الموضوع: الإبتلاء
عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 03-26-2007, 12:55 AM
 
Post الإبتلاء

الإيمان دعوى، لابد أن يُقام الدليل على صدقها، وقد جعل الله ذلك الدليل متمثلاً في الصبر على ما يصيب المؤمن من نَصَبٍ وألم ولأواء، وما يطرأ عليه من نعم ومنح، يقول تعالى: الجم" (1) أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون (2) ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين (3) (العنكبوت).
وقد ينزل البلاء بالمؤمن والكافر، والمهتدي والفاسق، والصالح والطالح، فمن شكر فقد وفَّي بالحق، ومن كفر فإن الله غنيٌّ عن العالمين: إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا (2) إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا (3) (الإنسان).
والإنسان عامة يفرح عند ورود النعمة، ويجزع عند حلول المصيبة: فأما الإنسان إذا ما \بتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن 15 وأما إذا ما \بتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن 16 (الفجر)
أما المؤمن فله خصوصية ليست لبقية الناس، إنه يقف مع كل بلية نزلت به، ينظر بعين بصيرة، وفكر ثاقب، وعقل واعٍ، فيجد مع كل بلاء ثمرة، ومع كل محنة منفعة، ومن هذه الثمرات والمنافع:
1 إيقاظ النفوس وترقيق القلوب، ومادام الخير فيها مركوزًا، فإنها تتجه إلى الله، ترجو منه، وتتضرع إليه: الذين \ستجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم 172 الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل 173 فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم 174 (آل عمران) . فالمؤمنون بعد غزوة أحد كانوا مثخنين بالجراح؛ الجسدية منها والنفسية، وبرغم ذلك نهضوا استجابة لأمر النبي ص فأثنى الله عليهم خيرًا.
أما النفوس المريضة فتتخذ من الألم والمصائب ذريعة للتخلف والاعتذار، وربما لا يكون هناك ألم، وإنما هي لذة الراحة وحب الدنيا: ومنهم من يقول \ئذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين 49(التوبة).
2 استثارة عناصر المقاومة، وإذكاء نار التحدى، ورفع درجات الاستعداد واليقظة، فيظل المؤمن أبدًا رافعًا شعار "كن مستعدًا" وهو يعلم أن الابتلاء ربما أصابه اليوم أو غدًا.
وتأمل سحرة فرعون عقب إيمانهم وتهديد فرعون لهم، فما لانوا وما جزعوا، وإنما أصروا على الحق الذي آمنوا به واتبعوه، متحدِّين في ذلك الطاغوت. يقول الله تعالى: قالوا لن نؤثرك على" ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا 72 إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى" 73 (طه).
وتأمل سيرة بلال على بطحاء مكة وهو يعلن تحديه: "أحد أحد"، "لو أعلم كلمة هي أغيظ لهم منها لقلتها".
وانظر إلى عثمان بن مظعون بعدما كان يسير في جوار المشركين آمنًا، إذا به يرد جوارهم، فيناله الأذى، وتُفقأ عينه، فيُعيَّر أنه كان في عز ومنعة، فما تلكأ، وما اهتز، وإنما ثبت وأنشد:
فإن تك عيني أصابها
يد ملحد غي وليس بمهتد
فقد عوض الرحمن منا ثوابه
ومن يرضه الرحمن يا قوم يسعد
3 الابتلاءات تعلم المؤمنين ما جهلوا من سنن الدين والحياة، أو تذكرهم بما نسوا من ذلك: "فالمؤمن مهما عظمت بالله صلته لا ينبغي أن يغتر به، أو يحسب الدنيا دانت له، أو يظن قوانينها الثابتة طوع يديه.. كلا فالحذر البالغ، والعمل الدائم هما عدتا المسلم لبلوغ أهدافه المرسومة، ويوم يحسب المسلم أن الأيام كلها كتبت له، وأن شيئًا منها لن يكون عليه، وأن أمجاد الدارين تُنال دون بذل التكاليف الباهظة، فقد سار في طريق الفشل الذريع: إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين 140 وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين 141 أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين 142(آل عمران) (فقه السيرة للشيخ الغزالي 04).
4 والابتلاءات تميز الخبيث من الطيب: "فالدعوات إبان امتدادها وانتصارها تغري الكثيرين بالانضواء تحت لوائها، فيختلط المخلص بالمغرض، والأصيل بالدخيل، وهذا الاختلاط مضر أكبر الضرر بسِيَر الرسالات الكبيرة وإنتاجها، ومن مصلحتها الأولى أن تصاب برجّات عنيفة تعزل الخبَث عنها" (فقه السيرة للغزالي 99).
فالدعوات حال الأمن والرخاء والعافية وامتلاك منابر الدعوة من دون التعرض إلى التضييق أو الأذى والفتنة، ربما دخل فيها ظاهرًا من كان يكيد لها باطنًا، وربما تبوأ ذلك الدَّعيُّ مكانة أو وصل إلى درجة تمكنه من بث بذور الفتنة، أو بذر بذور الشقاق.
يقول الله تعالى: ما كان الله ليذر المؤمنين على" ما أنتم عليه حتى" يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعلكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم 179 (آل عمران).
والفارق بين النموذجين كبير؛ "فالخبيث يتلكأ ويختلق المعاذير، فقد عاش حياته فى رخاء، وهو غير مستعد لأن يستبدل بالرخاء شدة، ولا باليسر عسرًا، ولا بالنعمة شظفًا، ولا بالعافية ضرًا، ولا بالأمن خوفًا، أما الطيب فهو النموذج الصالح الذى يؤمن بقوله تعالى: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون 51 (التوبة)، وفى هذا تمحيص للصف، وتثبيت للمؤمنين، وطرد للأدعياء المنافقين" (الظلال 3 - 1337).
5 وليعلم الله الذين آمنوا (آل عمران:140)؛ فالمؤمن يثبت على إيمانه ويزيد، والمنافق ينكص ويحيد، وقد مدح الله المؤمنين في غزوة بدر ونصرهم لما علم من إيمانهم وانكسار قلوبهم بين يديه سبحانه: ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون 123 (آل عمران) فالله يحب أن "يستخرج عبودية المؤمنين في السراء والضراء، وفيما يحبون وما يكرهون، وفي حال ظفرهم وظفر أعدائهم بهم، فإن ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون فهم عبيده حقًا، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والنعمة والعافية". (زاد المعاد).
6 ويتخذ منكم شهداء آل عمران: 140) فمن فكر في عاقبة المحن، وأنه لو مات في سبيل دينه وعقيدته، فسيكون شهيدًا عند الله تعالى، وينال ما يناله الشهيد من: غفران الذنوب، والأمن من الفزع، والشفاعة لسبعين من أهل بيته، وسكن جنة عرضها السماوات والأرض..إلخ فلن تجزع نفسه أو تخور عزيمته، وإنما يُقْدمُ ويصبر.
7 وليمحص الله الذين آمنوا (آل عمران: 141) فالتجارب العملية هي التي تربي الإنسان، وهي التي تظهر مدى استعداده الحقيقي لمجابهة القوارع التي تنزل به وبدينه وأمته، فليست الأماني هي محك الحكم على الإنسان، وإنما هو ميدان العمل والجهاد.
يقول تعالى: ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى" إذ قالوا لنبي لهم \بعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين 246 (البقرة).
"والتمحيص درجة بعد الفرز والتمييز، التمحيص عملية تتم في داخل النفس، وفي مكنون الضمير، إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية، وتسليط الضوء على هذه المكنونات، تمهيدًا لإخراج الدخل والدغل والأوشاب، وتركها نقية واضحة مستقرة على الحق بلا غبش ولا ضباب، وكثيرًا ما يجهل الإنسان نفسه ومخابئها ودروبها ومنحنياتها، وكثيرًا ما يجهل حقيقة ضعفها وقوتها، وحقيقة ما استكن فيها من رواسب، لا تظهر إلا بمثير.
ولقد يظن الإنسان في نفسه القدرة والشجاعة والتجرد والخلاص من الشح والحرص، ثم إذا هو يكشف على ضوء التجربة العملية، وفي مواجهة الأحداث الواقعية أن في نفسه عقابيل لم تمحّص، وأنه لم يتهيأ لمثل هذا المستوى من الضغوط، ومن الخير أن يعلم هذا من نفسه، ليعاود المحاولة في سبكها من جديد، على مستوى الضغوط التي تقتضيها طبيعة هذه الدعوة، وعلى مستوى التكاليف التي تقتضيها هذه العقيدة" (في ظلال القرآن 1 - 482 483).
وهذا أمر عظيم، ينبغي أن تفطن إليه القيادة الرشيدة للجماعة المسلمة، "فلا يجوز أن تضع خططها على أساس ما تسمعه من الرغبات والأماني من أعضائها الدعاة أو الأنصار والمؤيدين، فالرغبة في الشيء شيء، والقيام به وبمتطلباته شيء آخر" (المستفاد من قصص القرآن للدعوة والدعاة 2 - 198 199 للدكتور عبد الكريم زيدان).
8 ويمحق الكافرين 141 (آل عمران)، وهي من أدق الفوائد التي لا يشعر بها أصحاب الدعوات كثيرًا، فالله تعالى: "إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم، قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم، ومبالغتهم في أذى أوليائه، ومحاربتهم، وقتالهم، والتسلط عليهم، فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم" (زاد المعاد 2 - 100).
9 صلاح النفوس وتهذيبها، فلو بسط الله لعباده النصر كما يبسط لهم الرزق لبغوا، وطغت نفوسهم، ولكنه سبحانه أعلم بعباده: ما يصلحهم، وما يفسدهم ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير 14 (الملك)، "فلا يصلح عباده إلا السراء والضراء، والشدة والرخاء، والقبض والبسط" (زاد المعاد 2 - 100).
فالخير لا يعلمه إلا الله، ورب محنة انقلبت إلى منحة، وكم من رزية لو فكر في عواقبها صاحبها لعلم أنها هدية: والله يعلم وأنتم لا تعلمون 19 (النور).
10 ومن أعظم ثمرات الابتلاء الحصول على تأييد المؤمنين، بعد تأييد الله تعالى، ويكون ذلك بزيادة مستوى الحب والترابط بين أصحاب العمل الإسلامى، بل وبين المسلمين جميعًا، وانظر إلى المحن والابتلاءات التي تنزل بالمسلمين في المشارق والمغارب، كيف قاربت بين القلوب، وألّفت بين النفوس، "فالمصائب يجمعن المصابينا"، فأصبحنا نرى النصرة بالدعاء للمسلمين في فلسطين والعراق وكشمير والشيشان وغيرها من بلدان المسلمين، وذلك كله بسبب المحنة أو البلية التي نزلت بهذا البلد أو ذاك، فوحدت بين القلوب والمشاعر، وإن ظلت الأجساد متباعدة، يقول تعالى: وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين 62 وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم 63 (الأنفال).
ويكفي من ذلك تعاطف الناس مع الفكرة الإسلامية وتأييدهم لها، تجد ذلك واضحًا في أي انتخابات يخوضها الدعاة إلى الله بقصد الإصلاح والتغيير، فتشعر حينئذ من التفاف الجماهير وهتافاتهم للإسلام ومنهجه وصلاحيته للتطبيق براحة في الضمير، واطمئنان وثقة بنصر الله تعالى وإن تأخر إلا أنه حتميّ الوقوع ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز 40 (الحج).
11 تفجير الطاقات وبروز الكفاءات: فمن المعلوم أن النفوس تكتسب من الرخاء والعافية الدائمة ركونًا إلى الدنيا "فالرخاء ينسى، والمتاع يلهي، والثراء يطغي، فإذا أراد الله تبارك وتعالى بها خيرًا ذكرها بالابتلاء والشدة، استحياء لها بالألم، والألم خير مهذِّب، وخير مفجّر لينابيع الخير المستكنة، وخير مرْهف للحساسية في الضمائر الحية، وخير موجه إلى ظلال الرحمة التي تنسم على الضعاف المكروبين نسمات الراحة والعافية في ساعات العسرة والضيق لعلهم يضرعون" (في ظلال القرآن 3 - 1337).
وانظر كيف كان رسول الله ص يستخرج هذه الينابيع من نفوس أصحابه في مواطن الشدائد، فتبرز الآراء، والتوجيهات، وتبزغ القدرة على العطاء، وتطفو المواهب المستكنة فتعلن عن نفسها في وضوح، فهذا سلمان يصدع يوم الأحزاب بخندقه، وهذا نعيم بن مسعود يبرز بدهائه وحكمته، وذاك حذيفة يُختار من بين الجموع لرويته وحسن تصرفه، والتاريخ مليء بأمثال هؤلاء.
12 غفران الذنوب وتكفير السيئات، فقد روى الترمذي عن سعد عن أبيه قال: قلت يا رسول الله: أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل حسب دينه، فإن كان في دينه صُلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلى على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد وما عليه من خطيئة".
13 التذكير بالله تعالى، وبالرجوع إليه، يقول تعالى: وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون 168 (الأعراف). فتوالي الابتلاء سواءً أكان بالخير أم الشر رحمة من الله بالعباد، وتذكير دائم لهم، ووقاية من النسيان المؤدي إلى الاغترار والبوار. فلعل من ابتُلي بالحسنات أن يشكر، والشكر يقتضي الاعتراف بالمنعم جل جلاله، وبفضله وعطائه ومَنِّه، ومن ابتلي بالسيئات عليه أن يصبر، والصبر نصف الإيمان فلا جزع ولا يأس.
يقول الإمام البنا (رحمه الله): "وهل تنضج الموهبة، ويصفو الجوهر النقي إلا بين المنحة والمحنة؟ وتلك سنة الله تبارك وتعالى في تنشئة الأفراد وتربية الأمم، وسبيل أصحاب الدعوات، من اصطنَع لنفسه من عباده، وصُنع على يديه من خلقه ليكونوا أئمة يهدون بأمره ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون 35 (الأنبياء) مجلة الدعوة العدد 82 - ص 43).
وتأمل قصة أصحاب الجنة في القرآن إذ جاء في آخرها: قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون 28 قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين 29 فأقبل بعضهم على" بعض يتلاومون 30 قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين 31 عسى" ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى" ربنا راغبون 32 (القلم). فكان الابتلاء في حقهم رحمة من الله بهم؛ فلو تركهم وما تآمروا عليه من قطع الخير ومنعه عن الآخرين ولم يبتلهم تذكيرًا لهم ولقلوبهم، لضلوا وماتوا على ضلالهم، فكان المنع موجبًا للعطاء بعد ذلك، ورحم الله ابن عطاء حينما قال: "ربما أعطاك فمنعك وربما منعك فأعطاك" ولو تفكر المرء في المنع وأسبابه "لصار المنع هو عين العطاء".
14 اليقين الجازم أن هذا هو طريق الأنبياء والمرسلين، والدعاة والمصلحين، وفي قصص القرآن العبرة للدعاة إلى الله من أجل تثبيت القلوب وطمأنة النفوس، فما من نبي إلا أوذي في سبيل دعوته يقول تعالى: وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى" للمؤمنين 120 (هود: 120)، فمن أراد التمكين فلا بد من البلاء، وقد سُئل أحد أئمة المسلمين: أيمكّن المرء أولاً أم يُبتلى؟ فقال: لا يمكّن المرء حتى يبتلى".
ولله در الإمام البنا رحمه الله وقد قرأ بعين نافذة وبصر ثاقب صفحات الماضي فصاغ منها نظرته إلى المستقبل، يقول: "لا زالت دعوتكم مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها، ستلقي منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية، وستدخلون بذلك ولا شك في دور التجربة والامتحان، فستُسجنون وتُعتقلون وتُشردون، وتُصادر مصالحكم، وتُعطل أعمالكم، وتُفتش بيوتكم.. وقد يطول بكم الامتحان، ولكن الله وعدكم بعد هذا كله نُصرة المجاهدين، ومثوبة العاملين المحسنين، فهل أنتم مصرون على أن تكونوا أنصار الله؟" (مجموعة الرسائل).
15 فتح آفاق جديدة وأماكن جديدة للعمل الإسلامي، فما من دعوة يُضيّق عليها في أرضها ووسط أهلها، إلا والتمست كسب أرض جديدة أفضل مناخًا للعمل والعطاء. فحينما ضُيِّق على الدعوة الأولى في مكة هاجر المسلمون إلى الحبشة، وهناك أسلم النجاشي، وأمِنَ الناس على دينهم، ونشروا بين الناس كلمة الحق فأسلم خلق كثيرون.
والحركة الإسلامية المعاصرة ضُيّق عليها في بلادها ووسط أهلها، فهاجر رجالها يلتمسون الأمن في أماكن أخرى، فإذا بدعوتهم الآن تنتشر في أرجاء الأرض.
يقول الإمام البنا في آخر ما كتبه رحمه الله : "ويعود إخوانكم من البعثات العلمية أو من الرحلات التجارية في إنجلترا أو أمريكا أو فرنسا أو غيرها من بلاد الغرب المتهالكة على المادة المتهافتة على الطغيان، فإذا بهم قد أنشأتهم المرحلة نشأة أخرى، وسمعوا ورأوا من حديث الناس هناك عنكم واهتمامكم بشأنكم والتعليق على جهادكم وجهودكم، بما يجعلهم يستشعرون التقصير في حق الدعوة، ويعتزمون بذل الجهد وفوق الجهد في العمل لها والجهاد في سبيلها، ولقد سمعت أحدهم بالأمس القريب يخاطبني في حماسة ويحادثني في قوة وحزم، فيقول: يا أخي، والله إننا لسنا مجهولين إلا في وطننا، ولا مغموطين إلا في أرضنا، فإذا أراد الناس أن يعرفونا، بل إذا أردنا نحن أن نعرف أنفسنا ومدى تأثير دعوتنا، فعلينا أن نرحل إلي هذه الأقطار، ونجوس خلال تلك الأمصار، ونستمع إلى أهل تلك الديار في مجالسهم الخاصة أو مجامعهم العامة، وسنرى من ذلك العجب العاجب، والقول اللازب، فأقول له: لا بأس عليك فقديمًا قيل: "وزامر الحي لا يحظي بإطراب"، وليس لنبي كرامة في وطنه وبين عشيرته، وسيدرك قومنا بعد ذلك من نحن وماذا نصنع؟ والعاقبة للمتقين ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز 40 (الحج) مجلة الدعوة- العدد 82).
__________________