عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 07-28-2010, 02:16 PM
 

(الردود على الشبهات)
(1)- من خواطر الإمام / محمد متولي الشعراوي مجلةالازهر
بسم اللهالرحمن الرحيم..
يقول الله تعالى في سورة البقرة:
(مَا نَنسَخْ مِن آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍمِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَم ْأَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍقَدِيرٌ)
النسخ فى اللغة هو الإزالة والمحو ، يقال: نسختالشمسُ الظلَّ ، يعنى أزالته ومحته ، وأحلت الضوء محله.ثم تطورت هذه الدلالةفأصبح النسخ يطلق على الكتابة ، سواء كانت نقلاً عن مكتوب ، أو ابتدأها الكاتب بلانقل.والنُّساخ أوالوراقون هم جماعة من محترفى الكتابة كانوا ينسخونكتب العلماء (ينقلون ما كتب فيها فى أوراق جديدة فى عدة نسخ ، مثل طبع الكتب الآن.أما النسخ فى الشرع فلهعدة تعريفات أو ضوابط ،يمكن التعبير عنها بالعبارة الآتية:
"
النسخ هو وقْفُالعمل بِِحُكْمٍٍ أَفَادَهنص شرعى سابق من القرآن أو من السنة ، وإحلال حكم آخرمحله أفاده نص شرعى آخرلاحق من الكتاب أو السنة ، لِحكمة قصدها الشرع ، مع صحةالعمل بحكم النص السابق ،قبل ورود النص اللاحق ، والنسخ موجود بقلة فى القرآن الكريم،مثل نسخ حبس الزانيات فىالبيوت حتى الموت ، وإحلال الحكم بالجلد مائة ، والرجمحتىالموت محل ذلك الحبس،
النسخ و وروده فى القرآن ، على أن القرآن ليس وحياًمن عند الله. ونذكر هناعبارة لهم صوَّروا فيها هذه الشبهة:
"
القرآن وحده مندون سائر الكتب الدينية ،يتميز بوجودالناسخ والمنسوخ فيه ، مع أن كلام الله الحقيقى لا يجوز فيهالناسخ والمنسوخ ؛ لأنالناسخ والمنسوخ فى كلام الله هو ضد حكمته وصدقه وعلمه ، فالإنسان القصير النظر هو الذى يضع قوانين ويغيرها ويبدلها بحسبما يبدو له من أحوالوظروف.لكنالله يعلم بكل شئ قبل حدوثه. فكيف يقال إن الله يغيركلامه ويبدله وينسخهويزيله ؟وليس الله إنساناً فيكذب ، ولا ابن إنسان فيندم؟!
*
الرد على هذه الشبهة:
نحن لا ننكر أن فىالقرآن نسخاً ، فالنسخ موجود فى القرآن بين ندرة من الآيات ، وبعض العلماء المسلمين يحصرهافيما يقل عن أصابع اليد الواحدة، وبعضهم ينفى نفياً قاطعاً ورود النسخ فى القرآن .
أما جمهور الفقهاء ،وعلماء الأصول فيقرونه بلا حرج ، وقد خصصوا للنسخفصولاً مسهبة فى مؤلفاتهم فى أصول الفقه ، قل من لم يذكره منهم قدماء ومحدثين. والذى ننكره كذلك أن يكونوجود النسخ فى القرآنعيباً أو قدحاً فى كونه كتاباً منزلاً من عند الله. ذلك ظن الذين كفروا،فويل للذين كفروا منالنار.
إنالناسخ والمنسوخ فى القرآن ، كان إحدى السمات التربوية والتشريعية ، فى فترة نزول القرآن ، الذى ظل يربى الأمة ،وينتقل بها من طور إلى طور، وفق إرادة الله الحكيم ، الذى يعلم المفسد من المصلح ، وهوالعزيز الحكيم.أماما ذكرتموه من آيات القرآن ، ساخرين من مبدأالناسخ والمنسوخ فيه فتعالوا اسمعواالآيات التى ذكرتموها فى جداول المنسوخ والناسخ وهى قسمان:
أحدهما فيه نسخ فعلاً(منسوخ وناسخ(
وثانيهما لا ناسخ فيه ولامنسوخ فيه ، ونحن نلتمسلكم العذر فى هذا " الخلط " لأنكم سرتم فى طريق لا تعرفونكيفية السيرفيه.
القسم الأول: ما فيهنسخ:
من الآيات التى فيها نسخ ، وذكروهافى جدولالناسخ والمنسوخ الآيتان التاليتان: (واللاتى يأتين الفاحشة مننسائكم فاستشهدوا عليهنأربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن فى البيوت حتى يتوفاهن الموتأويجعل الله لهن سبيلا).
ثم قوله تعالى: (الزانية والزانى فاجلدوا كلواحد منهما مائة جلدة ولاتأخذكم بهما رأفة فى دين الله 000).هاتان الآيتان فيهما نسخ فعلاً ،والمنسوخ هو حكم الحبس فى البيوت للزانيات حتى يَمُتْنَ ، أويجعل الله لَهُنَّ حكماًآخر.وكانذلك فى أول الإسلام. فهذا الحكم حكم حبس الزانية فى البيت ، حين شرعه الله عز وجل أومأ فىالآية نفسها إلى أنه حكم مؤقت ،له زمان محدد فى علم الله أزلاً. والدليل على أن هذا الحكم كان فى علمالله مؤقتاً، وأنه سيحلحكم آخر محله فى الزمن الذى قدره الله عز وجل هو قوله: (أو يجعلالله لهن سبيلاً). هذا هوالحكم المنسوخ الآن وإن كانت الآية التى تضمنته باقيةقرآنا ًيتلى إلى يومالقيامة.
أماالناسخ فهو قوله تعالى فى سورة "النور" فى الآية التى تقدمت ، وبين الله أن حكم الزانية والزانى هو مائةجلدة ، وهذا الحكم ليس عامّا فى جميع الزناة. بل فى الزانية والزانى غير المحصنين. أما المحصنان ، وهمااللذان سبق لهما الزواجفقد بينت السنة قوليًّا وعمليًّا أن حكمهما الرجم حتىالموت.وليس فى ذلكغرابة ، فتطور الأحكام التشريعية ، ووقف العمل بحكم سابق ، وإحلال حكمآخر لاحق محله مما اقتضاهمنهج التربية فى الإسلام.
ولا نزاع فى أن حكم الجلد فىغيرالمحصنين ، والرجم فىالزناة المحصنين ، أحسم للأمر ، وأقطع لمادة الفساد.وليس معنى هذا أن الله حين أنزل عقوبة حبس الزانيات لم يكن يعلم أنه سينزلحكماً آخر يحل محله ، وهوالجلد والرجم حاشا لله.
والنسخ بوجه عام مما يناسب حكمة اللهوحسن تدبيره ، أمَّا أنيكون فيه مساس بكمال الله. فهذا لا يتصوره إلا مرضى العقولأوالمعاندين للحق الأبلجالذى أنزله الله وهذا النسخ كان معمولاً به فى الشرائع السابقة على شريعة الإسلام.ومن أقطع الأدلة على ذلك ما حكاه الله عن عيسىعليه السلام فى قوله لبنىإسرائيل: (ولأحل لكم بعض الذى حُرِّم عليكم)
وفى أناجيلالنصارى (العهد الجديد)طائفة من الأحكام التى ذكروها وفيها نسخ لأحكام كان معمولاً بهافى(العهدالقديم).ومثيروهذه الشبهات ضد القرآن يعرفون جيداً وقوع النسخ بينبعض مسائل العهد القديموالعهد الجديد. ومع هذا يدعون بإصرار أن التوراة والأناجيلالآن متطابقان تمامالانطباق .
ومن هذا القسم أيضاً الآيتانالآتيتان:
)
يا أيهاالنبى حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتينوإن يكن منكم مائة يغلبواألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون).
وقولهتعالى)الآنخفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتينوإنيكن منكم ألف يغلبواألفين بإذن الله والله مع الصابرين)
والآيتانفيهما نسخ واضح. فالآيةالأولى توجب مواجهة المؤمنين لعدوهم بنسبة (1: 10) ،والآيةالثانية توجبمواجهة المؤمنين للعدو بنسبة (1: 2(وهذاالتطور التشريعى قد بين الله الحكمة التشريعية فيه ، وهى التخفيف على جماعة المؤمنين فى الأعباءالقتالية فما الذى يراهعيباً فيه خصوم الإسلام ؟
لو كان هؤلاء الحسدة طلاب حــــــقمخلصين لاهتدوا إليه منأقصر طريق ، لأن الله عزوجل لم يدع مجالاً لريبة يرتابها مرتابفى هاتين الآيتين. لكنهميبحثون عن " العورات " فى دين أكمله الله وأتم النعمة فيه،ثم ارتضاه للناسديناً.وقدقال الله فى أمثالهم:
)
ولو نزلنا عليك كتاباً فى قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلاسحر مبين)
ومن هذا القسم أيضاً الآيتان الآتيتان:
)
والذين يتوفون منكمويذرون أزواجاً وصيةً لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج)
وقوله تعالى(والذين يتوفونمنكم ويذرون أزواجاًيتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً).
أجل ، هاتانالآيتان فيهما نسخ ؛ لأنموضوعهما واحد ، هو عدة المتوفى عنها زوجها.
الآية الأولى: حددت العدة بعامكامل.والآية الثانية: حددت العدة بأربعة أشهروعشرليال.
والمنسوخ حكماً لا تلاوة هو الآية الأولى ، وإن كانترتيبها فى السورة بعد الآية الثانية.
والناسخ هو الآية الثانية ، التى حددت عدة المتوفىعنها زوجها بأربعة أشهروعشر ليال ، وإن كان ترتيبها فى السورة قبل الآيةالمنسوخ حكمها.
وحكمة التشريع من هذا النسخ ظاهرة هى التخفيف ، فقداستبعدت الآية الناسخة منمدة العدة المنصوص عليها فى الآية المنسوخ حكمها ثمانية أشهر تقريباً،والمعروف أن الانتقال منالأشد إلى الأخف ، أدعى لامتثال الأمر ، وطاعة المحكوم به.. وفيه بيان لرحمة الله عز وجل لعباده. وهو هدفتربوى عظيم عند أولى الألباب.
القسم الثانى:
أما القسم الثانى ، فقدذكروا فيه آيات على أن فيها نسخاً وهى لا نسخ فيها ، وإنما كانوا فيها حاطبى ليل ، لا يفرقون بينالحطب ، وبين الثعابين ،وكفى بذلك حماقة.
وها نحن نعرض نموذجين مما حسبوه نسخاً ، وهوأبعدما يكون عنالنسخ.
النموذج الأول:
(لا إكراه فى الدين قد تبينالرشد من الغى)(قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولايحرمون ما حرم الله ورسولهولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدوهم صاغرون)
زعموا أن بين هاتين الآيتين تناسخاً ، إحدى الآيتينتمنع الإكراه فى الدين ،والأخرى تأمر بالقتال والإكراه فى الدين وهذا خطأ فاحش ، لأن قولهتعالى)لاإكراه فى الدين) سلوك دائم إلى يوم القيامة.والآية الثانية لم ولنتنسخ هذاالمبدأ الإسلامىالعظيم ؛ لأن موضوع هذه الآية " قاتلوا " غير موضوع الآيةالأولى)لاإكراه فى الدين(
لأن قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولاباليوم الآخر) له سبب نزولخاص. فقد كان اليهود قد نقضوا العهود التى أبرمها معهم المسلمون. وتآمروا مع أعداء المسلمين للقضاء علىالدولة الإسلامية فى المدينة ،وأصبح وجودهم فيها خطراً على أمنها واستقرارها. فأمر الله المسلمينبقتالهم حتى يكفوا عنأذاهم بالخضوع لسلطان الدولة ، ويعطوا الجزية فى غيراستعلاء.
أجل: إن هذه الآية لم تأمر بقتال اليهود لإدخالهم فى الإسلام. ولو كان الأمركذلك ما جعل الله إعطاءهمالجزية سبباً فى الكف عن قتالهم ، ولاستمر الأمر بقتالهم سواءأعطوا الجزية أم لم يعطوها، حتى يُسلموا أو يُقتلوا وهذا غير مراد ولم يثبت فىتاريخ الإسلام أنه قاتلغير المسلمين لإجبارهم على اعتناق الإسلام.
ومثيرو هذهالشبهات يعلمون جيداً أنالإسلام أقر اليهود بعد الهجرة إلى المدينة على عقائدهم ، وكفللهم حرية ممارسة شعائرهم ،فلما نقضوا العهود ، وأظهروا خبث نياتهم قاتلهم المسلمون وأجلوهم عن المدينة.
ويعلمون كذلك أنالنبى عقد صلحاًسِلْمِيًّا مع نصارى تغلب ونجران ، وكانوا يعيشون فى شبه الجزيرة العربية ، ثم أقرهم عقائدهمالنصرانية وكفل لهمحرياتهم الاجتماعية والدينية.
وفعل ذلك مع بعض نصارى الشام. هذهالوقائع كلها تعلن عنسماحة الإسلام ، ورحابة صدره ، وأنه لم يضق بمخالفيه فىالدين والاعتقاد.فكيف ساغ لهؤلاء الخصوم أن يفتروا على الإسلام ما هوبرئ منه؟إنه الحقد والحسد. ولا شىء غيرهما ، إلا أن يكونالعناد والكبر ،.
النموذج الثانى:
)
يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافعللناس وإثمهما أكبرمننفعهما)
)
إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عملالشيطان فاجتنبوه)
والآيتان لا ناسخ ولا منسوخ فيهما. بل إن فى الآيةالثانية توكيداً لما فىالآية الأولى ، فقد جاء فى الآية الأولى: " فيهما إثم كبيرومنافع للناس وإثمهما أكبرمن نفعهما "
ثم أكدت الآية الثانية هذا المعنى: (رجس منعمل الشيطان فاجتنبوه)فأينالنسخ إذن ؟.
أما المنافع فى الخمر والميسر ، فهى: أثمان بيع الخمر ، وعائدالتجارة فيها ، وحيازة الأموال فى لعب الميسر " القمار " وهى منافع خبيثة لم يقرهاالشرع من أول الأمر ، ولكنه هادنها قليلاً لما كان فيهامن قيمة فى حياة الإنسانقبل الإسلام ، ثم أخذ القرآن يخطو نحو تحريمها خطواتحكيمة قبل أن يحرمهاتحريماً حاسماً ، حتى لا يضر بمصالح الناس.
وبعد أن تدرج فىتضئيل دورها فى حياة الناسالاقتصادية وسد منافذ رواجها ، ونبه الناس على أن حسمالأمر بتحريمها آتٍ لامحالة وأخذوا يتحولون إلى أنشطة اقتصادية أخرى ، جاءت آيةالتحريم النهائى فى سورةالمائدة هذه: (رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) هذههى حقيقة النسخ وحكمتهالتشريعية ، وقيمته التربوية ومع هذا فإنه نــــادر فى القرآن.
ومنذلك ما جاء فى قول الله تعالى (يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُأُمُّ الْكِتَابِ(
والمحو كما نعلم هو الإزالة ، والتثبيت أي : أنيُبقِى الحق ما يراه ثابتاً .
وقد فهم بعض الناس ـ خطأ ـ أن كل حكم في القرآن قدجاء ليثبت وسيظل هكذا أبدالدهر ؛ ولكن عند التطبيق ظهر أن بعض الأحكام يقتضي تغييرها يغيرهاالله لحكمة فيها خيرللبشرية.ونقول : لا ، لم يحدث ذلك ، ولكن كانت هناكأحكام مرحلية ؛ ولها مُدةمحددة ، ولذلك جاء قول الحق سبحانه(وعندهأم الكتاب ) الرعد 39أي : عنده اللوحالمحفوظ الذي تحددت فيه الأحكام التي لهامدة محددة ؛ وما أن تنتهي إلا وينزل حكم آخر مكانها ،وعلى هذا المعنى يمكن أن نقول : إنه لم يوجد نَسْخٌ للأحكام ، لأن معنى النَّسْخ أن يُزحزح حكماً عنزمانه ، وهنالم نجد حكماًيتزحزح عن زمانه ؛ لأن كل حكم موقوت بوقت محد ؛ وما أن ينتهيالوقت حتى يبدأ حكمجديد .
أقول ذلك كي أنبِّه البعض إلى ضرورة أن يجلسوامعاً لدراسة ذلك ، حتى لايختلف البعض في قول : هل هناك نسخ أم لا ، وأقول : فلنحدد النسخ أولاً ، لأنالبعض يظن أن هناك حكماً كان يجب أن ينسحب على كل الأزمنة ،ثم جاء حكم آخر ليحل محلهلحكمة تقتضيها مصلحة البشرية والمراد لله منها .
ولايوجد حكمأنهى حكماً وطرأ عليه ساعة الإنتهاء ؛ بل كل الأحكام كانت مقدورة أزلاً؛وعلى ذلك فلا يوجد نَسْخلأي حكم ، ولكن هناك أحكام ينتهي وقتها الذي قدره اللهلها؛ ويأتي حكم سبقتقديره أزلاً ليواصل الناس الأخذ به ؛ وما دام كذلك فلا يوجدنسخ .ولننظر إلى قول الحقسبحانه :البقرة 106 )) (مَا نَنسَخْ مِنْآيَةٍأَوْ نُنسِهَانَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْأَنَّاللّهَ عَلَىَ كُلِّشَيْءٍ قَدِيرٌ( ويتضح من منطوق الآيةومفهومها أن عند نسخ حكميأتي الله بمثله أو خير منه .
إذن : ليس هناك نسخ وإنماهناك أحكام تؤدي مهمتها فيزمن ثم يأتي زمن يحتاج إلى حكم خير منه أو مثله في الحكم،ولكنه يوافق المصالحالمرسلة مع مراد الله .ولقائل أن يقول : ما دام سيأتي بخير من الآية المنسوخة أو المُنْسَأة فذلك أفضل ،ولكن لماذا يأتي بالمثْل؟
وأقول : لأنك إن جاءك ما هو خير منها قد تستسيغه ،ولكن حين ننتقل إلى مثلماجاءتْ به الآية ؛ فهذا مَحَكُّ الإيمان .والمثْل هو التوجه فيالصلاة إلى بيت المقدس فيأول الدعوة ثم مَجِيء الأمر بتحويل القبلة إلى الكعبة ؛ فلامشقة فيذلك .ولكن هنا يتم اختبارالألتزام الإيماني بالتكليف ، وهنا الانصياغ للحكم الذي يُنزله الله ، وهو حكم مقدور أزلاً ؛ وفيهذا اختبار لليقين الإيماني في إدارة توجيه المُدبر لهذا السير .وكذلك في الحج يأتي الرسول عليهالصلاة والسلام ليُقبلالحجر الأسود ؛ ثم يرجم الحجر الذي يرمز لإبليس ، ونحن نفعلذلك أسوة برسول الله عليهالصلاة والسلام ، وكلاهما حجر ، ولكننا نمتثل لأمرالرسول عليه الصلاةوالسلام ، كل هذا استجابة لأمر الآمر . وحين يقول الحق سبحانه :
الرعد 39 )(يَمْحُو اللّهُ مَايَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمّ ُالْكِتَابِ( فهويعني أنه سبحانه يُنهي زمن الحكم السابق الذي ينتهي زمنه في أم الكتاب أي اللوح المحفوظ ؛ ثم يأتي الحكمالجديد .
والمثال : هو حكم الخمر ؛ وقد عالجها الحق سبحانه أولاً بما يتفق مع قدرة المجتمع ؛ وكانالمطلبالأول هو تثبيتالعقيدة ؛ ثم تجيء الأحكام من بعد ذلك .وهناك فرق بين العقيدة ـ وهي الأصل ـ وبين الأحكام ، وهي تحمل أسلوب الالتزام العقدىّ، وكان الحكم في أمرالعقيدة مُلزماً ومستمراً .أماالأحكام مثل حكم الخمر فقد تدرج في تحريمها بما يتناسب مع إلْف الناس ؛ واعتيادهم ؛ فقلل الحقسبحانه زمن صُحْبة الخمر ؛ثم جاء التحريم والأمر بالإجتناب ، وعدم القرب منها .والمثلفي حياتنا ؛ حيث نجد من يريد أن يمتنع عن التدخين وهو يُوسَّع من الفجوةالزمنية بين سيجارة وأخرى، إلى أن يقلل عنها بلطف ، وينفيها من حياته تماماً .ونجدالقرآن يقول في الخمر :
النحل 67(وَمِنثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةًلِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ( وهنا يمتن الله عليهم بما رزقهم به ؛ ولكن أهل الذوقيلتفتون إلى أنه لم يصفالخمر بأنها من الرزق الحسن ؛ ووصف البلح والعنب بأنه رزق حسن ؛لأن الإنسان يتناوله دونأن يفسده .وهكذا يلتفت أهل الذوقإلى أن الخمر قد يأتي لهاحكم من بعد ذلك ، ثم ينزل الحق سبحانه عظة تقول : البقرة(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِقُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌوَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَاوَيَسْأَلُونَك َمَاذَايُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُالآيَات ِلَعَلَّكُمْتَتَفَكَّرُونَ( وهكذا أوضح الحق سبحانهميل الخمر والميسر إلى الإثم أكثر من ميلهما إلى النفع ، ثم جاء من بعد ذلك قوله بحكممبدئي : النساء43((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَوَأَنتُمْ سُكَارَىحَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ(ومعنى ذلك أن تتباعد الفترات بين تناول الخمر ، فلا يحتسي أحد الخمر طوال النهاروجزء من الليل ، وفي ذلك تدريب على الابتعاد عن الخمر
ثم يأتي التحريم الكاملفي قوله تعالى :المائدة90 )يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُوَالْمَيْسِرُوَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِفَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(وهكذا أخذ الحكم بتحريم الخمر تدريجه المناسب لعادات الناس وتم تحريم الخمر بهوادة وعلىمراحل .
وهكذا نفهم النسخ على أنه انتهاء الحكم السابق زمناً وبداية الحكم الجديد ، وهكذا يعني أن الحكمالأول لم يكن مُنْسحباًعلى كل الزمن ثم أزلناه وجئنا بحكم آخر ؛ ولكن توقف الحكم الأول ـأزلاًـ قد انتهى ؛ وبدأالحكم الجديد .
وهكذا لا يوجد مجال للإختلاف علىمعنى النسخ ، ذلك أن الحقسبحانه أرجع المحو والإثبات إلى أم الكتاب ؛ ففيها يتحددميعاد كل حكم وتوقيته ؛وميعاد مجيء الحكم التالي له .
وما دام كل أمر مرسومأزلاً؛ فعلى من يقولون أنالبدأ محرم على الله أن ينتبهوا إلى أن هذا المحو والإثباتليس بداء ؛ لأن الابداءيعني أن تفعل شيئاً ، ثم يبدو لك فساده فتغيره .
والحق سبحانهوتعالى لم يظهر له فساد ما أنزل من أحكام أو آيات ؛ بل هو قدر كل شيءأزلاً في أم الكتاب ، وجعللكل حكم ميقاتاً وميلاداً ونهاية .
ويصح أن يتسعمعنى قول الحقسبحانه :
الرعد 39
(يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُوَعِندَهُأُمُّالْكِتَابِ(ليشمل نسح رسالة برسالةأخرى ؛ فيكون محا شيئاً وأثبت شيئاً آخر
مثال : أن الله عز وجل أمر سيدنا آدم عليه السلامبتزوج الأخ لأخته وكان هذاالأمر لغرض تكاثر البشرية ؛ ولكن بعد زمن معين محى الله عز وجلهذا الحكم وبدله بحكم آخر؛ والآن لا يجوز ليهودي أو مسيحي أو مسلم أن يتزوج منأخته .فكل شيء فيه تغيير إلى الخير يصح فيه المحو والإثبات ، وهو من عندالرقيب العتيد :
8
(مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍإِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ( أي أنه القادر على أنيأمر الرقيب والعتيد بأن يُثبتا الواجبات والمحرمات ،وأن يتركا الأمور المباحة ، وهو القادر على أن يمحوما يشاء من الذنوب ، ويثبت مايشاء من التوبة .
والله أعلم
__________________
د/ محمد عبد الغنى حسن حجر
طبيب أسنان
بسيون/غربية/مصر
رد مع اقتباس