واحدة من اعرق الحضارات التي ظهرت على وجه الأرض..

بلاد الرافدين هي المنطقة الممتدة بين نهري دجلة والفرات، وتعرف اليوم باسم العراق، يتكون شمالها من أراضٍ جبلية صعبة المسالك، بينما يتكون جنوبها من سهل رسوبي نتيجة الفيضانات، تشرف على طرق التجارة بين الشرق الأقصى والبحر المتوسط.
إذا كانت مصر مدينة لنهر النيل، فإن حضارة بلاد الرافدين مدينة لنهري دجلة والفرات، وقد تعاقبت على المنطقة عدة دول كبرى هي: سومر، و أكّاد و بابل و أشور و بابل الثانية(الكلدان)، وفقدت المنطقة استقلالها سنة539ق.م على يد الفرس.

عرفت بلاد الرافدين أيام السّومريين نظام المدينة - الدولة، فكانت مدن لاغاش و أور، و أومّا، و أورك، وغيرها تمثل دولا مستقلة. ونتيجة للصراع بين هذه المدن تمكن الأكّاديون من توحيدها في مملكة واحدة لها عاصمة مركزية. نتج عن توحيد البلاد، خاصة ايام الأشوريين والبابليين، قوة سمحت بالتوسع وبناء إمبراطورية شملت المناطق المجاورة مثل سوريا وفلسطين وجنوب شرق تركيا ومصر. اقتضت ضرورة الحفاظ على وحدة البلاد و الدفاع عنها، العناية بالجيش الذي بلغ أوج قوته في العهد الأشوري، حيث استخدم الأسلحة الحديدية كالسهام و الرماح و السيوف و الدروع و العربات الحربية التي تجرها الجياد.
كان الملك في بلاد الرافدين يحكم شعبه حكما مطلقا، معتبرا نفسه نائبا عن الآلهة، ويساعده عدد من الموظفين. كان على رأسهم في العهد الأشوري الوزير و قائد الجيش.

إن التطور الذي بلغه مجتمع ما بين النهرين، و خاصة في العهد البابلي، أوجب تنظيمه بقوانين عامة، و هذا ما فعله حمورابي، أشهر ملوك بابل(1792-1750ق.م)، في قانونه المشهور المؤلف من282مادة، و المستمد من الأعراف السابقة لسكان ما بين النهرين، تناول هذا القانون مجالات الحياة المختلفة كالزراعة و التجارة و العمل و الأسرة و الجرائم و العقوبات، وبيّن طبقات المجتمع المؤلف من الأحرار و المساكين و العبيد، و التي لم تكن متساوية في الحقوق و المعاملة.

تعددت الآلهة في بلاد ما بين النهرين، و ومنها الإله شمش، إله الشمس، و الإله سين إله القمر، و الإله نبوَّ إله الحكمة والمعرفة، و الإله أشور إله الحرب، و اعتقد الناس انها تحكم البلاد و الناس، و انها مصدر الخير و الشرّ، و أن عبادتها تطيل العمر و تخلّد
الروح. و قد كان المعبد أعظم بناء في المدينة، فيه تقام الحفلات و الاعياد الدينية، و تودع السجلات والعقود، و فيه يتوج الملك، الذي يعتبر كبير الكهنة، انتظم الكهنة في فئات كثيرة اشهرها: السَّحرة، المنجمون، المرتِّلون. ويتميزون بالزي الخاص و النفوذ الواسع.

ترك سكان بلاد الرافدين تراثا أدبيا ةعلميا وفنيا ضخما، يعود الفضل في الإحتفاظ به سالما حتى الآن إلى مكتبة آشور بانيبال في مدينة نينوى، التي تضم آلافا من ألواح الطين كتبت بالخط المسماري.
تعتبر ملحمة جلجميش من بين أعظم مآثرهم الأدبية، التي تحكى بأسلوب رائع قصة الطوفان، و في ميدان العلوم برعوا في رصد الكواكب والنجوم، فتعرفوا على ظاهرة الكسوف والخسوف، و وضعوا جداول لحركة الشمس والقمر في دورتيهما اليومية والسنوية، وقسموا السنة إلى12شهرا، والشهر إلى أسابيع، واليوم إلى24ساعة، و الساعة إلى دقائق وثوانٍ، كما اخترعوا مقاييس الأطوال والأوزان والمكاييل، و قسّموا الدائرة إلى360درجة، وحسبوا مساحة المثلث، و المربع وحجم متوازي الأضلاع و المخروط، و اهتموا بالدراسات الجغرافية، و تصوروا الأرض عبارة عن نصف كرة، و رسموا خرائط للمدن على جانب كبير من الدقة، و اقترن الطب عندهم في بداية الامر بالسحر، فكانوا يعتقدون أن المريض قد تخلت عنه الآلهة، و سكن الشيطان جسمه، فيحاولون طرده يتلاوة التعاويذ، ثم تطورت العناية بالطب في عهد البابليين، فأصبحت ممارسة الطب مرتبطة بالحصول على شهادات علمية.
وفي فن العمارة تعتبر الزيقورات، وحدائق بابل المعلقة عجائب هندسية شيّدوها بالطين المجفف، الذي لم تكن له صلابة الحجر، وهذا ماعرض مبانيهم للإندثار، على عكس الآثار المصرية التي قاومت الزمن.
وكان الفن قائما على خدمة الدين، فنحتوا التماثيل، و تفننوا في حفر الصور والنقوش البارزة على الحجارة و الآجر الملون و العاج والمعادن. و تميّز الآشوريون بالمهارة في رسم الحيوانات، و إبراز حركاتها مثل الثيران المجنّحة التي تمثل الأرواح الصالحة، والأسُود التي كانت توضع عند مداخل القصور كتعاويذ لحمايتها من الجنّ و الشياطين ولإدخال الرّهبة في قلوب الناس.