القدس بحاجة إلى العرب أكثر من أي وقت مضى القدس التي تكاد تشعل صراعاً واسعاً بسبب الحفريات الإسرائيلية في الحرم القدسي اليوم، كانت دوماً المكان الأشد حساسية في الصراع العربي - الإسرائيلي بحكم موقعها المقدس. ففي المقدس تتراجع القدرة على المناورة السياسية إلى حدها الأدنى، فلا يمكن المساومة في المقدس، وأي مس للمقدس يدفع للتصادم في المدينة. فإذا كانت القضية الفلسطينية تشكل جوهر الصراع العربي - الإسرائيلي، فإن مدينة القدس تشكل قلب هذه القضية. وبحكم موقع القدس في قلب الصراع لم يكن غريباً أن كانت السبب الرئيسي في فشل قمة كامب ديفيد في نهاية عهد الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، وليس غريباً أن تكون الفتيل الذي فجر الانتفاضة الفلسطينية الأخيرة، التي عرفت باسم "انتفاضة الأقصى" والتي كان فتيلها تدنيس أرييل شارون للحرم القدسي. عندما استعصت قمة كامب ديفيد الفلسطينية - الإسرائيلية - الأمريكية في عام 2000 حول مشكلة القدس، اعتقد الرئيس كلينتون أنه يستطيع الاستعانة بالملوك والرؤساء العرب من أجل الضغط على الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، لتليين موقفه من الاقتراحات الأمريكية - الإسرائيلية التي تُبقي المدينة تحت السيادة الإسرائيلية. متعاطياً مع المدينة المقدسة باعتبارها موقعاً يمكن المساومة عليه بالطريقة التجارية، ومن خلال حسابات جمع وطرح وتقسيم للمدينة المحتلة تُعطى "إسرائيل" السيادة على المدينة على حساب الحقوق الفلسطينية. واعتقد كلينتون أيضاً، أن الموقف الفلسطيني الرافض لأي تنازل في المدينة، هو موقف فلسطيني أحادي لا يشاركهم العرب فيه، وأن العرب يمكن أن يمارسوا ضغوطاً على عرفات لتغيير موقفه. والغريب في موقف الرئيس الأمريكي أنه اعتقد أن هناك بين الـزعماء العرب من يستطيع أن يأخذ على عاتقه التنازل أو الضغط من أجل التنازل عن المدينة المقدسة بالنسبة للعرب والمسلمين. وكان الغضب والدهشة هما اللذان أصابا الرئيس الأمريكي عندما أبلغه القادة العرب، أنهم يدعمون الموقف الفلسطيني من المدينة، وأنه لا حل للمشكلة الفلسطينية ولا سلام في المنطقة، إلا بانسحاب إسرائيلي من الأراضي المحتلة في عام 1967 وعلى رأسها القدس. ومن المفارقات التي أفرزها الطلب الأمريكي من الـزعماء العرب الضغط على الفلسطينيين، أن أعادت تأكيد موقف الدول العربية بشكل واضح من القدس ومن إجمالي المطالب الفلسطينية. وكان الطلب الأمريكي الفرصة المناسبة للتعبير عن الدعم العربي للموقف الفلسطيني، والتأكيد للإدارة الأمريكية أنه لا يوجد زعيم عربي قادر على تحمل مسؤولية الطلب من الفلسطينيين تقديم التنازلات في القدس. لم تكتف الإدارة الأمريكية في حينها بالموقف العربي الذي أبلغه الزعماء العرب للرئيس كلينتون، بل اتخذ موقفاً تصعيدياً، بالحديث عن نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، الذي وجد الإدانة العربية بانتظاره. وبعد القمة أرسلت الإدارة الأمريكية مساعد وزيرة الخارجية إدوارد ووكر لشرح الموقف الأمريكي من كامب ديفيد ومحاولة منها لإقناع الدول العربية بتغيير موقفها من مدينة القدس، وخلال جولته، أعادت الدول العربية التأكيد على موقفها وتم إبلاغ موفد الرئيس الأمريكي، أن الموقف العربي من القدس لا يمكن تغييره. وكان أن سمع مواقف أكثر تشدداً على المدينة حيث أبلغ خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله ووكر أنه: "لا يمكن تحقيق سلام دائم وعادل في منطقة الشرق الأوسط ما لم تنسحب "إسرائيل" من كافة الأراضي العربية التي احتلتها في يونيو عام 1967 وفي مقدمتها القدس الشريف واعتبارها عاصمة لدولة فلسطينية مستقلة"، وزاد الملك عبدالله بن عبد العزيز عندما كان ولياً للعهد السعودي أن طلب من ووكر إبلاغ الإدارة الأمريكية أنه "لا حل للقضية الفلسطينية من دون عودة القدس إلى السيادة الفلسطينية طبقاً لقرارات الشرعية الدولية وأن القدس هي لب المشكلة وجوهر النـزاع في الشرق الأوسط" "الصحف 3/8/2000". وهو ما كان قد أكده بيان مجلس الوزراء السعودي الذي انعقد قبل يومين من زيارة ووكر للسعودية. لقد أغضبت المواقف العربية وعلى رأسها الموقف السعودي الإدارة الأمريكية، وبدأت بعد قمة كامب ديفيد ممارسة الضغوط على الفلسطينيين وعلى الدول العربية. حيث تعرضت مصر في ذلك الوقت إلى حملة واسعة في الصحافة الأمريكية عقاباً لها على موقفها من القدس، ووصلت الحملة إلى حد مطالبة بعض كبار كتّاب الصحافة الأمريكية بالطلب من الإدارة الأمريكية وقف المساعدات الأمريكية إلى مصر عقاباً لها على موقفها، وهي حملة هدفها ابتـزاز مصر والضغط عليها بعد دعم الموقف الفلسطيني في مفاوضات كامب ديفيد وعدم الاستجابة للطلب الأمريكي بممارسة ضغوط على الفلسطينيين. في كل مرة تتعرض القدس إلى مخاطر، يثبت أنها مشكلة تتجاوز الفلسطينيين إلى العرب والمسلمين، وأنها مسؤولية عربية وإسلامية قبل أن تكون مسؤولية فلسطينية. وهي تحتاج إلى موقف عربي وإسلامي موحّد للتعامل مع الصلف والعنجهية الإسرائيلية والدعم الأمريكي المنحاز إلى "إسرائيل". لقد شكلت المواقف العربية دعماً صريحاً للموقف الفلسطيني، وحاضنة طبيعية للتمسك بالحقوق الفلسطينية التي أقرتها الشرعية الدولية. واليوم تحتاج القدس إلى مزيد من الدعم العربي ونحن على أعتاب قمة عربية، والتي عليها أن تعمل على حماية المدينة من المخاطر التي تواجهها. فالحقوق الفلسطينية في المدينة المقدسة بحاجة إلى الحماية من الاعتداءات الإسرائيلية، وهذه الحماية التي يمكن للعرب توفيرها هي التي تحمي المدينة ومستقبل المنطقة، وتعيد الاعتبار للعرب كطرف فاعل وأساسي في رسم صورة منطقتهم. * كاتبة فلسطينية |