* الجزء التاسع عشر*
(ماذا تعني بكلماتها؟)
دلفت وعد الى القسم وهي تتنهد.. وتوجهت لتجلس خلف مكتبهابهدوء.. فتسائل أحمد قائلا:لم استدعاك المدير؟..
التفتت له وعد وقالت: لقد تحدث الي بشأن موضوعي وانه ربما يحدث بعض المشكلات.. واخبرني انه سيوافق عليه على ان اتحمل انا تلك المشكلات..
سألها طارق في هذه المرة قائلا: وبماذا اجبته؟..
هزت وعد كتفيها وقالت: بالتأكيد وافقت..هل ارفض فرصة نشر موضوع كهذا من اجل بضع مشكلات..
ابتسم طارق بهدوء وقال: جيد انك لم ترفضي..
وظل يتأملها لوهلة قبل ان يلتفت عنها ويعود لممارسة عمله وكلمات خاطرتها لا تكاد تبارح ذهنه.. (" برودك يغيظني..تجاهلك يثير حيرتي..أخبرني اي شخص هو أنت ..لا ..بل من أنت؟..لم اشعر بكل هذا الاهتمام؟ ..وأنت لا ترفع رأسك وتنظر الى الأمام ..إلي..انظر إلي ..حقاً أريد أن أراك..أريد أن اعلم أي شخص هو أنت ..برود وصمت..ام اهتمام خلف قناع من ثلج؟..أحقا تشعر كباقي البشر..أم بت صلبا كالصخر..بالله عليك كرهت هذا الصمت..تحدث واخبرني ...من أنت؟..")
كل كلمة من هذه الكلمات تعود لتدوي في ذهنه.. لتمنعه من مواصلة عمله.. ورمى بالقلم بهدوء ليتأمل ملامحها الجميلة ويهمس لنفسه قائلا: (ماذا فعلت بي يا وعد؟.. مجرد كلمات اجبرتني على التفكير بك طوال الوقت.. على ان تظل صورتك محفورة في ذهني..لقد بدأت اعتاد حياتي هذه ..فلم جئت الآن؟..لا اريد ان يعود قلبي للنبض مرة اخرى..لقد احطت مشاعري منذ سنين بجبال من الجليد.. فكيف في ايام فقط استطعت ان تذيبي منها الكثير.. اشعر اني قد بدأت اعود الى شخصي الاول..الى طارق الذي فارقته منذ ثمان سنين..طارق المتفاؤل.. المرح.. الذي ينظر الى الحياة بنظرة سعيدة..الذي كان يمنح الحياة كل شي دون ان يطلب منها سوى سعادته.. لم يرغب في حياته بشيء غير ان يشعر بأن احلامه ستتحقق في يوم.. احلامه التي عاش سنتين لأجلها.. ولكن ...
وكأن الحياة تبخل عليه مجرد الشعور بالسعادة.. حطمت احلامه.. قتلت أمنياته.. جرعته كأس المرارة لسنين طويلة..وكأن ليس من حقه ان يبتسم فقد ابتسم بما فيه الكفاية..
وعاد ليتطلع لوعد ويهمس لنفسه من جديد قائلا: ( ولكن هاهي ذي وعد أمامي..ربما ارسلها لي القدر لتعود السعادة الى حياتي الآن..لأطوي صفحة الآلام الى الابد.. وابدأ من جديد..ترى هل انا محق؟.. هل اترك قلبي لوعد؟.. ام اتجاهل مشاعري واقبل بالحياة التي اعتدت عليها منذ سنين.. لماذا دخلت الى حياتي الآن يا وعد؟.. ألتبعثي في نفسي كل هذه الحيرة وتعيدي الي آلام الماضي..ام لكي تمنحيني بصيص امل اكمل به طريقي.. لو تعلمين يا وعد..فقط لو تعلمين انني لم اعد استطيع الابتعاد عنك مطلقا.. ربما تندهشين.. تستغربين.. ولكنها الحقيقة.. لقد بات قلبي ينبض لأجلك.. اجل لأجلك انت.. هل بت تشعرين بي؟.. وب....
جاءه صوت وعد لتنتشله من افكاره وهي تقول: واخيرا حانت نصف ساعة الاستراحة..
رفع طارق حاجبيه للحظة وغمغم لنفسه قائلا: (هل غرقت في التفكير لكل هذا الوقت؟)
ووجد وعد تلتفت اليه وتقول بابتسامة عذبة: ألن ننهض؟..
أومأ لها طارق برأسه بهدوء وهو يقول : بلى..
نهضت من خلف مكتبها وقالت بحماس: لا زلت متشوقة لمغرفة تتمة حكايتك مع مايا..
قال طارق بهدوء: سأكملها لك اليوم اذا حصلت على الوقت الكافي..
وسارت برفقته الى حيث الكافتيريا .. وقال طارق بهدوء: اريد ان اخبرك انك ستواجهين الكثير من المصاعب في عملك هذا.. وخصوصا اذا كان الموضوع يتعلق بشخص ما مسئول في الدولة.. والصحفي الحقيقي فقط هو الذي يمكنه مواجهة مثل هذه الامور..
واردف وهو يلتفت لها: لا تستغربي ان قلت لك انه ربما تتعرضين للفصل من العمل بسبب مجرد موضوع قمت بكتابته .. او ربما يتم ايقافك عن العمل لمدة معينة.. هذا بالاضافة الى الخصم من الراتب.. ما اريده منك يا وعد.. ان لا تلتفتي لكل هذا.. مادمت تؤمنين بصدق ما تكتبين وبأثره على اصلاح وتقدم المجتمع.. تحلي بالجرأة والشجاعة .. وواجهي الجميع لتثبتي وتبيني لهم انك على حق.. وهم على باطل.. مادمت تعملين من اجل هدف نبيل..
تطلعت اليه وعد باعجاب ومن ثم سألته قائلة: أخبرني.. هل تعرضت انت لمثل هذا؟..
قا لطارق بهدوء: كثيرا.. فكثيرا ما تم الخصم من راتبي.. وكثيرا ما اوقفت عن العمل لفترة..
تطلعت اليه بحيرة: ولا زلت مستمرا فيما تكتب من موضوعات تنتقد المسئولين..
قال طارق بحزم: واكثر من هذا.. مادمت ارى الخطأ امام عيني.. فلم اصمت؟..هل انا اصم ام اخرس.. لم جئت للعمل في مجال الصحافة اذا.. ان كنت سأصمت عن الخطأ؟..
قالت وعد وهي تغمز بعينها: اخشى ان يتحول عملك يوما في الصحيفة الى عمل تطوعي اذا استمر الخصم من راتبك..
قال طارق مبتسما: لا تقلقي.. هناك حد معين لا يمكنه الخصم بما يفوقه..
قالت وعد وهي تتطلع الى طارق باعجاب: ولكنك على حق..فلا يهمني ان تم طردي من هذه الصحيفة يوما.. ما يهمني هو ان اعبر برأيي بكل حرية في هذا المجتمع وان استطيع توصيل هذه الاخطاء للناس..
قال طارق بابتسامة: تعجبني جرأتك..
خفق قلب وعد لاطراءه لها وابتسمت بدورها وقالت: وتعجبني انا طريقة تفكيرك..
واردفت بمرح: ولكن ليس دائما..
اتسعت ابتسامة طارق وهو يدلف برفقتها الى الكافتيريا ويذهب لشراء بعض الاعطمة له ولها.. قبل ان يعود ليجلس برفق وعد حول احدى الطاولات.. وقالت هي وهي ترتشف قليلا من كوب الشاي: هيا انا بشوق لسماعك ..كلي آذان صاغية..
صمت طارق قليلا ومن ثم قال: اظن انك لا تزالين تذكرين ان آخر ما رويته لك كان بخصوص تدريبها على ركوب الخيل .. اليس كذلك؟...
أومأت وعد برأسها ايجابيا فأردف طارق قائلا: حسنا.. لقد صعدت مايا آنذاك على ظهر الحصان وهي تشعر بالخوف والتوتر وتطلعت الي لفترة قبل ان تزدرد لعابها وتقول: ولكني اشعر بالخوف قليلا..
تطلعت اليها وقالت وانا امسك اللجام: لا تخشي شيئا وانا معك..
عادت لتزدرد لعابها وتقول: انها اول مرة اركب فيها حصانا.. اشعر انني ارتجف..
قلت بهدوء وانا التفت لها: لا تتوتري والا شعر الحصان بذلك..ورفض التحرك وربما تمرد ايضا..
قالت مايا بصوت مرتبك: انت تخيفني هكذا اكثر..
قلت وانا اشير بسبابتي: بل احاول تنبيهك الى بعض الامور قبل ان نبدأ..
وابتسمت لاقول مردفا: هل انت جاهزة الآن؟..
أومأت برأسها بتوتر..فأخذت أحرك الحصان بخطوات بطيئة.. واتطلع اليها بين الفينة والاخرى..والى القلق الذي يكتسي ملامحها ومن ثم قلت مبتسما وانا اسلمها اللجام: والآن حاولي قيادته وحدك..
تطلعت الي بدهشة وهتفت قائلة: ماذا تقول؟..هل تظنني قد جننت حتى اقود حصان لوحدي؟..
غمزت بعيني لها وقلت: هذا لايسمى جنونا بل تدريبا على ركوب الخيل..
واردفت بابتسامة مشجعة وانا اقدم لها اللجام: هيا حاولي لوحدك.. ستجدين الامر سهلا صدقيني..
ترددت وقالت بخوف: ولكن...
جذبت احدى كفيها لاناولها اللجام وقلت بابتسامة حانية: ستفعلينها يا مايا .. صدقيني.. انت قادرة على ذلك..
رأيت الارتباك يبدوا واضحا من ملامحها من مسكة يدي لكفها.. فتركت كفها وقلت: هيا يا مايا..
أومأ برأسها..والتقطت نفسا عميقا..قبل ان تحاول تحريك الحصان.. فقلت لها: اضربيه بحذائك بخفة..
قالت بشحوب: لن يتحرك.. فالأهبط من على ظهره افضل لي..
- بل ستكملين..هيا لا تستسلمي بهذه السرعة..
فعلت كما طلبت منها ولكن الحصان لم يتحرك فطلبت منها ان تفعل ذلك بقوة اكبر.. وهنا تحرك الجواد.. وشاهدتها تبتسم ابتسامة متوترة وتقول: لقد تحرك حقا..
اومأت برأسي وقلت مشجعا: هيا اكملي..
قالت بسعادة: لأول مرة اشعر بأناحدى امنياتي قد تحققت بالفعل .. اشعر ببشيء غريب وانا ارى فسي امتطي جوادا كما تمنيت دوما..انه لشعور رائع يا طارق.. اشعر وكأنني احلق بالهواء و....
وتوقفت بغتة عن مواصلة الحديث ..لا اعلم ما الذي اوقفها عن مواصلة كلماتها السعيدة المفعمة بالحياة والامل..والتفت لها لأعرف السبب.. وهنا فقط شاهدت الشحوب يكتسي وجهها فاسرعت اوقف الجواد وانا اسألها قائلا: ماذا بك؟؟..
عضت على شفتيها بألم وقالت مكابرة: لا شيء.. انا بخير..
قلت وانا اعقد حاجبي: اخبريني الصدق يا مايا..ما الذي حدث لك فجأة؟..
ازدادت علامات الألم على وجهها وقالت بصوت خفيض بالرغم منها: اريد ان اهبط من على ظهر الجواد..
تملكني الخوف بغتة.. انها اول مرة اراها فيها على مثل هذه الحالة من الشحوب والالم هل تعاني من شيء ما.. او من مرض ما.. او انه شعورها بالخوف ؟.. واتجهت اليها في سرعة لامد لها يدي واقول: سأساعدك..هيا اهبطي..
لم تعترض وهذا ما ادهشني.. هذا يعني انها لا تستطيع حتى الاعتراض.. امسكت بكفي وهبطت بمعاونتي من على ظهر الجواد.. ولمحت بوضوح اكبر في تلك اللحظة ملامح الالم البادية على وجهها فقلت بقلق وتوتر: مايا اخبريني ماذا بك؟؟
التقطت مايا نفسا عميقا.. شعرت معه انها تحاول ملء رئتيها بالهواء الذي اخذ ينفذ من رئتيها..وهذا يعني انها تشعر بالاختناق في هذه اللحظة او بالالم الشديد.. وقالت بصوت ضعيف: لا شيء يا طارق...لا شيء..
امسكت بكتفيها وصحت بحدة: لا تكذبي.. اخبريني الصدق.. انت تكادين تصيبيني بالجنون باخفائك مثل هذا الامر عني..
تطلعت الي بنظرة لم افهم معناها.. ومن ثم قالت بصوت خافت للغاية حتى انني بالكاد كنت اسمعه: طارق..دعك مني..انا لن احيا...طويلا..
اردت ان اسألها عن معنى ما قالته.. عن معنى هذه القنبلة التي فجرتها في وجهي بكلماتها.. عن معنى هذا الكلام الاحمق الذي نطقت به منذ ثوان.. ولكني لم استطع فلقد تهاوت بين ذراعي فاقدة للوعي....
لم اعلم ماذا افعل فقد تملكني الرعب والفزع الشديدين وشلاّ اطرافي وتفكيري.. مانعاني من فعل أي شيء للسيطرة على مثل هذا الموقف وانا أكاد اسمع ضربات قلبي التي أخذت تنبض بسرعة وخوف..ولكني وجدت نفسي اصرخ طالبا النجدة .. ووجدت عدد من زملاء النادي جاؤوا لمعاونتي..لا اعلم ماذا حدث لحظتها.. لقد كنت مشتت العقل تماما..لم أكن ارى أمامي سوى ضباب كثيف أخذ يحجب عني الرؤية تدريجيا ..وأخيرا تم نقل مايا الى قسم صغير للطوارئ بالنادي..
تستطعين القول ان هذا اصعب موقف مررت به في حياتي.. وأنا ارى مايا فاقدة الوعي تماما وبصعوبة اراها تتنفس..والتف حول فراشها في تلك الغرفة الصغيرة التي تم نقلها اليها بالقسم الطبي..عدد بسيط من الاطباء لا يتعدون ثلاثة..وعدد من الممرضات.. ومنعا الجميع من الدخول.. ووجدت نفسي اهتف بانفعال في وجه احدى الممرضات: ابتعدي عن طريقي اريد ان اراها..ليس من حقك منعي..
قالت الممرضة بحزم: ارجوك يا سيد..هذه هي اوامر الاطباء.. سيتم فحصها وبعدها يمكنك الدخول..
قلت بعصبية: فلتذهب اوامرهم الى الجحيم اتفهمين.. اريد رؤيتها الآن..
قالت الممرضة بهدوء: سيدي انك تعطلنا عن عملنا هكذا.. ارجوك انتظر قليلا..
كدت ان استمر في انفعالي لولا ان شعرت بأحد الزملاء يقترب مني ويقول وهو يضع كفه على كتفي: اهدئ يا طارق قليلا.. ودعهم يمارسون عملهم.. مايا عزيزة علينا جميعا .. والجميع يرغب في رؤيتها.. ولكن من أجلها سننتظر.. أليس كذلك يا طارق؟..
التفت نحوه وقلت بحدة: لن انتظر لحظة واحدة اكثر من هذا.. اعصابي تكاد تتحطم وأنا لا اعرف ماذا بها.. وما الذي اصابها فجأة.. لا افهم معنى تلك الكلمات الحمقاء التي نطقتها قبل ان تفقد الوعي..
تطلع الي زميلي بحيرة وقال: أي كلمات؟..
كدت ان أخبره.. لكن لساني ظل عاجزا عن اعادة نطقها .. وكأن قولها قد يصيب شيء من الحقيقة.. وهذا ما أخشاه ..وارفض تصديقه.. ووجدت نفسي ابتعد بخطوات بسيطة عن غرفتها.. وارمي نفسي على أحد المقاعد بانهيار.. ان ما يصيبني الآن اكبر من ان أتحمله.. ان اعصابي تكاد تتلف وانا انتظر في لهفة وقلق خروج أحد الاطباء ليخبرنا بما حدث لمايا...
توقف طارق عن السرد للحظة.. وبدا عليه ان عاد لتلك اللحظة وانه يراها الآن امام عينيه..والتقط نفسا عميقا محاولا السيطرة على مشاعره ومن ثم قال: وأخيرا خرج أحد الاطباء من تلك الغرفة.. ولم اكد المحه حتى اسرعت اليه وقلت بتوتر: طمئنا على مايا يا ايها الطبيب..
قال الطبيب بهدوء: هذه اعراض طبيعية واظن انه لا داعي لكل هذا الخوف.. فمرضى القلب يعانون من هذه الحالات بين فترة واخرى عند شعورهم بالخوف او التوتر الشديد واظن...
قاطعته كالمصعوق : مرضى القلب؟؟..اي هراء تتفوه به يا هذا.. ان مايا بخير وليست مصابة بأي شيء..
قال الطبيب بهدوء من اعتاد مثل هذه الأمور: انه مرض وراثي لديها على ما اظن.. وهي تتعالج منه منذ فترة.. واظن انها تدرك مثل هذه الاعراض التي تصيبها اثر مرض قلبها..
اتسعت عيناي عن آخرهما وانا احاول استيعاب أي كلمة مما نطق.. وانا احاول ان اقنع نفسي ان هذا ليس سوى كابوسا سأستيقظ منه بعد قليل.. اذا هذا ما كانت تعنيه بكلماتها .. انها مريضة بالقلب.. وشبح الموت سيظل يطاردها الى الابد .. سيكون الخوف من هذا المصير هو صاحبها في كل لحظة..
لم اشعر بنفسي الا وانا اندفع الى داخل غرفتها واسرع الى جوار فراشها لاتطلع اليها.. كانت تبدوا كالملاك وهي مغمضة العينين..بريئة الملامح.. ساكنة الاطراف..وشعرت بغصة مريرة تملأ حلقي .. وأنا اتخيل ان تكون مثل هذه الانسانة الرائعة مريضة بالقلب.. كيف يستطيع المرء تصديق ان هذا الجمال النائم سينتهي يوما ما..
حاولت تمالك نفسي لكن قدماي لم تعودا قادرتان على حملي فتهاويت على أحد المقاعد وأنا اتطلع الى وجهها بيأس كبير ..لماذا القدر لا يمنحني السعادة الذي تمنيت؟..اليس من حقي ان اكون سعيدا مثل بقية الناس؟.. هل عندما احببت وتملكت فتاة قلبي ارى هذا المصير المرعب ينتظرنا سويا.. ماذا فعلت لأشعر بكل هذا؟.. هل اخطأت عندما أحببت فتاة ما وتمنيتها لتكون شريكة لحياتي؟.. هل هذه جريمة ارتكبتها؟.. ام ان...
وتوقف عقلي عن التفكير.. لم استطع ان اتحمل المزيدمن هذه الآلام والا سأنهار..ان لم يكن الانهيار قد اصابني وقتها بالفعل .. رأيت عددا من الزملاءوالزميلات يدلفون الى الداخل ويتطلعون الى مايا بهدوء..يخفي احاسيسهم..ان الجميع يدفن بداخله حزن عميق لهذه الانسانة الرائعة التي كانت ولا تزال احدى اروع فتيات جامعتنا.. اسرت الجميع بطيبتها.. بمرحها ..باخلاقها.. برقتها وبغرورها احيانا.. اسرت قلبي ببرائتها..بشخصيتها وبأحلامها البسيطة.. وفي تلك اللحظة شاهدت احدى الزميلات تخفي فمها بكفها وهي تطلع الى مايا .. ولم تستطع الاحتمال اكثر.. فسالت دموعها على وجنتيها في الم وهي تحاول التماسك دون فائدة.. وقال احد الزملاء متحدثا لها: لا داعي للبكاء.. ان مايا بخير..
قالت وهي تتطلع اليه بعينان مغرورقتان بالدموع: لماذا لم تخبرنا مايا بهذا الامر؟..لماذا اخفته عنا؟..اريد ان اعلم..هل تظن انها لن تبقى عزيزة علينا لو اخبرتنا بحقيقة مرضها؟..
اجابها زميل آخر بهدوء: ان الامر اصعب مما تتصورين.. من الصعب على شخص ما ان يعبر عن مثل هذه الحقيقة للآخرين.. سيشعر وانهم سينظرون اليه دائما بشفقة وعطف.. وانه لا يربطه بهم سوى الشفقة لحاله لا شخصه هو..
لم تتوقف الدموع عن الانهمار من عيني تلك الزميلة.. وتبعتها زميلة اخرى .. وقال احد الزملاء لتدارك الموقف: انتن تزعجونها هكذا.. اما ان تصمتن او نخرجكن من الغرفة..
قالها بمرح مفتعل..في حين قالت احداهن: حتى التعبير عن المشاعر اصبح ممنوعا هذه الايام..
قال مبتسما بشحوب: اسمعوني جيدا.. سوف نبقى قليلا هنا ومن ثم نغادر جميعنا لندعها ترتاح.. اتفقنا..
كنت معهم بنصف عقل.. بنصف تفكير.. لم اكن استمع الى ما كانوا يقولونه بعدها الا لكلمات متفرقة.. لقد كانت انظاري معلقة بمايا طوال الوقت.. وجسدي هو الموجود بينهم فقط.. فعقلي وقلبي كانا مع مايا.. يرافقناها في كل لحظة في عالم احلامها.. تمنيت ان أخترق احلامها لأعلم بمن تفكر.. بمن تحلم في هذه اللحظة..
وايقظني من افكاري صوت أحد الزملاء وهو يقول لي: هيا يا طارق فلنغادر وندعها ترتاح.. سوف نأتي مرة اخرى لرؤيتها فيما بعد..
هززت رأسي نفيا وقلت: سأبقى معها ولن اغادر..
- وماذا سيفيد بقاءك معها؟..
- اريد ان اظل الى جوارها..
واردفت مبررا: فماذا لو نهضت ولم تجد أحد معها..ربما تحتاج الى شيء ما حينها ..
قال زميلي بهدوء: انها ليست طفلة.. ولابد انها قد اعتادت مثل هذه الامور..وكيف تتصرف لوحدها بالمشفى و..
رمقته بنظرة صارمة.. اصمتته وارغمته على عدم مواصلة حديثه.. فقال بارتباك: معذرة لم اقصد ما فهمته.. اعني انها تعرف كيف تتصرف لوحدها.. دعها لترتاح يا طارق وسنأتي جميعا لرؤيتها بعد قليل..
قال طارق باصرار: قلت لا.. ان كنتم تريدون المغادرة فغادروا لن امنع احدكم..
- لكن يا طارق س...
قاطعه زميل آخر قائلا: دعه وشأنه..ان كان يريد البقاء فليبقى معها..
واردف بخبث: فيبدوا انها غالية عليه بأكثر مما كنا نتصور..
تطلعت الى زميلي بصمت دون ان اعقب بشيء..لم اعترض؟.. لم ابرر؟.. لم افعل هذا؟..انني احب مايا حقا..احبها بكل مشاعري.. فهل افعل ما هو خطأ؟.. لست اخدعها او اكذب عليها .. انني مستعد للزواج بها اليوم قبل الغد ..لكن هل ستوافق هي؟.. هل ستوافق ان علمت انني قد علمت بأمر مرضها هذا؟.. ستظن انها شفقة او عطف مني.. لكن لا.. لن اسمح لها بأن تظن بي مثل هذا الظن.. انا احبها .. احبها ..ومستعد لفعل أي شيء لأجلها..لتعلم كم هي غالية بالنسبة لي..
لم اشعر بزملائي وهم يغادرون المكان..بصراحة لم اكن اشعر بشيء مما حولي مطلقا.. كانت ابصاري معلقة بمايا وهي ممدة على الفراش وشعرها الاسود الطويل يجيط بوجهها بنعومة.. بعكس بشرتها البيضاء الناصعة..ليخلق مشهد اجمل فتاة رأيتها في حياتي.. اكاد اسمع صوت ضربات قلبها.. والغرفة تخلوا من أي صوت أخر سوى صوت جهاز ضربات القلب الذي يستمر بالرنين في كل ثانية.. وانفاسها الهادئة تدل على نومها العميق..
وابتسمت بمرارة بالرغم مني.. كيف لي ان احتمل مثل هذه الفكرة .. ان مايا مريضة بالقلب.. وانها...
لكن لم اليأس.. لم؟..ان الله عز وجل قادر على كل شيء.. وقلت هامسا لتفسي: ( يا رب.. ابقي مايا لنا يا رب.. اشفها من مرضها..اسألك يارب العالمين.. اسألك وانت لا ترد سؤال الداعي اذا دعاك..ارحمنا برحمتك يا رب العالمين)..
لم اعلم كم مر من الوقت بعدها.. ساعة .. يوم.. اسبوع.. عام..لست اعلم.. كنت اشعر بكل ثانية تمر.. اشبه بالساعة.. لهذا لست اعلم كم قظيت في تلك الغرفة من الوقت..وتوقفت عقارب الساعة كلها فجأة .. اظن ان هذا ما حدث وقتها..وانا اسمع ذلك الصوت الخافت الذي همس: طارق..
تطلعت اليها بدهشة ومن ثم لم البث ان ابتسمت بحنان وانا اقترب منها قائلا: حمدلله على السلامة..
قالت بشحوب: اين انا؟..
جذبت مقعدا لي وجلست عليه وانا اقول: بقسم للرعاية الطبية بالنادي..
رأيت عيناها تتسعان بغتة.. وتمتمت بصوت مرتجف: اذا فقد عرفت..
امسكت بكفها لأقول بحب: عرفت ماذا؟..
تطلعت الى كفي الممسكة بكفها للحظة قبل ان تقول بمرارة: انني مريضة ولن احيا طويلا..
قلت مبتسما: وما ادراك؟.. هل تعرفين الغيب؟..
قالت وهي تشيح بوجهها بألم: لا.. ولكنه الواقع الذي علي ان اتقبله.. اعرف ان مرضي هذا لا شفاء منه.. وان نهايته هي الموت..
قلت محاولا تهدئتها: لا تقولي هذا .. من يدري .. هناك اشخاص اصحاء لا يعيشون لأكثر من عشرون عاما.. بينما يعيش اشخاص فقدوا الامل بالحياة لأكثر من ستون عاما..
لمحت الدموع تترقرق في عينيها وقالت: اتحاول ان تمنحني بعض الامل.. أعلم انني سأموت قريبا..
عقدت حاجبي وقلت: من يدري ربما اموت انا بعد لحظات من الآن..
قالت مايا باستنكار: لا تقل هذا..
قلت وانا اتطلع اليها بحنان: وانت ايضا لا تقولي مثل هذا الكلام التافه مرة اخرى.. لا تفقدي الامل يا مايا.. اتعدينني؟..
اومأت برأسها ومن ثم ضغطت على كفي الممسكة بكفها بحنان وقالت بصوت هامس ودافئ: اعدك..
************
تطلع عماد بابتسامة واسعة الى ليلى التي انتهت من عملها أخيرا.. وقال: وأخيرا.. لقد كدت ان انام..
قالت ليلى مبتسمة: لم يطلب احد منك انتظاري.. انت من فعل..
- الا ترين انه من الواجب عليك شكري بعد ساعة كاملة من الانتظار..
قالت ليلى مداعبة: ربما كان من الواجب علي لو انني انا من طلبت منك الانتظار معي..
قال عماد وهو ينهض من على مقعده: حسنا لا بأس في المرة القادمة انت من سيطلب بقائي معك..
قالت ليلى مبتسمة: من قال هذا؟..
غمز لها عماد بعينه وقال: سنرى.. والايام بيننا..
واردف بهدوء: هيا لنغادر الآن..
اومأت ليلى برأسها وهي تنهض من خلف مكتبها وتسير الى جواره.. الى ان وصلا الى مواقف السيارات.. وهناك سألته ليلى قائلة:الى أي مطعم سنذهب؟..
قال عماد مبتسما: انها مفاجآة ..
قالت ليلى بحيرة : ولكن هكذا لن استطيع ان اتبعك بسيارتي..
قال عماد وهو يفتح باب السيارة المجاور له: هل تسمحين اذا ان اوصلك انا الى هناك؟..
ظهر التردد جليا على وجهها فقال عماد بابتسامة حانية: الا تثقين بي؟..
تطلعت له ليلى ومن ثم قالت وهي تلمح ابتسامته الحانية: على العكس.. انت اكثر الشباب نبلا على وجه الارض بالنسبة لي..
ابتسم عماد وقال: اشكرك.. ان كلماتك هذه تسعدني..
ابتسمت ليلى واقتربت من سيارته بهدوء لتدلف اليها .. ويدلف عماد بدوره على مقعد القيادة وينطلق بالسيارة ...
************