحها، أن تتزوجها لتعيد لها كرامتها واعتبارها ثم تشدها معك إلى دائرة التوبة والإيمان والعمل، وأنا أعدك بأني سأبذل كل ما في وسعي لأجمع بين قلبين تائبين فرق بينهما الشيطان.
قال صفوان ودموع التوبة تبلَّل وجهه الحزين:
- إني أعاهد الله أمامك أن أسعى لإنصافها مني ورضائها عني.. سأتخذها زوجة كريمة.. سأنسيها كل خديعة أو إساءة. وسأفرش دروبها بالسعادة والسرور...
وصمت صفوان وقد ألمَّت به ذكرى دامعة، ثم تساءل في حزن وأسف:
- وعصام؟
- عصام!
- لقد أسأت إليه كثيراً...
- رحمه الله... مند دقائق فقط كنت أكابد ذكراه...
- لقد هزني موته من الأعماق، وعلى أعتاب موته سألت نفسي.. من هو عصام؟.. إنه أنا وأنت وهو وهي.. إنه الإنسان وهو يحلم ويطمح ويبني قصور الأماني على أرض الفناء، ثم يمضي دونا وكأنها لا تعنيه، وكأنه لم يتعب ويعرق ويشقى من أجلها، وفكرت فيما بعد الموت فأشفقت من النهاية وخفت من سوء المصير فلجأت إلى الله.. أطرق أبوابه في ذلة وندم.. أطلب الصفح والغفران.. أنشد التطهر.. أغسل الذنوب بالدموع.. أبحث عن هدوء النفس وراحة الضمير، ولهذا جئت إليك...
- أهلاً بك يا أخي في صفوف التائبين الصادقين.. كلنا يخطئ ويكبو.. من منا لا يخطئ؟.. المهم أن لا نصر على الخطأ.. أن لا نكابر.. أن لا ننتحل له المبررات والمعاذير، والتائب حبيب الرحمن...
- لم تقل لي كيف السبيل إلى صفح عصام وقد مضى إلى ربه؟
تنهد سعد وقال:
- اطمئن.. قد تحتاج لصفح الآخرين إلاًّ عصاماً.. فما كان الحقد ليجد طريقاً إلى نفسه.. لقد كانت الإساءات – مهما عظمت – تضيع في خضم قلبه الكبير، وتتلاشى... إنسان يحمل على كاهله هموم الناس وآلامهم لن يجد في قلبه متَّسعاً ليكره أحداً.
- رحمه الله.. سمعت عن آماله الكبيرة فهزئت منها.. لقد كان فيما مضى هدفاً لسخريتي، واليوم أمسى مثلاً وضيئاً أتلمس خطاه.
قال سعد في شرود حزين:
- رحمه الله.. نسجنا الأحلام معاً، وهندسنا المطامح، ورسمنا الدروب.. ليلة الحادث كان عندي.. كنا نخطط لمشاريع المستقبل.. كان شعلة من الاندفاع والحماس.. اتفقنا على إنشاء صندوق لمكافحة السرطان ليكون في المستقبل رافداً قويا لكل المشاريع والمؤسسات التي تساهم في القضاء على هذا المرض الفتَّاك.. حلمنا بإنشاء جمعية وطنية لمكافحة السرطان، ومركزاً لأبحاث السرطان، ومستشفى لمعالجة السرطان و.. وفجأة.. اختفى رائد كل هاتيك الطموحات.. لقد كان خسارة فادحة لا تعوَّض.
هتف صفوان في حماس:
- سعد.. بودّي لو أقدِّم شيئاً.. إني مدين لعصام بصحوتي هذه وقد حقَّ الوفاء.. سوف أسعى لتحقيق كل آماله.. أنا أملك المال وأنت تملك الفكرة والطموح.. فلنكن يداً واحدة.. نحن وبقية الأصدقاء.. سننشئ الصندوق الذي كان يحلم به عصام.. وسنسعى لإنشاء الجمعية.. ومركز الأبحاث.. والمستشفى.. أجل... لا يوجد شئ مستحيل.. بودي لو أفعل شيئا يا سعد.. شيئاً عظيماً أكفر به عن ذنوبي، وأخدم به ديني وأمتي ووطني...
كان سعد يصغي إلى صفوان في سرور عارم وقد تألقت على ثغره ابتسامة حب وإعجاب، ولمعت في عينيه فرحة طاغية، وأحس بروح عصام وهي تخفق من جديد.


والقصة وخلصت


__________________
اذا كان لابد لك ان تموت ارجوك ان تسأل اذا كان بالامكان ان تأخذ معك صديق