عجوزٌ حمقاء تبدأُ جولتها بعد منتصف الليل ، بثوبِها الأسود الرثّ وحذاؤها الهادئ الممزّق وغُبارٌ ما زالَ عالقاً على جسَدِها توارثتهُ عبرَ السنين.
تنثرُ الرماد على عتباتِ البيوت وفي الأزقّة ، وتهمسُ همساً باهتاً غيرمفهوم.
خُيّل إليّ أنها قادمة من زمن الأساطير البائدة ، تريد أن تطرد أرواحاً لا ترغبُ بوجودهم ، أو ربّما تُقدّم الزاد لأرواحٍ ترغبُ ببقائهم.
تُشعرُكَ بحالةٍ من الترقّبِ والذهول ، بخطواتها السريعة الهادئة وملامح وجهها المُرعب.
ولطالما حرصتْ على أن لا يراها أحد ، رُبّما اجتناباً لإبطالِ مفعولِ عملها، أو حرصاً منها على عدم إيذاء من يراها .. ورُبّما لسببٍ آخر أجهله.
تجعلكَ تدور في حلقةٍ مُفرغة أنتَ تسأل وأنتَ فقط من تتوقّع الإجابة ..
" الساحرة " هذا اللقَب الذي يُنادونها بهِ منذ أن وعيت على هذهِ الدنيا ، لقبٌ يدبّ فيهِ الآباء الرُعب في قلوبِ أبنائهم للإبتعاد عن الرذيلة ، لقبٌ عندما تسمع بهِ يجعلك تُثابر في دروسك من أجلِ الهروب من القرية للدراسة في الجامعة في إحدى المُدن ..
خوفاًَ منها وبُغضاً لها.
جميع القُرى المُجاورة يحسدون أبناء قريتنا ، فلدينا الطبيب والمهندس والمحامي والمعلّم .. وهُم لا يملكون شيئاً ، غير مدركين السبب الحقيقي الذي جعلَنا هكذا .
على الرغم من الكمّ الهائل من الثقافة الذي نحظى بهِ ما زلنا نهرع إلى بيوتنا قبل منتصف الليل ونُحكم إغلاق أبواب بيوتنا كي لا نُزعج الساحرة في آداء تعويذتها اليوميّة على أفضلِ حال.
الرحيل من القرية.. عبارة تجعلكَ تشعر بالسرور ، واستطاع البعض منّا فعل ذلك وتوجّهوا للمُدن والقُرى الأُخرى لينعموا براحةِ البال.
ومع مرور الأيام أصبحت فكرة الرحيل من القرية نقشاً في عقولِ أبنائها ،وسرعان ما رحلَ عنها مُعظم مَن كان فيها.
لم يتبقّى سوى أُناسٌ قليلون ، اعتادوا على هذهِ القرية وأرضها الطيّبة المعطاءة وهواءها النقيّ العليل ، لم يستطيعوا مُغادرتها رغم الهلع الذي تُحدثهُ الساحرة كلّ ليلة.
بقيتُ وأُمي معَ الباقين ، رغماً عنّي ..
أُحاول إقناعها بالرحيل وتأبى ذلك على الدوام.
مررتُ بفترةٍ عصيبة تراودني فيها الكوابيس ، أرى الساحرة قادمةً نحوي تُريد قتلي ، أراها تلفّ بكلتا يديها حول عنقي تريد خنقي ، وأحياناً تجثو على صدري .. وأستيقظُ من نومي صارخاً طالباً النجدة ، فتمسحُ أُمّي بيدها على جبيني ورأسي وهي تقرأُ آيات من الذكر الحكيم ، فأستغرقُ في النوم حتى الصباح.
بدأتُ أشعرُ بالإعياء جرّاء تلك الكوابيس المُتكرّرة ، وبدأت حالتي تزدادسوءً يوماً بعد يوم ، وحين أسمع بإسمها أبدأُ بالإرتجاف والعرق يتصبب من كلّ ناحيةٍ وصوب ، فتشعرُ أُمي بالغضب مني على ذلك ، وتقولُ لي : أنتَ رجل .. والرجال لا يهابون شيئاً سوى الله ..
ولكنّ خوفي الشديد انتصرَ على كلماتِ أُمّي.
" الليلة ستكون نهايتها .. " كلماتٌ نطقَت بها أُمّي في حالةٍ من العزمِ والثبات ، فضحكتُ من قولها ، فقالت : اصبر وسوف ترى ..
لم آخذ كلماتها على محمل الجد إلا عندما رأيتها تأخذ بيدها سكيناً تنتظرُ انتصاف الليل للخروج إلى الساحرة ..
رجوتها ألا تفعل ذلك والدموع تتساقط على وجنتيّ خوفاً على أمّي ، ولكنّها لم تستجب لرجائي .. وانتصفَ الليل
.
.
خرجَت أُمي من البيت ، وخوفاً مني على عِرضي ، سرتُ وراء أُمي يتخبّطني المس ، رافعةً يدها تلوّح بالسكين وتصرخ : أين أنتِ أيتها الساحرة العجوز ..؟
وما هيَ سوى لحظات قليلة وتراءت لنا من بعيد ..
تسمّرت قدماي ، ولم أعُد أقوى على الحِراك ، أمّا أُمي بدأت تخطو نحوها بعزمٍ وثبات ، قلتُ في نفسي : يا لشجاعتها ..
والساحرة في مكانها تنتظرُ قدومها .. وخطوة ثمّ أُخرى ، اقتربت أُمي من الساحرة ، ثُمّ أسرعت تريد الإجهاز عليها ، فوقعتُ حينها مغشيّاً عليّ .
استيقظتُ وأنا مُلقى على سريري ، أُمي بجانبي ، وأهل القرية يملأون المكان ، فرحتُ لرؤيةِ أُمي ، اعتقدتُ أنها ستموت على يدِ الساحرة .. وسألتُها : هل قتلتيها ..؟
فقالت : لا يا ولدي ، ما إن اقتربتُ منها حتى ولّت هاربة ، انطلقتُ وراءها ، ولكنّي لم أستطع اللحاقُ بها ، ولكني سمعتها تقول : الآن انتهيتُ منكم ، سأذهب لأدبّ الرُعب في قلوب القُرى الأُخرى ..
فوجئتُ بكلام أُمي .. والتزمتُ الصمتْ .
منذُ تلك اللحظة لم نعُد نراها على الإطلاق ، أبوابنا مشرّعة حتى الصباح دون خوفٍ أو قلق .
عادت الروح إلى القرية ، الأطفال يلعبون ويمرحون ، ونجتمعُ نحن الرجال بعد منتصف الليل نتسامر ونبدأُ بالضحك حين ينطقُ أحدنا بإسمِ " الساحرة " .
لم يعُد هناك أيّ شئ يُخيفنا في هذهِ الدُنيا .
وهكذا كانت النهاية على أجملِ ما تكون.
***
بعد ذلك تزوّجت ، وعشتُ حياة ملؤها السعادة ، ورُزقت بأطفال .. دائماً ما نجتمعُ سويّاً بعد منتصف الليل لأقصّ عليهم " قصة الساحرة " .
أُكرّرها على مسامعهم كلّ ليلة ، لعلّهم يفهمون .
قلب إنسان