وهذا على بن أبي طالب أمير المؤمنين أبو الحسن رضي الله عنه كان سيد الشجعان، ورائد الفرسان حضر المعارك، وجالد بسيفه، وقتل الأقران، فكان ميمون النقيبة، مبارك السيرة، طيب السريرة، مع ما كان عليه من علم غزير وفهم ثاقب، وفصاحة مشرقة وشجاعة متناهية، وزهد عظيم وإقدام وتضحية وهمة ومضاء، وعزيمة وإباء، حتى استحق هذه المنزلة بجدارة، وتأهل للمجد بحق... وهذا أبي بن كعب سيد القراء، جمع القرآن وأتقنه وحفظه، وضبط فعلم، وعلم وصدق ونصح حتى صار آية في هذا الفن، ومرجعاً في هذا الباب... وهذا الزبير بن العوام أحد العشرة، أصيب في كل شبر من جسمه في سبيل الله، فكان حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفيقه في الجنة... وسعد بن أبي وقاص أحد العشرة وخال الرسول صلى الله عليه وسلم صدق الله فكان مجاب الدعوة، ثابت القلب، فنصره الله على أهل فارس، ورفع به رأس كل مسلم، وكبت به أعداء الله فكان الأسد في براثنه... وعبد الرحمن بن عوف أحد العشرة تصدق بقافلة في سبيل الله بجمالها وحمولتها طلباً لمرضاة الله، وأنفق في كل عمل راشد مبرور... وهذا ابن عباس حبر الأمة، وبحر الشريعة وترجمان القرآن، جد في طلب العلم وحرص عليه غاية الحرص وبلغ النهاية في فهم الوحي، وتصدر لتعليم الناس، فكان عجباً في حفظه، وفهمه وبيانه وكرمه وسخائه، حتى صار إماماً للناس لما صبر وجاهد وعلم وتعلم... وهذا معاذ بن جبل، إمام العلماء طلب العلم من معلم الخير صلى الله عليه وسلم وعمل بما علمه الله فكان مثل العالم العامل المنيب المخبت الزاهد العابد، ودعا إلى الله وعلم عباده، وجاهد في سبيله، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، مع فقه عميق وخلق كريم، ورفق بالناس، وسخاء بذات يده... وأبو هريرة سيد الحفاظ، جمع الحديث حفظاً وبلغه الأمة صدقاً فكان الحافظ الأمين حقاً، قسم ليله للعبادة وتذكر الحديث والنوم، اشتغل بتعليم الناس مع الفتيا والوعظ والجهاد، والتعليم، وما ذاك إلا لسمو همته، ومضاء عزيمته، وقوة نفسه... وهذا خالد بن الوليد سيف الله المسلول كتب اسمه في سجل الخالدين بحروف من النور، وخلد ذكره في ديوان الفاتحين بأسطر من ضياء، نصر الإسلام بسيفه، وخاض غمار المعارك، يعرض نفسه الأخطار، ويقدم روحه في راحته، مستهيناً بالمصاعب، حتى صار مضرب المثل في الفداء والتضحية وسمو القدر وجلالة المنزلة، وارتفاع المحل... وسعيد بن المسيب سيد التابعين، ما فاتته تكبيرة الإحرام مع الإمام ستين سنة، وكان يمضي ثلاثة أيام مسافراً في طلب الحديث الواحد، وغالب جلوسه في المسجد، وكان مرجع الناس في الفتيا وتعبير الرؤيا، مع قيام الليل، والقوة في ذات الله، والغيرة على محارم الله، والصدق والزهد والإنابة، والسخاء والهيبة والعلم الراسخ... وعطاء بن أبي رباح، المولى الأسود، رفعه الله بالعلم، مكث في الحرم ثلاثين سنة يطلب العلم، ثم صار مفتي الناس مع تقشفه، وإخلاصه وورعه، وتبحره وإتقانه في الرواية، وفقهه في الدراية، فصار إماماً للناس... والحسن البصري المولى، جاهد في طلب العلم ومعرفة السنة، والصبر على الاشتغال بالأثر، مع ما رزقه من فصاحة ورجاحة، وملاحه فصار كلامه دواء للقلوب، وموعظه حياة للنفوس، وهو في ذلك واحد الناس زهداً وتواضعاً وإنابة، وخشية وورعاً، واستقامة، حتى رفعه الله في المحل الأسمى، وبوأه المكان الأعلى... والزهري محمد بن شهاب حافظ السنة، وإمام الناس في الحديث، طلب العلم مع الفقر والحاجة، وصبر وثابر وارتحل إلى العلماء، واعتنى بالحديث فصار أحفظ أهل زمانه، مع فقه ودراية وسخاء حاتمي، وكرم سارت به الركبان، فاستحق أن يكون أسمه في دواوين السنة مرموقاً وفي القلوب منقوشاً... وعامر الشعبي، الإمام الجامع للعلوم، كان قديم السلم وافر الحلم، كثير العلم، تبحر في السنة، وبرع في الأدب، مع ذهن وقاد، وقلب ذكي، وفهم ثاقب، حتى صار رسول خليفة عبد الملك إلى ملك الروم لعلمه وفهمه وبديهته، وفصاحته ونبله، وقوة شخصيته، وهو الذي يقول: " ما كتبت سوداء في بيضاء وما استودعت قلبي شيئاً فخانني، أي ما نسي علماً" ويقول: " لو أنشدتكم شهراً كاملاً شعراً ما أعدت بيتاً من غزارة حفظه"... وأبو حنيفة الفقيه الكبير، اجتهد في طلب العلم، ورزقه الله فهماً وذهناً خصباً، حتى صار الناس في الفقه عيال عليه، فقعد واستنبط، وصدف عن الدنيا، وأعرض عن المناصب، وفرق من القضاء، واكتفى ببيع البز، مع عبادة وزهد وخشوع وصدق وذكاء منقطع النظير... ومالك بن أنس إمام دار الهجرة، صاحب الموطأ الذي فاق الناس عقلاً، وأنفق عمره في طلب الحديث، حتى شهد له سبعون عالماً أنه أهل الفتيا، فصارت تضرب إليه أكباد الإبل، وتشد إليه الرحال، حباه الله بجلاله ووقار مع حسن سمت وجمال مظهر وسلامة مخبر... والشافعي إمام الآفاق الذي قعد القواعد، وأصل الأصول، سخر جسمه ووقته في طلب العلم، فحل وارتحل، وجال وصال حتى ضرب بعلمه الأمثال، وصار كالشمس للبلدان، والعافية للأبدان، مع صبره وشكره وزهده، وأدبه وفصاحته، ونبوغه، وعلو همته، ورجاحة عقله وسعة معارفه... وأحمد بن حنبل إمام السنة، وقامع البدعة، وبطل المحنة، طاف الأقطار وقطع القفار وجمع الآثار، مع الجوع الشديد والتعب المضني والفقر المدقع، والزهد الظاهر ثم ابتلاه الله بالمحنة، فحبس وجلد فما أجاب، فرفعه الله لعلمه وصبره وصدقه، حتى أصبح ذكره في الخالدين، وصار إماماً للناس أجمعين .. وعمر بن عبد العزيز الخليفة الزاهد العابد المجاهد، مجدد القرن الأول، عزف عن الدنيا وأعرض عن الشهوات وأقبل على العلم والعبادة والزهد والعدل، فأقام الله به السنة وقمع به البدعة، وأنار به طريق الإصلاح وجدد به معالم الفلاح، فهو إمام هدى، وعالم ملة، ورباني أمة... وسفيان الثوري زاهد زمانه، وعالم دهره، زهد في الفاني وأقبل على الباقي وحفظ الحديث، وجود الزاد، وأفتى وعلم وأمر ونهى ووعظ، ونصح بنية صادقة وعزيمة ماضية، وهو مع ذلك يحفظ أنفاسه ويربي جلاسه حتى أتاه اليقين... وعبد الله بن المبارك الذي جمع الله له المحاسن، فهو العالم العامل الزاهد العابد المجاهد المحدث الحافظ الغني المنفق الأديب الفصيح، طيب الذكر، عظيم القدر، منشرح الصدر دأب في الخير وصبر على التحصيل، وداوم على الفضائل، حتى جعل الله له من القبول ما يفوق الوصف... والإمام البخاري صاحب الصحيح، فتح الله عليه في العلم، فوصل الليل بالنهار في طلب الآثار حتى صار إمام الأقطار، فضرب بحفظه المثل، مع المعرفة التامة والفهم الدقيق، يزين ذلك خلق كريم وزهد مستقيم ثم ترك ميراثاً مباركاً في العلم في كتابه الصحيح الذي هو أجل كتاب بعد القرآن، فجزاه الله عن الأمة أفضل الجزاء، وأنزله الفردوس الأعلى... وقس على هذا الإمام مسلم صاحب الصحيح ومصنفي الصحاح والسنن والمسانيد والمعاجم من المحدثين الأخيار أهل الهمم الكبار... وانظر لسيبويه، إمام النحو الذي طاف البوادي وشافه العلماء، ثم ألف كتابه المسمى بالكتاب، فصار أعظم كتاب في النحو، وصار من بعده من النحاة عالة عليه، فاستحق الثناء واستوجب الشكر، ونزل منزلة سامية عند أهل الإسلام، لفرط ذكائه ولبراعته، ومئات النحاة تزينت بهم الكتب وأشرقت بهم المجالس، ولولا الإطالة لأشرت لكل واحد منهم، وإنما أكتفي بالأعيان ومن له ذكر وأثر وتفرد وتميز... وهذا محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير، جمع الفنون وصنف التصانيف، وحاز قصب السبق في تفسير كتاب الله حتى صار شيخ المفسرين، وصار كتابه أعظم كتاب في هذا الفن، فتداوله الملوك، وتباشرت به الأقطار، ونهلت من فيضه الأجيال، فهو مرجع كل مفسر، ومعتمد كل عالم لكتاب الله تعالى... وهذا ابن حبان صاحب الصحيح، المحدث الأعجوبة الذكي العبقري اللوذعي، طاف البلدان، وهجر الأوطان، وبرع في هذا الشأن، حتى روى عن ألفين من الشيوخ، ومن شاء فلينظر إلى كتابه الصحيح |