فيا ليتكم تأتون بالكلمات
فيا ليتكم تأتون بالكلمات
من ينظر إلى الواقع المعاش اليوم يجد أن اللغة العربية الفصحى أصبحت ثقيلة على اللسان العربي, صعبة الممارسة, مخجلة تجلب الإحراج لصاحبها حين يتحدث بها, معقدة التراكيب والتطبيق عند عرب اليوم في عصر سريع يميل إلى التبسيط لا التعقيد. بل الواقع يقول إن الفصحى قد تلاشت من ألسن العرب إلا من رحم ربك.وللأسف الشديد أقول: إن هناك انبهارا كبيرا باللغة الإنجليزية نسيت معه اللغة الأم فأصبح من السهل على البعض اليوم التخاطب باللغة الإنجليزية دون العربية. وهذا ناتج عن الإعجاب المفرط بالحضارة الغربية التي ما كانت لتقوم لولا نتاج العقل والفكر العربي الذي تلقفه الغرب بلهفة كبيرة للنهوض بعد أن كانت أوروبا تعيش في عصر الظلمات
حيث ترجمت كتب المسلمين الأوائل التي حوت اكتشافاتهم واختراعاتهم إلى اللغات الغربية فكانت الشرارة التي أوقدت شعلة الحضارة الغربية.
ومعرفة أو تعلم اللغات الأجنبية وخاصة الإنجليزية أمر ملح وضروري وصل الى حد الوجوب في هذا العصر الذي أصبحت فيه اللغة الإنجليزية اللغة الرئيسية للخطاب والتواصل بين العالم في مجالات المعرفة والعلم والاتصال. لذا فلا اعتراض على ذلك. وقد تكون الأمية اليوم هي أمية من لا يعرف لغة غير لغته الأم كما يقال. ولكن محل الانتقاد هو هذا الانبهار والاحتفاء العجيب باللغات الاجنبية عند شريحة كبيرة من المجتمع العربي, على حساب اللغة الأم التي هي اللغة الوحيدة الباقية الى الأبد. فاللغة العربية لها مزية عن بقية اللغات. فمن يدرس تاريخ اللغات الاجنبية يجد في اللغة الواحدة اختلافا كبيرا وتغيرا في قواعدها بين عصر وآخر. وأذكر أن مدرس اللغة الانجليزية في الجامعة أتى لنا بنص كتب باللغة الانجليزية قبل أكثر من سبعة قرون, وما استطعنا أن نقرأه ونفهمه, فجل الكلمات المستخدمة قد تلاشت ولا وجود لها في هذا العصر. بينما باستطاعتك أن تقرأ وتفهم في الوقت نفسه ما كتب في عصر النبوة قبل اكثر من أربعة عشر قرنا, بل وما قبل ذلك بكثير. ولعل السبب الجوهري في ذلك هو أن حفظ اللغة العربية مرتبط بحفظ الله للقرآن حتى قيام الساعة.
ومع ذلك تعرضت اللغة العربية إلى حرب ضروس ومنظمة كان المراد منها إبعادها عن المجتمع العربي وإقصاءها عن لغة الخطاب. والكل يعلم عن الحملة التي قامت في مصر من أجل إحلال العامية مكان العربية الفصحى في المناهج الدراسية وإيجاد معاجم تحوي الكلمات العامية لكل قطر مصري تغني عن الفصحى, كذلك الحملة التي قامت من أجل إعادة النظر في قواعد النحو العربي وإيجاد نحو جديد وحذف النحو القديم وهي حملة كان المراد منها النيل من القرآن أولا وأخيرا عن طريق استهداف اللغة العربية. كذلك كان من أهم الأعمال التي قام بها أتاتورك بعد سقوط الخلافة العثمانية هو استبدال الحروف العربية التي تكتب بها اللغة التركية بحروف لاتينية, ومنع الأذان للصلاة باللغة العربية. ومع ذلك ذهب أتاتورك وبقيت العربية.
وهناك اعتقاد دائما ما يطرح ويتداول وهو ان اللغة العربية غير قادرة على مواكبة هذا التطور الكبير والسريع في عالم اليوم والتفاعل معه التفاعل الايجابي وخاصة في مجالات التقنية الحديثة. فكثير من المصطلحات العلمية المستحدثة بلغات أجنبية لا يوجد ما يقابلها بالعربية. ولعل في هذا الكلام شيئا من الصحة ولكن هذا التراجع ليس ناتجا عن تخلف اللغة العربية بقدر ما هو ناتج عن تخلف الناطقين بها عن اللحاق بركب العلم والتطور الحضاري. وناتج كذلك عن تشرذم العرب وسقوط هيبتهم في هذا العالم, ومن تلفت دولتهم وغلب عليهم عدوهم ربما كان ذلك سببا لذهاب لغتهم كما يقول ابن حزم. لذا فالعيب ليس في اللغة التي لم تنغلق على ذاتها ولكن العيب في رجالها الذين لم يؤلوها جل اهتمامهم وحرصهم.
والحاجة ماسة اليوم الى تعزيز دور اللغة العربية في المجتمع العربي وخاصة في مجال العلم والمعرفة، ورصد السبل والآليات التي تمكنها من التجديد والتفاعل مع مستجدات العصر والانفتاح على الثقافات الأجنبية. ولعل من الأمور الهامة في هذا المجال الاعتناء بالترجمة التي هي سر التفوق الحضاري بلا شك. فهي رافد من روافد اللغة وسبيل من سبل الرقي والتقدم. ومجمعات اللغة العربية لها أعمال لا بأس بها لكنها ليست بالقدر المطلوب حيث لم تستطع حتى الآن مواكبة تطور العلم و المعرفة بشكل مرض. ولعل دعم هذه المجمعات بكل الطاقات المادية والمعنوية من شأنه ان يقوي من نشاطها ودورها الريادي في عالم الترجمة. كذلك يجب ألا أن نقف موقف المستهزئ المنتقد فقط من هذه الأعمال كمثل ذلك الرجل السلبي الذي حينما ترجم المجمع الساندويتش إلى (شطيرة) سماها هو (شاطر ومشطور وما بينهما طازج) تندرا على هذه التسمية. كذلك استخدام اللغة العربية في المجالات التي تغيب عنها كالتعاملات الإدارية وخاصة في الشركات والمؤسسات التي تتخذ من اللغة الإنجليزية لغة خطاب رسمي, وتدعيم تعلم اللغة الفصحى في المدارس والجامعات. وفتح مدارس او مراكز تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها في البلد. وهذا فيه دعم كبير للعربية بلا شك وحل لكثير من المشاكل اللغوية التي نعاني منها في حياتنا اليومية وخاصة في تعاملاتنا مع الأجانب. فما هو المبرر مثلا ان تخاطب سائق سيارتك أو خادمتك المنزلية باللغة الإنجليزية او تضطر الى (تكسير) قواعد اللغة العربية لمخاطبتهم على غرار (انت فيه روح, انت في شيل , انت لازم فيه نزل, انت لازم في سوي شغل كويس), والقائمة تطول من الأمثلة المضحكة. يقول صديق غربي: إنه مشتاق لتعلم اللغة العربية ولكنه لم يجد من يسنده, فاللغة الرسمية في الشركة هي اللغة الإنجليزية, وكل زملائه السعوديين في العمل يتحدثون معه باللغة الإنجليزية, فلا مجال لديه لتعلم العربية. ويتمنى لو وجد مركزا متخصصا يتيح له هذه الفرصة.
أخيرا, يقول الشاعر الكبير حافظ إبراهيم مدافعا عن لغته العربية:
وسعت كتاب الله لفظا وغاية
وما ضقت عن آي به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة
وتنسيق أسماء لمخترعات
أرى لرجال الغرب عزا ومنعة
وكم عز أقوام بعز لغات
أتوا أهلهم بالمعجزات تفننا
فيا ليتكم تأتون بالكلمات
|