دعاء الكروان ( 3 )
( رحلت إلى دار أبي حذرا محاولا التركيز و الانتباه حتى لا أنزلق فأقع مرة أخرى ،
من أين ستأتي نبوية بجلباب آخر ؟
أخذت أتحسس الخطى بأطراف أقدامي ،
كلما تقدمت خطوة بقدم ثبتها جيدا بالأرض حتى أتقدم بالأخرى متأنيا ،
و إذا بي أمام دار خالتي ( ليلى ) ،
آآآآآآه ، ما العمل الآن ؟
لو رأتني لن تتركني أرحل ،
دعوت الله ألا تكون جالسة في شرفتها كعادتها ،
وقفت مستترا بشجرة ( الجميز ) التي أمام دارها ،
ألتمس النظر من وراء الغصون و الأوراق ،
لاااااااا، كما توقعت ، ها هي تجلس على أريكتها الخشبية ،
ما العمل الآن ؟
هل أذهب إليها ؟
لا لا مستحيل ، سأتأخر عن الذهاب لوالدي ،
لن تتركني أرحل مهما اختلقت لها من أعذار ،
على الأقل ستتمسك بمصاحبتها في تناول فنجال من القهوة ،
لا ، الوقت لا يتسع لها و لحديثها الآن ،
الحل الوحيد هو الدوران من خلف دارها ،
نعم نعم ، و في المساء سأستأذن أبي و أذهب إليها ،
تراجعت حذرا حتى اختفت شرفتها ،
أسرعت أدور من خلف الدار ،
تسللت بين أعواد الذرة هناك ،
فجأة وجدت كلبا يقف في مواجهتي ،
ما إن أحس باقترابي حتى اعترض طريقي مزمجرا ،
لا حول و لا قوة إلا بالله ،
حاولت الثبات و التراجع ببطء أمامه ،
وقف الكلب متحفزا ،
ليس من الحكمة الهرب الآن ،
كلما تراجعت خطوة علا صوت زمجرته و اقترب مني أكثر ،
ظهرت أنيابه و بدأ اللعاب يسيل منها ،
سال العرق على جبهتي ،
قلبي يكاد يقفز هربا من قفصه الصدري ،
حاولت التماسك ، أخذت شهيقا عميقا و نفخته بتوتر ،
لابد من شراء وده ،
أخذت أمصمص بشفتاي ،
لا فائدة ، يبدو أنه ليس من النوع الذي يتراجع بالمصمصة ،
ما العمل الآن ؟
أصبحت في وضع لا أحسد عليه ،
بدأ يتأهب للنباح ،
لا ، إلا النباح أرجوك ،
زمجر كيفما تشاء ، و لكن إلا النباح ،
ستخرج خالتي و تراني على هذه الحالة ،
استغفر الله العظيم ،
ما العمل الآن ؟
فجأة ،
تخلى عن زمجرته و بدأ يهز ذيله و يتراجع ،
وجدت كفا تضرب على كتفي )
ـ إيه ؟ مين ؟
( التفت مذعورا ،
فإذا بابن خالتي يضحك )
ـ ههههه ، ما فيش فايدة ؟ لسه قلبك رهيف ؟
( تنفست الصعداء )
ـ حودة ؟
( تعانقنا )
ـ إيه ياعم الوحش اللي مربيه ده ؟ مش تقوله إن أنا ابن خالتك ؟ هههههه ....
ـ تعالى تعالى ، إنت كنت مزوغ كده و رايح فين ؟
ـ أصلي لسه واصل دلوقتي حالا ، و الصراحة كده يعني خفت لأمك تشوفني و تمسك فيا ، ما أنت عارفها ، قلت أروح أشوف أبويا الأول ، بس و اللي قابلنا من غير ميعاد كنت هأرجع لها بالليل على رواقة ....
ـ آآآآآه ، قول كده بقى ، هي دي برضه صفة الرحم يا متعلم يا بتاع المدارس ؟ بقى تغيب السنين دي كلها و آخرة المتمة ما تعديش تسلم عليها ؟ يا أخي دي برضه خالتك و في مقامك أمك الله يرحمها ......
ـ أنت ها تركبني الغلط و إلا إيه ؟ مش باقولك كنت هارجع لها بالليل ؟؟؟؟
ـ طب بس اسكت لتسمعنا ، دي بتسمع دبة النملة ، تعالى تعالى ....
( رجعنا إلى بيت خالتي و إذا به يتوقف خلف الدار و يلتقط بعض الحصى من الأرض و أخذ يقذف بها نافذة الدور العلوي )
ـ ثواني بس لما أطلع الحاجات دي و ألف معاك .
ـ أنت بتعمل إيه ؟
ـ هشششششش ، بس ما تفضحناش ....
( نظرت زوجته من النافذة ،
ألقت بحبل يتدلى منه حقيبة بلاستيكية ،
وضع فيها الأكياس الورقية التي يحملها ،
قال لزوجته هامسا )
ـ الحاجات اللي طلبتيها أهي ، على الله بس تيجي بفايدة ، و شوية كده و طالع لك ..
( أخذت زوجته تجذب الحبل لترفع الحقيبة )
ـ يلا بينا .
ـ إيه اللي أنا شفته ده بقى إن شاء الله ؟
ـ أصل مراتي حامل يا سيدي ، و قال إيه بتتوحم على التفاح ، فجايب لها تفاحتين أمريكاني كده على ما قسم ، تصدق بإيه ؟
ـ لا إله إلا الله .
ـ و اللي خلق الخلق ، قاعد م الصبح أدور عليه و ما لقيته غير في بورسعيد ...
ـ طب مش المفروض ، لا مؤاخذة يعني تعدي على أمك الأول ؟
ـ أيوة أيوة ، عشان التفاح يحلى في عينيها ، و ما ينوبش مراتي حاجة منهم ؟ دول يا دوب تفاحتين ، ها يكفوا مين و إلا مين ؟
ـ لأ إزاي ؟ ما يصحش طبعا ، مراتك أولى ، هههه ، هي دي بقى صلة الرحم اللي بتقول عليها ؟
ـ و النبي لا تعايرني و لا أعايرك ، طب ما أنت كمان كنت عاوز تروح لأبوك من غير ما تسلم عليها ؟ ها تسكت أحسن لك و إلا أقول لها ؟؟؟؟
ـ لأ و على إيه ؟ اتكتم أحسن .
ـ طب يلا بينا ، و ما تخافش ، ها أقول لها يا سيدي إني قابلتك ع المحطة .
( لفننا حول البيت ،
أمسك بيدي يثبتني مكاني و غمز بعينه )
ـ خليك هنا لما أعملها لها مفاجأة ....
( صعد درجات السلم المؤدية إلى الشرفة )
ـ سلام عليكم ، إزيك يا أمه ؟
ـ و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته ، إنت كنت فين م الصبح ؟
ـ ها أكون فين يعني ؟ تخيلي بقى جايب لك مين معايا ؟
ـ أكيد محمد ابن خالتك ......
ـ ده أنت ولية ناصحة ، عرفتني منين ؟
ـ إياكش تكون فاكرني قاعدة نايمة على وداني ؟ تعالى يا د يا محمد ادخل .
( عندها جريت أصعد السلم ،
فتحت ذراعيها فارتميت بين أحضانها )
ـ كده برضه يا محمد ؟ تغيب المدة دي كلها ؟ و لا كأن ليك أهل .......
ـ معلش يا أمه سامحيني ، و الله ما منعني عنكم إلا الشديد القوي .
ـ الشديد القوي ؟ يلا معلش ما كلكم طينة واحدة ، اقعد يا با اقعد ....
( وجهت حديثها لابنها )
ـ اطلع يا وله شوف مراتك عشان تعبانة م الصبح و ابقى طمني عليها .
ـ حاضر يا أمه ، محمد ، ثواني و راجع لك ...
ـ لأ ، راجع لمين ؟ أنا ها اسلم على خالتي و أمشي على طول ....
( هممت بالوقوف فأمسكت يدي )
ـ تمشي فين ؟ تلاتة بالله العظيم ما تمشي إلا لما اطمن عليك و أعملك لقمة تاكلها .
ـ لسه واكل عند نبوية دلوقتي حالا ....
ـ خلاص اقعد اشرب معايا القهوة ، و اطلع أنت يا وله اطمن على مراتك .
ـ حاضر
( جلست بجوارها ،
مدت يدها إلى ( السبرتاية ) ترفع غطاءها و تشعلها لتعد القهوة )
ـ أخبارك إيه يا أمه ؟
ـ الحمد لله بخير و نعمة و الحمد لله ، ناولني القهوة و السكر اللي جنبك .
ـ خدي ، الواد ده عامل إيه معاك ؟
( تنهدت تنهيدة طويلة )
ـ عاوزني أقولك إيه يا محمد ؟ ما هو أنتم جيل ما يعلم بيه إلا ربنا ، فاكر إني ها أقولك إني شايفاك و أنت بتلف تهرب من ورا الدار عشان ما تسلمش عليا ؟ و إلا يعني ها أقولك إني شايفاك و أنت واقف مبلول قدام الكلب في الدرة ؟ و إلا أقول لك إنه نادى لمراته عشان تحدف له ( السبت ) يحط فيه الأكل ؟ و إلا أقول لك إنه بيجي آخر الليل و بيسحب زي الحرامية على فوق عشان ما اصحاش و اشوف اللي جايبه لمراته ؟ طب إيه رأيك مش ها أقول لك ،
إنتم فاكرين إننا مختومين على قفانا ؟ و إلا مش عارفين أنتم بتعملوا إيه ؟ و هو احنا عاوزين إيه يعني ؟ بس هي الواحدة مننا يهمها إيه غير إن ولادها يبقوا متهنيين و آخر انبساط ؟ طب تصدق بإيه ؟
ـ لا إله إلا الله .
ـ و اللي خلقك ما ها تحسوا بينا إلا لما تخلفوا و يبقى لكم عيال و تشوف ابنك كده بيتنطط قدام عينيك ، و تبقى ها تتشحطط عليه و عاوز تشيله من ع الأرض شيل و نفسك تحطه في قلبك عشان خايف عليه ، و تبقى لو طايل تجيب له الدنيا دي بحالها و تحطها تحت رجليه ، بس المهم يبقى مبسوط و راضي .......
( ترقرقت الدموع في عينيها و حاولت التماسك حتى نجحت فأكملت )
إوعى تفتكر إني زعلانة منك و إلا منه ،
لأ و الله العظيم ، و لا على بالي خالص ، قوم يا با قوم عشان تروح لأبوك ، زمانه يا حبة قلبي مستنيك على نار ، بس لو قدرت ابقى عدي عليا في أي وقت هتلاقيني مستنياك .....
( ذابت الكلمات فوق لساني ، ترقرقت صورتها بعيني ،
تناثرت الحروف بين شفتاي ، حاولت لملمتها فلم استطع ،
دارت الدنيا من حولي ،
انحنيت على يدها أقبلها ، بللت دموعي كفيها ،
حاولت التماسك ،
و رحلت في طريقي إلى بيت أبي يغلفني الصمت ......... )
( يتبع )