عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 12-30-2010, 12:42 PM
 
Thumbs up دعاء الكروان ( نزف قلم : محمد سنجر )

( فتح صديقي نافذة غرفة مكتبنا المغلقة منذ شهور،
تسلل صوت دعاء الكروان من فوق سطح إحدى البنايات ،
داعب قلبي المتحجر ،
فتح برفق أبوابه الموصدة ،
تسرب حنين الذكريات بين حناياه اليابسة ،
أحسست برغبة في التقاط أنفاسي ،
امتدت أصابعي إلى ربطة عنقي التي أحكمت الخناق حوله تفكها ،
أزحت لوحة مفاتيح الكمبيوتر بعيدا و انتفضت واقفا ،
أتاني صوت صديقي )
ـ على فين يا ريس ؟
ـ مروح .
ـ طب ما لسه بدري ، استنى الساعتين دول و نروح سوا .
ـ لا كفاية كده قوي ، أنا رايح البلد .
ـ أيوة يا عم ، رايح تبل ريقك ؟ أمـــــوت و أشوفها .
ـ هي مين دي إن شاء الله ؟
ـ أيوة ياله استهبل استهبل ، البت اللي بتخليك تسيب اللي وراك و اللي قدامك و تجري تروح لها ....
( قلت بينما أرتدي معطفي )
ـ و الله ما أنت فاهم حاجة ، سلام ...
ـ طب و الشغل المتلتل على رأس أبونا ده ؟
ـ إياكش يولع بجاز .
ـ طب أقول إيه ل (عز ) بيه ؟
ـ قول له مات ، جت له شوطة خدته ، اتصرف ، دي مشكلتك أنت ....
( انطلقت خارجا ،
تسللت من تحت الكتل الخراسانية التي طبقت على صدري لسنوات ،
أدفع هذه الأبواب المعدنية الميتة من طريقي ،
أخرج إلى الشارع أستنشق نسيم الحرية ، أملأ صدري ...
أخذت أسعل بشدة ، ملأ صدري عادم السيارات اللعينة ،
هذه الصناديق المعدنية المحمولة على عجلات ،
تنفث سمومها طوال اليوم فتحيل الحياة جحيما ،
نظرت إلى هذه الغيمة من أبخرة البنزين التي حجبت الرؤية حولي ،
وضعت منديلي فوق أنفي و جريت فارا بنفسي ،
صرخات أبواقها أخذ يلاحقني ،
تسللت يدي بسرعة إلى جيبي ،
انتزعت قطعا من منديل ورقي أحشو بها أذني ،
حاولت الابتعاد عن هذه الطرق الإسفلتية السوداء ،
صعدت أول جسر لعبور المشاة ،
هبطت الناحية الأخرى عند محطة القطار ،
جريت ألحق بالقطار الذي بدء يتحرك بالفعل ،
جلست بجانب النافذة أنظر إلى هذه المكعبات الجامدة ،
أخيرا فلتنا من بين فكاك المدينة الموحشة ،
تسلل بنا القطار برفق بين الحقول ،
حملتني الذكريات فوق جناحيها تسابق القطار ،
هبطت بي بين حقول الطفولة ،
وجدتني محمولا على كتفيه ،
سألته على استحياء )
ـ على فين يا با ؟
ـ مش كان نفسك تعوم ؟
ـ آه ....
ـ طيب خلاص ها أعلمك ....
( انهلت على رأسه أقبلها غير مصدق )
ـ بجد يا با ؟
ـ أنا عمري وعدتك بحاجة و خلفت ؟
ـ عمرك .
ـ طيب خلاص .
( وقف فوق الجسر الخشبي و صرخ )
ـ يلا عوم .
( قذفني في الماء ، صرخت )
ـ لأ يـــا بـــــــــــــــــــا ، ما بعرفش أعــــــــوم .......
( ارتطمت بالماء و غصت أغرق ،
انسحبت روحي ، حبست أنفاسي ،
أخذت ألوح بيدي و قدمي يمينا و يسارا ،
فجأة أحسست بشيء يرفعني لأعلى ،
وجدتني أطفو فوق سطح الماء ،
وجدته يحملني فوق ساعديه )
ـ ما تخليك راجل أمال ...
( حاولت لملمة الحروف )
ـ أصل ... أنت .... رميتني فجأة ... ما كنتش واخد بالي ....
ـ ما هو لازم كده عشان تتعلم .... يلا حرك أيدك و رجلك ....
( أخذت ألوح بيدي و قدمي بينما يحملني على ساعده ،
فجأة ،
وكزني الجالس جواري بالقطار )
ـ إنت نازل فين يا أستاذ ؟
( أفقت على تحرك القطار ثانية )
ـ شربين .....
ـ ما هي دي شربين ، إلحق انزل بسرعة....
( نظرت حولي فإذا بالقطار يتحرك ،
جريت إلى الباب بينما صرخ الجالسون )
ـ حاسب يا اسطى .....
( قفزت من القطار بسرعة ،
تابعني بعض الركاب مطمئنين ،
الحمد لله نزلت بسلام ،
رفعت يدي ملوحا متمنيا لهم السلامة ،
انتظرت حتى مر القطار ، عبرت السكك الحديدية ،
انزويت من بين الأشجار إلى طريق ترابي صغير ،
متسللا بين الحقول ،
أحسست ببرودة بعض قطرات ماء تتساقط على وجنتي ،
نظرت إلى السماء و إذا بالمطر و قد بدء يهطل على استحياء ،
طارت العصافير و الحمائم تحتمي بأعشاشها ،
رائحة المطر تداعب أنفي ،
عبقت رائحة الأزهار الكون من حولي ،
ازداد المطر هطولا ،
انزويت محتميا بإحدى الأشجار ،
أخذ المطر يتساقط بغزارة ،
ضممت المعطف طلبا للدفء ،
أخذت أتابع القطرات التي بدأت تتجمع حتى سالت خلال قنوات صغيرة إلى المستنقعات المنخفضة حول الأشجار ،
بدأت المياه ترتفع من حولي ،
ما العمل الآن ؟
تسربت المياه إلى داخل حذائي ،
هل سأبقى هكذا ؟
على ما يبدو أن المطر لن يتوقف ،
عندها عزمت على تكملة رحلتي تحت الأمطار ،
تحركت في اتجاه بلدتنا التي تتوارى خلف الحقول في الأفق هناك ،
حاولت التقدم بين الأوحال ،
مع كل خطوة أجتهد لنزع حذائي من بين الطين ،
فلتت قدمي اليمنى من الحذاء الذي أطبق الوحل عليه فظل ثابتا دون حراك ،
غاصت قدمي في الطين ،
لا حول و لا قوة إلا بالله ،
عدت ثانية محاولا استرداد الحذاء فإذا بقدمي الأخرى تفلت لتغوص هي الأخرى ،
لم استطع السيطرة على ضحكاتي فانطلقت تقرقع في الفضاء ،
حملت الحذاء بيدي و رحلت أكمل طريقي ضاحكا ،
حاولت الصعود للأماكن المرتفعة التي لم يغرقها الماء بعد ،
فجأة ، انزلقت قدمي ، اختل توازني ، فسقطت ممددا في الوحل ،
ارتطم وجهي يغوص بالطين ،
انفجرت في الضحك ،
لم أجد أمامي بد من الفرار ،
عندها انقلبت ممددا على ظهري بالوحل أضحك ،
اغتصب سمعي صوت جرس هاتفي المحمول ،

حاولت الجلوس حتى نجحت ،
أخرجت الهاتف من جيبي ، دست مفتاح الاتصال ، وضعته على أذني )
ـ نعم .
( جاءني صراخ صديقي )
ـ محمد ، تعالى بسرعة عشان (عز) بيه جه و قاعد يزعق و قالب الدنيا ............
( عندها ، أخذتني نوبة من الضحك ، فألقيت بهاتفي في المياه المتجمعة حولي ،
لكنه طفا فوق سطح الماء فسمعت طلاسم صوت صديقي )
ـ بللق ... بللق .... بللق ....

( أخذتني نوبة من الضحك )
ـ اسكت أحسن لك .... هاهاها ....
ـ بللق .... بللق ....
ـ ما فيش فايدة ؟ طيب ، تستاهل بقى اللي يجرى لك ....
ـ بللق .... بللق ..... بللق ....
( أمسكت بالهاتف مرة أخرى و أغرقته بالقاع داخل الطين )
ـ بس بقى ، إنت إيه ؟ ما بتزهقش ؟ ما تبس بقى ، بس ، بس .......
( أخيرا اختفى صوته ،
تحسست الطين حولي ألتمس حذائي حتى نجحت فرفعته ،
فإذا به و قد ملأه الماء و الطين ،
رفعته أفرغ ما فيه فوق رأسي ،
فسال على وجهي و جسدي ،
أخذت أردد ما قاله صديقي إيليا أبو ماضي )
ـ نسى الطين ساعة أنه طين حقير فصال تيها و عربد ........

( يتبع )